جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الله الذي إليه مرجعكم أيها الناس جميعا هُوَ "الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأَرْضَ في سِتّةِ أيّامٍ "يقول: أفيعجز من خلق ذلك من غير شيء أن يعيدكم أحياء بعد أن يميتكم؟ وقيل: إن الله تعالى ذكره خلق السموات والأرض وما فيهنّ في الأيام الستة، فاجتزى في هذا الموضع بذكر خلق السموات والأرض من ذكر خلق ما فيهنّ...
وقوله: "وكانَ عَرْشُهُ على المَاءِ" يقول: وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض وما فيهن...
وقوله: "لَيَبْلُوَكُمْ ايّكمْ أحْسَنُ عَمَلا" يقول تعالى ذكره: وهو الذي خلق السموات والأرض أيها الناس، وخلقكم في ستة أيام، "ليبلوكُمْ" يقول: ليختبركم، "أيّكم أحسنُ عملاً" يقول: أيكم أحسن له طاعة...
حدثنا عن داود بن المحبر، قال: حدثنا عبد الواحد بن زيد، عن كليب بن وائل، عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنه تلا هذه الآية: "ليَبْلُوَكُمْ أيّكُمْ أحْسَنُ عَمَلاً "قال: «أيّكُمْ أحْسَنُ عَقْلاً، وأوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللّهِ وأسْرَعُ فِي طاعَةِ اللّهِ»...
وقوله: "وَلَئِنْ قُلْتَ إنّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنّ الّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن قلت لهؤلاء المشركين من قومك إنكم مبعوثون أحياء من بعد مماتكم فتلوت عليهم بذلك تنزيلي ووحيي، ليقولن "إن هذا إلا سحر مبين" أي: ما هذا الذي تتلوه علينا مما تقول "إلا سحر" لسامعه، "مبين" حقيقته أنه سحر...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
اخبر الله تعالى أنه خلق السماوات والأرض وأنشأهما في ستة أيام، وإنما خلقهما في هذا المقدار من الزمان مع قدرته أن يخلقهما في أقل من لمح البصر ليبين بذلك أن الأمور جارية في التدبير على منهاج، ولما علم في ذلك من مصالح الخلق من جهة اقتضاء أن ينشئها على ترتيب يدل على أنها كانت عن تدبير عالم بها قبل فعلها مثل سائر الأفعال المحكمة...
" وكان عرشه على الماء ليبلوكم "معناه أنه خلق الخلق ودبر الأمر ليظهر إحسان المحسن، لأنه الغرض الذي يجري بالفعل إليه...
وقوله "ليبلوكم "معناه ليعاملكم معاملة المبتلي المختبر مظاهرة في العدل لئلا يتوهم أنه يجازي العباد بحسب ما في المعلوم أنه يكون منهم قبل أن يفعلوه...
وظاهر الآية يقتضي أن العرش الذي تعبد الله الملائكة بحمله كان مخلوقا قبل السموات والأرض، وهو قول جميع المفسرين: كابن عباس ومجاهد وقتادة والبلخي والجبائي والرماني والفراء والزجاج وغيرهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
"لَيَبْلُوَكُمْ ايّكمْ أحْسَنُ عَمَلا"؛ وأَحْسَنُ الأعمالِ موافَقةُ الأمرِ، ولم يَقُلْ: أكثر عملاً. ويقال: أحسنُ الأعمالِ: ما كان صاحبُه أشدَّ إخلاصاً فيه. ويقال: أحسنُهم عملاً: أبعدُهم عن ملاحظة أعماله. ويقال: أحسنُ الأعمالِ: ما ينظر إليه صاحبُه بعين الاستصغار. ويقال: أحسنُ الأعمالِ: ما لا يَطلبُ صاحبُه عليه عِوَضاً. ويقال: أحسنُ الأعمالِ: ما غابَ عنه صاحبُه لاستغراقه في شُهود المعبود.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {لِيَبْلُوَكُمْ} متعلق بخلق، أي خلقهن لحكمة بالغة، وهي أن يجعلها مساكن لعباده، وينعم عليهم فيها بفنون النعم، ويكلفهم الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال: ليبلوكم. يريد: ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون.
