الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَبَٰرَكۡنَا عَلَيۡهِ وَعَلَىٰٓ إِسۡحَٰقَۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحۡسِنٞ وَظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ مُبِينٞ} (113)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وباركنا عليه} على إبراهيم.

{وعلى إسحاق ومن ذريتهما} إبراهيم وإسحاق {محسن} مؤمن.

{وظالم لنفسه} يعني مشرك {مبين}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إسحَاقَ" يقول تعالى ذكره: وباركنا على إبراهيم وعلى إسحاق.

"وَمِنْ ذُرّيّتِهِما مُحْسِنٌ "يعني بالمحسن: المؤمن المطيع لله، المحسن في طاعته إياه. "وَظالِمٌ لنَفْسِهِ مُبِينٌ" ويعني بالظالم لنفسه: الكافر بالله، الجالب على نفسه بكفره عذابَ الله وأليم عقابه، "مبين": يعني الذي قد أبان ظلمَه نفسَه بكفره بالله.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

البركة هي اسم لكل خير لا يزال على الزيادة والنماء.

يحتمل أن يكون: {مُحسِن} إلى نفسه، أو محسن إلى الناس.

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

البركة هاهنا: كثرة الولد. ويقال: البركة كثرة الأنبياء في أولادهما.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

قرئ: «وبَرَّكْنا» أي: أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا.

{وظالم لّنَفْسِهِ} نظيره: {قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِي؟ قَالَ: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر، فقد يلد البر الفاجر، والفاجر البر. وعلى أن الظلم في أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة، وأنّ المرء يعاب بسوء فعله ويعاتب على ما اجترحت يداه، لا على ما وجد من أصله أو فرعه.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في تفسير هذه البركة وجهان؛

الأول: أنه تعالى أخرج جميع أنبياء بني إسرائيل من صلب إسحاق.

والثاني: أنه أبقى الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى يوم القيامة، لأن البركة عبارة عن الدوام والثبات.

وظالم لنفسه مبين: وفي ذلك تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن، لئلا تصير هذه الشبهة سببا لمفاخرة اليهود.

دخل تحت قوله: {محسن} الأنبياء والمؤمنين وتحت قوله: {ظالم} الكافر والفاسق.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

أنزلنا عليهما البركة، التي هي النمو والزيادة في علمهما وعملهما وذريتهما، فنشر اللّه من ذريتهما ثلاث أمم عظيمة: أمة العرب من ذرية إسماعيل، وأمة بني إسرائيل، وأمة الروم من ذرية إسحاق.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

تتلاحق من بعدهما ذريتهما، ولكن وراثة هذه الذرية لهما ليست وراثة الدم والنسب إنما هي وراثة الملة والمنهج: فمن اتبع فهو محسن. ومن انحرف فهو ظالم لا ينفعه نسب قريب أو بعيد.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

البركة زيادة الخير في مختلف وجوهه و {على} للاستعلاء المجازي، أي تمكُّن البركةِ من الإِحاطة بهما.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

(بركة) مشتقّة من (برك) على وزن (درك) وتعني صدر البعير، وعندما يضع صدره على الأرض يقال (برك البعير) وتدريجيّاً أعطت هذه الكلمة معنى الثبات وبقاء شيء ما، ولهذا يطلق على المكان الذي فيه ماء ثابت ومستقر (بركة) في حين يقال لمّا كان خيره باقياً وثابتاً مبارك، ومن هنا يتّضح أنّ الآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهيّة على إبراهيم وإسحاق وعلى اُسرتهم.

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَبَٰرَكۡنَا عَلَيۡهِ وَعَلَىٰٓ إِسۡحَٰقَۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحۡسِنٞ وَظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ مُبِينٞ} (113)

" وباركنا عليه وعلى إسحاق " أي ثنينا عليهما النعمة وقيل كثرنا ولدهما ، أي باركنا على إبراهيم وعلى أولاده ، وعلى إسحاق حين أخرج أنبياء بني إسرائيل من صلبه . وقد قيل : إن الكناية في " عليه " تعود على إسماعيل وأنه هو الذبيح . قال المفضل : الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل ، وذلك أنه قص قصة الذبيح ، فلما قال في آخر القصة : " وفديناه بذبح عظيم " ثم قال : " سلام عل إبراهيم . كذلك نجزي المحسنين " قال : " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين . وباركنا عليه " أي على إسماعيل " وعلى إسحاق " كنى عنه ؛ لأنه قد تقدم ذكره . ثم قال : " ومن ذريتهما " فدل على أنها ذرية إسماعيل وإسحاق ، وليس تختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة .

