الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ} (17)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ ثم كان من الذين آمنوا } بالله تعالى وملائكته ، وكتبه ورسله وجنته وناره { وتواصوا بالصبر } يعني على فرائض الله تعالى ما افترض عليهم في القرآن ، فإنهم إن لم يؤمنوا بالله ، ولم يعملوا الصالحات ، ولم يصبروا على الفرائض ، لم أقبل منهم كفاراتهم وصدقاتهم ، ثم ذكر الرحم ، فقال :{ وتواصوا بالمرحمة } يعني بالمرحمة ، يعني بالرحم ، فلا يقطعونها...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

ثم كان هذا الذي قال : "أهْلَكْتُ مالاً لُبَدا" من الذين آمنوا بالله ورسوله ، فيؤمن معهم كما آمنوا "وَتَواصَوْا بالصّبْرِ" يقول : وممن أوصى بعضهم بعضا بالصبر على ما نابهم في ذات الله "وَتَوَاصَوْا بِالمَرْحَمَةِ" يقول : وأوصى بعضهم بعضا بالمرحمة ،...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

فتأويله أنه لا ينفعه فك الرقبة ولا إطعام حتى يكون مؤمنا مع ذلك متواصيا بالصبر والرحمة . فإذا كان كذلك فحينئذ يجعل قاطعا للعقبة ...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{ ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءَامَنُواْ } جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة ، لا في الوقت ؛ لأن الإيمان هو السابق المقدّم على غيره ، ولا يثبت عمل صالح إلاّ به . والمرحمة : الرحمة ، أي : أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه . أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن ، وبأن يكونوا متراحمين متعاطفين . أو بما يؤدي إلى رحمة الله .

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

[ وتواصوا بالصبر ] معناه : على طاعة الله تعالى وبلائه وقضائه ، وعن الشهوات والمعاصي . و [ المرحمة ] قال ابن عباس رضي الله عنه : كل ما يؤدي إلى رحمة الله تعالى ، وقال آخرون : هو التراحم وعطف بعض الناس على بعض ، وفي ذلك قوام الناس ، ولو لم يتراحموا هلكوا .

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ ثم كان } أي بعد التخلق بهذه الأخلاق الزاكية العالية النفيسة الغالية في حال كفره أو مبادئ إسلامه للدلالة على صفاء جبلته وجودة عنصره من الراسخين في الإيمان المعبر عنه بقوله : { من الذين آمنوا } أي عند ما دعاه إليه الهادي ، ولم تحمله حمية الأنف وشماخة النفس على الإباء عن أن يكون تابعاً بعد ما كان متبوعاً ، وسافلاً في زعمه إثر ما كان رفيعاً ، بل سدد النظر وقوم الفكر فأيقن أنه يعلي نفسه من الحضيض إلى ما فوق السهى ، يرقيها في درج المعالي إلى ما ليس له انتهاء ، { إن في ذلك لآيات لأولي النهى }[ طه : 54 ، 128 ] فحينئذ يعلم استقامة طبعه وكرم غريزته وعليَّ همته وحسن نيته وجميل طويته وغزارة عقله وجلالة نبله وفضله واستحقاقه التقدم على الأعلام في الجاهلية والإسلام ،... { وتواصوا } أي صبروا وأوصى بعضهم بعضاً { بالصبر } في اقتحام عقبات الأعمال التي لا يجوزها إلا أبطال الرجال من الأمر بالمعروف إلى ما دونه وإن كان فيه الحتوف ، فإن الشجاعة كما قيل صبر ساعة ....{ وتواصوا بالمرحمة } أي الرحمة العظيمة بحسب زمانها ومكانها بأن يوطنوا أنفسهم على كل ما يحمل على الرحمة العظيمة التي توجب لهم الحب في الله والبغض فيه لأنهم كانوا قبل الإيمان خالصين عن الرياء والإعجاب متهيئين للتزكية فزكاهم الإيمان ، فصاروا في غاية النورانية والعرفان . ...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

و( ثم )هنا ليست للتراخي الزمني ، إنما هي للتراخي المعنوي باعتبار هذه الخطوة هي الأشمل والأوسع نطاقا والأعلى أفقا . وإلا فما ينفع فك رقاب ولا إطعام طعام بلا إيمان . فالإيمان مفروض وقوعه قبل فك الرقاب وإطعام الطعام . وهو الذي يجعل للعمل الصالح وزنا في ميزان الله ....