فإن قلت: كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ قلت: لما في الاختبار من معنى العلم؛ لأنه طريق إليه فهو ملابس له، كما تقول: انظر أيهم أحسن وجهاً واسمع أيهم أحسن صوتاً؛ لأنّ النظر والاستماع من طريق العلم. فإن قلت كيف قيل: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، فأمّا أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتها إلى حسن وقبيح؟ قلت: الذين هم أحسن عملا هم المتقون، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله من عباده، فخصهم بالذكر واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم منه، وليكون ذلك لطفاً للسامعين، وترغيباً في حيازة فضلهم...
"ولئن قلت إنكم مبعوثون"...أي: ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون، بمعنى: توقعوا بعثكم وظنوه، ولا تبتوا القول بإنكاره، لقالوا: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} باتِّين القول ببطلانه. ويجوز أن تضمن «قلت» معنى «ذكرت». ومعنى قولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أنّ السحر أمر باطل، وأن بطلانه كبطلان السحر تشبيهاً له به. أو أشاروا بهذا إلى القرآن لأن القرآن هو الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره. وقرىء: «إن هذا إلا ساحر»، يريدون الرسول، والساحر: كاذب مبطل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... معنى الآية: أن الله عز وجل هذه صفاته وهؤلاء بكفرهم في حيز إن قلت لهم: إنهم مبعوثون كذبوا وقالوا: هذا سحر. أي فهذا تناقض منكم إذ كل مفطور يقر بأن الله خالق السماوات والأرض، فهم من جملة المقرين بهذا، ومع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور إذ البداءة أعسر من الإعادة، وإذ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.
اعلمْ أنه تعالى لمّا أثبت بالدليل المتقدِّم كونَه عالماً بالمعلومات، أثبت بهذا الدليل كونَه تعالى قادرا على كل المقدورات وفي الحقيقة فكلُّ واحد من هذين الدليلين يدلّ على كمال علمِ الله وعلى كمال قدرتِه...
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}... واعلم أنه تعالى لَمّا بيَّن أنه خَلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلَّفين وامتحانِهم فهذا يوجِب القطعَ بحصول الحشر والنشر، لأن الابتلاء والامتحان يوجِب تخصيصَ المحسِن بالرحمة والثوابِ وتخصيصَ المسيءِ بالعقاب، وذلك لا يتمُّ إلا مع الاعتراف بالمَعاد والقيامة، فعند هذا خاطَب محمَّداً عليه الصلاة والسلام وقال: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ولم يقل: أكثرُ عملاً بل {أَحْسَنُ عَمَلاً} ولا يكون العمل حَسَناً حتى يكون خالصا ًلله عز وجل، على شريعةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فمتى فَقَدَ العملُ واحداً من هذين الشرطين بَطَلَ وحَبِطَ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان خلق ما منه الرزق أعظم من خلق الرزق وتوزيعه في شمول العلم والقدرة معاً، تلاه بقوله: {وهو} أي وحده {الذي خلق} أي أوجد وقدر {السماوات والأرض} وحده لم يشركه في ذلك أحد كما أنتم معترفون {في ستة أيام} ولما كان خلق العرش أعظم من ذلك كله فإن جميع السماوات والأرض بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة. وأعظم من ذلك أن يكون محمولاً على الماء الذي لا يمكن حمله في العادة إلا في وعاء ضابط محكم، تلاه بقوله: {وكان} أي قبل خلقه لذلك {عرشه} مستعلياً {على الماء} ولا يلزم من ذلك الملاصقة كما أن السماء على الأرض من غير ملاصقة. وقد علم من هذا السياق أنه كان قبل الأرض خلق فثبت أنه وما تحته محمولان بمحض القدرة من غير سبب آخر قريب أو بعيد، فثبت بذلك أن قدرته في درجات من العظمة لا تتناهى، وهذا زيادة تفصيل لما ذكر في سورة يونس عليه السلام من أمر العرش لأن هذه سورة التفصيل ونبه بقوله تعالى معلقاً ب "خلق ": {ليبلوكم} أي أنه خلق ذلك كله لكم سكناً كاملاً بمهده وسقفه من أكله وشربه وكل ما تحتاجونه فيه وما يصلحكم وما يفسدكم ومكنكم من جميع ذلك والحكمة في خلق ذلك أنه يعاملكم معاملة المختبر، ودل على شدة الاهتمام بذلك بسوقه مساق الاستفهام في قوله: {أيكم} أي أيها العباد {أحسن عملاً} على أنه فعل هذه الأفعال الهائلة لأجل هذه الأمور التي هم لها مستهينون وبها مستهزئون، وعلق فعل البلوى عن جملة الاستفهام لما فيه من معنى العلم لأنه طريق إليه، روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: أنفق عليك"، وقال: "يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يده، وكان عرشه على الماء،. وبيده الميزان يخفض ويرفع" وفي الآية حث على محاسن الأعمال والترقي دائماً في مراتب الكمال من العلم الذي هو عمل القلب والعمل الظاهر الذي هو وظيفة الأركان.