قلت : قد ذكرنا أولا ما يدل على أن إسحاق أكبر من إسماعيل ، وأن المبشر به هو إسحاق بنص التنزيل ، فإذا كانت البشارة بإسحاق نصا فالذبيح لا شك هو إسحاق ، وبشر به إبراهيم مرتين : الأولى بولادته والثانية بنبوته . كما قال ابن عباس . ولا تكون النبوة إلا في حال الكبر و " نبيا " نصب على الحال والهاء في " عليه " عائدة إلى إبراهيم وليس لإسماعيل في الآية ذكر حتى ترجع الكناية إليه . وأما ما روي من طريق معاوية قال : سمعت رجلا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : يا ابن الذبيحين ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم . ثم قال معاوية : إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم ، نذر لله إن سهل عليه أمرها ليذبحن أحد ولده لله ، فسهل الله عليه أمرها ، فوقع السهم على عبد الله ، فمنعه أخواله بنو مخزوم ، وقالوا : افد ابنك ، ففداه بمائة من الإبل وهو الذبيح ، وإسماعيل هو الذبيح الثاني فلا حجة فيه ؛ لأن سنده لا يثبت على ما ذكرناه في كتاب الأعلام في معرفة مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام ؛ ولأن العرب تجعل العم أبا ، قال الله تعالى : " قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق " [ البقرة : 133 ] وقال تعالى : " ورفع أبويه على العرش " [ يوسف : 100 ] وهما أبوه وخالته . وكذلك ما روي عن الشاعر الفرزدق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لو صح إسناده فكيف وفي الفرزدق نفسه مقال .

السابعة عشرة- قوله تعالى : " ومن ذريتهما محسن وظالم " لما ذكر البركة في الذرية والكثرة قال : منهم محسن ومنهم مسيء ، وإن المسيء لا تنفعه بنوة النبوة ؛ فاليهود والنصارى وإن كانوا من ولد إسحاق ، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل ، فلا بد من الفرق بين المحسن والمسيء والمؤمن والكافر ، وفي التنزيل : " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " [ المائدة : 18 ] الآية ، أي أبناء رسل الله فرأوا لأنفسهم فضلا . وقد تقدم{[13294]} .


[13294]:راجع ج 6 ص 120 طبعة أولى أو ثانية.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَبَٰرَكۡنَا عَلَيۡهِ وَعَلَىٰٓ إِسۡحَٰقَۚ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحۡسِنٞ وَظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ مُبِينٞ} (113)

ولما أثنى على إبراهيم عيله السلام بما عالج مما لم يحصل لغيره مثله ، وكان من أعظم جزاء الإنسان البركة في ذريته قال : { وباركنا عليه } أي على الغلام الحليم وهو الذبيح المحدث عنه الذي جر هذا الكلام كله الحديث عنه ، وكان آخر ضمير محقق عاد عليه الهاء في " وفديناه " ثم في " وتركنا عليه في الآخرين " وهذا عندي أولى من إعادة الضمير على إبراهيم عليه السلام لأنه استوفى مدحه ، ثم رأيت حمزة الكرماني صنع هكذا وقال : حتى كان محمد صلى الله عليه وسلم والعرب من صلبه . { وعلى إسحاق } أي أخيه ، قال حمزة الكرماني : حتى كان إسرائيل الله والأسباط من صلبه ، وقال غيره : خرج من صلبه ألف نبي أولهم يعقوب وآخرهم عيسى عليه السلام .