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وخص بالذكر من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر وتواصيهم بالمرحمة لأن ذلك أشرف صفاتهم بعد الإِيمان ، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها لأنها لا تخلو من كبح الشّهوة النفسانية وذلك من الصبر . والمرحمة ملاك صلاح الجامعة الإسلامية قال تعالى : { رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] . والتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة ، وهو أيضاً كناية عن اتصافهم بالمرحمة....وفيه تعريض بأن أهل الشرك ليسوا من أهل الصبر ولا من أهل المرحمة ...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وبهذا السياق القرآني لبيان طبيعة العقبة نفهم أن القادرين على اجتيازها هم المتحلون بالإيمان والخلق الكريم كالتواصي بالصبر والرحمة ، وذوو أعمال البّر والإحسان كتحرير العبيد وإطعام الأيتام والمساكين ، إنّهم بعبارة اُولئك الذين يلجون ميادين الإيمان والأخلاق والعمل ويخرجون منها ظافرين منتصرين . العطف بالحرف «ثمّ » لا يعني دائماً التأخير الزمني ، أي لا يعني أن عملية الإطعام والإنفاق يجب أن تتقدم على الإيمان ، بل إن هذا الحرف في مثل هذه الموارد كما صرّح بذلك جمع من المفسّرين لبيان علو المرتبة ، إذ من المؤكّد أنّ رتبة الإيمان والتوصية بالصبر والمرحمة أسمى وأعلى من مساعدة المحتاجين ، بل الأعمال الصالحة تنبثق من ذلك الإيمان وتلك الأخلاق ، وكلّ ما يفعله الإنسان تجد جذوره في معتقداته وأخلاقياته . واحتمل بعضهم أن «ثمّ » تفيد هنا التأخير الزمني ، لأن أعمال الخير قد تكون منطلقاً للتوجه نحو الإيمان ، وهي بخاصة ذات تأثير في ترسيخ دعائم الأخلاق ، إذ أن أخلاق الإنسان تبدأ بشكل «فعل » ثمّ تتحول إلى «حالة » ثمّ تتحول إلى «عادة » ثمّ تصبح «ملكة » . والتعبير بكلمة «تواصوا » وتعني تبادل التوصية ، لها دلالة اجتماعية هامّة ، هي إن عملية التواصي بالسير على طريق الحق وبالاستقامة على طاعة اللّه ومكافحة جموح الأهواء النفسية ، وبالحبّ والرحمة ليست عملية فردية يل يجب أن يتخذ طابعاً اجتماعياً عامّاً في كلّ المجتمع الإيماني، وكلّ الأفراد مسؤولون أن يوصي بعضهم الآخر بحفظ هذه الأصول . وعن هذا الطريق أيضاً تتعمق عرى التلاحم والاجتماعي . وقال بعضهم إنّ «الصبر » في الآية إشارة إلى توطين النفس على طاعة اللّه والاهتمام بأوامره ، و«المرحمة » إشارة إلى علاقة الودّ مع النّاس ، ونعلم أن أساس الدين هو تنظيم هذه الرابطة بين العبد وربّه ، وبين الإنسان وأخيه الإنسان . ...

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ} (17)

قوله تعالى : " ثم كان من الذين آمنوا " يعني : أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبة ، أو أطعم في يوم ذا مسغبة ، حتى يكون من الذين آمنوا ، أي صدقوا ، فإن شرط قبول الطاعات الإيمان بالله . فالإيمان بالله بعد الإنفاق لا ينفع ، بل يجب أن تكون الطاعة مصحوبة بالإيمان ، قال الله تعالى في المنافقين : " وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله{[16083]} " . [ التوبة : 54 ] . وقالت عائشة : يا رسول الله ، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم الطعام ، ويفك العاني ، ويعتق الرقاب ، ويحمل على إبله لله ، فعل ينفعه ذلك شيئا ؟ قال : [ لا ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ] . وقيل : " ثم كان من الذين آمنوا " أي فعل هذه الأشياء وهو مؤمن ، ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة ؛ نظيره قوله تعالى : " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى{[16084]} " [ طه : 82 ] . وقيل : المعنى ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى . وقيل : أتى بهذه القرب لوجه الله ، ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقد قال حكيم بن حزام بعدما أسلم ، يا رسول الله ، إنا كنا نتحنث{[16085]} بأعمال في الجاهلية ، فهل لنا منها شيء ؟ فقال عليه السلام : [ أسلمت على ما أسلفت من الخير ] . وقيل : إن " ثم " بمعنى الواو ، أي وكان هذا المعتق الرقبة ، والمطعم في المسغبة ، من الذين آمنوا . " وتواصوا " أي أوصى بعضهم بعضا . " بالصبر " أي بالصبر على طاعة الله ، وعن معاصيه ، وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب . " وتواصوا بالمرحمة " بالرحمة على الخلق ، فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين .


[16083]:آية 54 سورة التوبة.
[16084]:آية 82 سورة طه.
[16085]:أي نتقرب إلى الله.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡاْ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ} (17)

ولما كانت هذه الأفعال خيراً في نفسها تدل على جودة الطبع وعلو الهمة وكرم العنصر وإباء النفس إشارة إلى شدة حسنها لأنه لا يوفق لها إلا مخلص وإن كان غير مستند إلى شرع وإلى ما يفيده من سلالة الطبع وسهولة الانقياد وإلى عظمة الإيمان بالتعبير بأداة التراخي في قوله مشيراً إلى العقبة الثانية وهي الحكمة المزكية للقوة النطقية : { ثم كان } أي بعد التخلق بهذه الأخلاق الزاكية العالية النفيسة الغالية في حال كفره أو مبادىء إسلامه للدلالة على صفاء جبلته وجودة عنصره من الراسخين في الإيمان المعبر عنه بقوله : { من الذين آمنوا } أي عند ما دعاه إليه الهادي ، ولم تحمله حمية الأنف وشماخة النفس على الإباء عن أن يكون تابعاً بعد ما كان متبوعاً ، وسافلاً في زعمه إثر ما كان رفيعاً ، بل سدد النظر وقوم الفكر فأيقن أنه يعلي نفسه من الحضيض إلى ما فوق السهى ، يرقيها في درج المعالي إلى ما ليس له انتهاء ،

{ إن في ذلك لآيات لأولي النهى }[ طه : 54 ، 128 ] فحينئذ يعلم استقامة طبعه وكرم غريزته وعليَّ همته وحسن نيته وجميل طويته وغزارة عقله وجلالة نبله وفضله واستحقاقه التقدم على الأعلام في الجاهلية والإسلام ، ولذلك كان الصديق رضي الله تعالى عنه أعلى الناس درجة بعد النبيين عليهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام ، لأن هذه كانت أفعاله رضي الله تعالى عنه قبل الإسلام كما قال ابن الدغنة حين وجده قد خرج من مكة المشرفة يريد الهجرة حين آذاه الكفار : إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج ، إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكلَّ وتعين على نوائب الحق - كما قالت خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم حين رجع إليها ترجف بوادره من تجلي جبريل عليه الصلاة والسلام له سواء ، فلما سرب في رحيب مسربه ، وشرب من صافي مشربه توفيقاً من الله تعالى لم يتلعثم حين دعاه إلى الدين ولا كانت عنده كبوة ولا تردد ، ثم ترقى في درجات الإسلام إلى أعلى مرام بحيث قال يوم الحديبية لعمر رضي الله عنهما حين أظهر الكراهة للصلح ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم سواء حرفاً بحرف من غير أن يكون حاضره أو ينقل إليه كلامه ، فسار حينئذ حائزاً قصب السبق ، لا مطمع في مداناته ، فكيف بلحاقه ومساواته ، ولكماله وعظمته وجلاله لم يشرب قط خمراً ، وكان إذا ليم على ذلك في الجاهلية قال لعشراء : والله لو وجدت شيئاً يزيد في عقلي لاشتريته بجميع مالي فكيف أشتري بمالي ما يزيل عقلي . وتلك الأعمال لا تصح وإن كانت ممدوحة في كل حال إلا بالإيمان ، أما إن كانت بعده فواضح ، وأما إن كانت قبله فبانعطافه عليها كما قال صلى الله عليه وسلم : " أسلمت على ما سلف منك من خير " .

ولما كان الإيمان معلياً للإنسان عن درك الهوان إلى عظم الشأن ، حاملاً له على محاسن الأعمال ومكارم الأفعال ، وذلك أنه يقود إلى جميع شرائع الدين العظيمة الشأن ، وكانت موجبة للجهاد الأكبر من حيث مخالفتها للطبع ، وكان ذلك غير مقدور عليه إلا بالشجاعة وهي القوة الثالثة التي إذا هدئت أراحت ، وكانت لا تكون إلا بعظيم الصبر ، وكان الصبر لمرارته لا يدوم إلا بالتعاون قال تعالى : { وتواصوا } أي صبروا وأوصى بعضهم بعضاً { بالصبر } في اقتحام عقبات الأعمال التي لا يجوزها إلا أبطال الرجال من الأمر بالمعروف إلى ما دونه وإن كان فيه الحتوف ، فإن الشجاعة كما قيل صبر ساعة .

ولما كان الإنسان لا بد أن يعرض له من غيره من الخلاف ما يوجب قسوته عليه ، فكانت الرحمة من ثمرات الاصطبار المثمر للعدالة ، وهي التوسط بين مذمتي الإفراط والتفريط في الفسق والبله وهي العقبة الرابعة ، قال مؤكداً بإعادة العامل إشارة إلى قلة العاملين بها : { وتواصوا بالمرحمة * } أي الرحمة العظيمة بحسب زمانها ومكانها بأن يوطنوا أنفسهم على كل ما يحمل على الرحمة العظيمة التي توجب لهم الحب في الله والبغض فيه لأنهم كانوا قبل الإيمان خالصين عن الرياء والإعجاب متهيئين للتزكية فزكاهم الإيمان ، فصاروا في غاية النورانية والعرفان .