( ومن ذريتهما } أي الأخوين ولا شك أن هذا أقرب وأقعد من أن يكون الضمير للأب والابن ، لأن قران الأخوين في الإخبار عن ذريتهما أولى من قران الابن مع أبيه في ذلك ، فيكون الابن حينئذ من جملة المخبر عنه بذرية الأب { محسن وظالم لنفسه } حيث وضعها بما سبب عن المعاصي في غير موضعها الذي يحبه ، وهذا مما يهدم أمر الطبائع حيث كان البر يوجد من الفاجر والفاجر يوجد من البر .

ولما كان الإنسان ، وإن اجتهد في الإحسان ، لا بد أن يحتاج إلى الغفران ، لما له من النقصان ، لأن رتبة الإلهية لا تصل إلى القيام بحقها العوائق البشرية ، بين أن الظلم المراد هنا إنما هو التجاوز في الحدود بغاية الشهوة فقال : { مبين * } وأما غير ذلك فمغفور كما قرر في نحو { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } " ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة " { وأن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم }[ النساء : 31 ] .

قصة ذبح إبراهيم لولده عليهما السلام من التوراة وبيان أنهم بدلوها ، قال مترجمهم : فغرس إبراهيم ببئر سبع غرساً ، وبنى هنالك باسم الرب إله العالمين ، وسكن إبراهيم أرض فلسطين - يعني عند تلك البئر - أياماً كثيرة . ولما كان من بعد هذه الخطوب امتحن الله إبراهيم ، وقال له : يا إبراهيم ! فقال : لبيك ، فقال له : انطلق بابنك الوحيد إسحاق الذي تحبه إلى أرض الأمورانيين - وفي نسخة : إلى بلدة العبادة - وأصعده إليّ قرباناً على أحد تلك الجبال الذي أقول لك ، فأدلج إبراهيم باكراً فأسرج حماره وانطلق بغلاميه وإسحاق ابنه ، وشق حطباً للقربان ونهض وانطلق إلى الموضع الذي قال الله له ، وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم بصره ونظر إلى ذلك الموضع من بعيد فقال لغلاميه : امكثا هاهنا عند الحمار ، وأنا والغلام ننطلق إلى هاهنا نصل ونرجع إليكما ، فأخذ إبراهيم حطب القربان ، وحمله إسحاق ابنه ، وأخذ معه ناراً وسكيناً ، وانطلقا كلاهما جميعاً ، وقال إسحاق لأبيه إبراهيم : يا أبة ، فقال له : لبيك ، فقال له : هذه النار والحطب ، أين حمل القربان ، فقال إبراهيم : الله يعد لنا حملاً للقربان يا بني ، فانطلقا جميعاً حتى انتهيا الى الموضع الذي قال الله ، فبنى هنالك إبراهيم مذبحاً ونضد عليه الحطب وكتف إسحاق فوضعه في أعلى المذبح على الحطب ، ومد يده إبراهيم فأخذ السكين ليذبح ابنه ، فدعاه ملاك الرب من السماء وقال : يا إبراهيم يا إبراهيم ، فقال : لبيك ! فقال : لا تبسط يدك على الغلام ولا تصنع به شيئاً لأنك قد أظهرت الآن أنك تتقي الله إذ لم تمنعني ابنك الوحيد ، فمد إبراهيم بصره فإذا كبش معلق في شجرة بقرنيه ، فانطلق إبراهيم فأخذ الكبش فأصعده قرباناً بدل ابنه اسحاق ، فسمى إبراهيم ذلك الموضع " الله يتجلى " كما يقال : الله في هذا الجبل ، الله يتجلى ، فدعا ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال : بي أقسمت ، يقول الرب : بدل ما صنعت هذا الصنيع ولم تمنعني ابنك الوحيد لأباركنك بركة تامة ولأكثرن نسلك مثل كواكب السماء ، ومثل الرمل الذي على شاطئ البحر ويرث زرعك أراضي أعدائي وفي نسخة : أعداءه - ويتبارك بنسلك جميع الشعوب لأنك أطعتني ، فرجع إبراهيم إلى غلاميه وانصرفوا جميعاً إلى بئر السبع وأقام ثمًّ - وفي نسخة : وسكن إبراهيم بئر السبع - انتهى ما عندهم بلفظه فانظر إليه واجمع بينه وبين ما تقدم في البقرة من قصة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام تجدهم قد بدلوها بلا شك ، لأن الكلام ينقض بعضه بعضاً ، وذلك أنه قال في هذه القصة " انطلق بابنك الوحيد " وكرر وصفه بالوحيد في غير موضع ، وهذا الوصف إنما يكون حقيقة لإسماعيل عليه السلام وهو دون البلوغ ، وأما إسحاق عليه السلام فلم يكن وحيداً ساعة من الدهر ، بل ولد وإسماعيل عليه السلام ابن ثلاث عشرة سنة ونيف بشهادة ما عندهم من التوراة ، وقوله في آخر القصة " ويتبارك بنسلك جميع الشعوب " لا يكون في غاية الملاءمة إلا لإسماعيل عليه السلام ، وأما إسحاق عليه السلام فإنما بورك بنسله الأراضي المقدسة فقط ، ولم يتبعهم من غيرهم إلا قليل ، بل كانوا هم في كل قليل يتبعون غيرهم على عبادة أوثانهم بشهادة توراتهم وأسفار أنبيائهم يوشع بن نون ومن بعده عليهم السلام ، وأما نسل إسماعيل عليه السلام فتبعهم على الدين الحق من جميع الأمم ما لا يحصى عدده ولم يتبعوا هم بعد محمد صلى الله عليه وسلم أحداً من الأمم على عبادة غير الله - هذا وفي المتقدم في سورة البقرة أن هبة سارة أمتها هاجر رضي الله عنها لإبراهيم عليه السلام كان بعد أن سكن كنعان بعشر سنين ، وأن إسماعيل عليه السلام ولد لإبراهيم عليه السلام وهو ابن ست وثمانين سنة ، وأن الله تعالى أمره بالختان وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وأنه في ذلك الوقت بشر بإسحاق عليه السلام ، فختن إسماعيل عليه السلام وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ثم ولد له إسحاق عليه السلام وقد أتى عليه مائة سنة ، ثم قال ما نصه : وصنع إبراهيم يوم فطم إسحاق ابنه مأدبة عظيمة فأبصرت سارة ابن هاجر المصرية المولود لإبراهيم عليه السلام لاعباً ، فقالت لإبراهيم عليه السلام : أخرج هذه الأمة عني ، لأن ابن الأمة لا يرث مع إسحاق ابني ، فشق هذا الأمر على إبراهيم لمكان ابنه ، فقال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام : لا يشقن عليك حال الصبي وأمتك ، أطع سارة في جميع ما تقول لأن نسلك إنما يذكر بإسحاق ، وابن الأمة أجعله لشعب كثير لأنه من ذريتك ، فغدا إبراهيم عليه السلام باكراً وأخذ خبزاً وأداوة من ماء ، فأعطاها هاجر وحملها الصبي والطعام - إلى آخر ما في البقرة فقوله " إن هاجر طردت بعد فطام إسحاق وابنها تحمل " لا يصح ، وقد تقدم أن عمره يوم فطام إسحاق خمس عشرة سنة ، وتقدم أيضاً أن سارة أمرته بطردها وهي حبلى ، وأنه سلمها لها فطردتها ، وان الملك لقيها فبشرها بإسماعيل ولم يذكر في نسختي - وهي قديمة جداً - شيئاً يدل على رجوعها ، وأما في نسخة عندهم فقال : إن الملك قال لها : ارجعي إلى سيدتك واستكدي تحت يدها - ولم يذكر أنها رجعت ، وقد صح الخبر عندنا بقول نبينا صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم عليه السلام وضع هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام ، عند البيت الحرام وهو يرضع ، واستمرا هناك إلى أن ماتت هاجر رضي الله عنها ، وتزوج إسماعيل عليه السلام وبنى البيت مع أبيه عليهما السلام ، وقوله " لأن نسلك إنما يذكر بإسحاق عليه السلام " غير مطابق للواقع ، فإن شهرة العرب بإبراهيم عليه السلام إن لم تكن أكثر من شهرة بني إسحاق بذلك فهي مثلها ، وخبر الله لا يتخلف ، فدل هذا كله أنهم بدلوا القصة وحرفوها ، فلا متمسك فيها لهم ، ودلالتها على أن الذبيح إسماعيل عليه السلام أولى من دلالتها على غير ذلك لوصفه بالوحيد - والله أعلم كيف كانت القصة قبل التبديل ؟ ومما يدل على ما فهمت من تبديلهم لها ما قال البغوي : قال القرظي يعني محمد بن كعب - : سأل عمر بن عبد العزيز رجلاً كان من علماء اليهود أسلم وحسن إسلامه : أي ابني إبراهيم عليه السلام أمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل يا أمير المؤمنين ! إن اليهود لتعلم ذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله بذبحه ما كان ، ويزعمون أنه أبوهم ، ومن الدليل على أنه إسماعيل عليه السلام أن الله تعالى لما بشر بإسحاق بشر بأنه يولد له يعقوب ، فلا يليق الامتحان به بعد علمه بأنه لا يموت حتى يولد له ، ومن الدليل على ذلك أن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل عيله السلام إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في زمان ابن الزبير والحجاج ، قال الشعبي : رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : والذين نفسي بيده ! لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة ، وقال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح : إسحاق كان أو إسماعيل ؟ فقال : يا أصيمع ! أين ذهب عقلك ؟ متى كان إسحاق بمكة ؟ إنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بني البيت مع أبيه - انتهى ما قال البغوي .

وفي كتاب الحج من سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان - وهو الحجبي رضي الله عنه : " إني نسيت أن آمرك أن تخمر القرنين فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي " ورواه عبد الرزاق في جامعه ولفظه أن عثمان بن شيبة رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " إني رأيت قرني الكبش فنسيت أن آمرك أن تخمرهما فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصلياً " - هكذا قال : عثمان بن شيبة ، ولعله ابن طلحة ، فيكون المتقدم ويكون تسمية أبيه شيبة وهما ، أو يكون شيبة بن عثمان وهو ابن عم الذي عند أبي داود فانقلب - والله أعلم ، وروى عبد الرزاق أيضاً عن ابن جريح قال : أخبرنا عبد الله بن شيبة بن عثمان ، وسألته هل كان في البيت قرنا كبش ؟ قال : نعم ، كانا فيه ، قلت : أرأيتهما ؟ قال : حسبت ، ولكن أخبرني عبد الله بن بابيه أن قد رآهما ، قال : وغيره قد رآهما فيه ، قال : ويقولون : إنهما قرنا الكبش الذي ذبح إبراهيم عليه السلام ، قال ابن جريج وقالت صفية ابنة شيبة : كان فيه قرنا الكبش ، قال ابن جريح : وحدثت أن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانا فيه . قال : وحدثت عن عجوز قلت : رأيتهما فيه ، ومما يؤيد القول بأنه إسماعيل عليه السلام وصف الله تعالى له بأنه صادق الوعد ، ولا صدق في وعد أعظم من صدقه في وعده بالصبر على الذبح ، وممن قال من بني إسرائيل أنه إسماعيل عليه السلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه - حكاه عن ابن الجوزي ، وعد القائلين بكل من القولين من الصحابة وغيرهم فقال : إن القائلين بأنه إسحاق : عمر وعلي والعباس وابن مسعود وأبو موسى وأبو هريرة وأنس رضي الله عنهم ، وبأنه إسماعيل : ابن عمر ، وأن الرواية اختلفت عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فروى عنه عكرمة أنه إسحاق ، وعطاء ومجاهد والشعبي وأبو الجوزاء ويوسف بن مهران أنه إسماعيل ، فعلم من هذا رجحان القول بأنه إسماعيل ، لأن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما تأخرا بعد من ذكر من أكابر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فلولا أنه رجح عندهما ما خالفا أبويهما ، ونقل عكرمة عن ابن عباس بموافقة أبيه لا يقدح في ذلك بل يؤيده لأن الأكثر كما ترى رووا عنه الثاني ، فلولا أنه صح عنده ما رجع عن الأول الذي هو موافق لرأي أبيه ، ولأجل ثباته عليه اشتهر عنه - والله أعلم .