ولما ثبت -بيده الخلق الذي هم به معترفون- القدرة على إعادته، وثبت بالابتلاء أنه لا تتم الحكمة في خلق المكلفين إلا بإعادتهم ليجازي كلاًّ من المحسن والمسيء بفعاله وأنهم ما خلقوا إلا لذلك. عجب من إنكارهم له وأكده لذلك فقال: {ولئن قلت} أي لهؤلاء الذين ما خلقت هذا الخلق العظيم إلا لابتلائهم {إنكم مبعوثون} أي موجودون، بعثكم ثابت قطعاً لا بد منه.
ولما كان زمن البعث بعض الزمن قال: {من بعد الموت} الذي هو في غاية الابتداء {ليقولن} أكده دلالة على العلم بالعواقب علماً من أعلام النبوة {الذين كفروا إن} أي ما {هذا} أي القول بالبعث {إلا سحر مبين} أي شيء مثل السحر تخييل باطل لا حقيقة له أو خداع يصرف الناس عن الانهماك في اللذات للدخول في طاعة الأمر.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} من أيام الله تعالى في الخلق والتكوين وما شاء من الأطوار، لا من أيامنا في هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق لا قبله، فلا يصح أن تقدر أيام الله بأيامها كما توهم الغافلون عن هذا وما يؤيده من قوله: {وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} [الحج: 47] وقوله: {تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة} [المعارج: 4] وقد ثبت في علم الهيئة الفلكية أن أيام غير الأرض من الدراري التابعة لنظام شمسنا هذه تختلف عن أيام هذه الأرض في طولها، بحسب اختلاف مقادير أجرامها وأبعادها وسرعتها في دورانها، وأن أيام التكوين بخلقه من الدخان المعبر عنه بالسديم شموسا مضيئة؛ تتبعها كواكب منيرة، يقدر اليوم منها بألوف الألوف من سنينا بل من سني سرعة النور أيضا، وقد سبق مثل هذه الجملة في سورتي الأعراف 7: 54 ويونس 11: 3 وذكر بعدها استواء الخالق تعالى على عرشه، وتدبيره لأمر ملكه.
وأما هنا فقال بعدها فيهما {وكان عرشه على الماء} أي وكان سرير ملكه في أثناء هذا الطور من خلق هذا العالم أو من قبله على الماء. وقد بينا في تفسير آيتي الأعراف ويونس المشار إليهما آنفا أن المعنى الكلي المفهوم من العرش أنه مركز نظام الملك ومصدر التدبير له، وأن المتبادر في الاستعمال اللغوي استعمالهم: استوى على عرشه بمعنى ملك أو استقام أمر الملك له؛ وثُل عرشه بمعنى هلك وزال ملكه، ونحن نعلم أن عروش ملوك البشر تختلف مادة وشكلا وهي من عالم الشهادة وصنع أيدي البشر، كذلك يختلف النظام للتدبير الذي يصدر عنها، وهو من جنس ما يعلم البشر في عالمنا هذا، فعرش ملكة سبأ العربية العظيم، كان أعظم من عرش سليمان ملك إسرائيل، ولكن تدبيرها وحكمها الشوري كان دون حكمه الشرعي الديني، ورب عرش من الذهب، وعرض من الخشب، وأما عرش الرحمان عز وجل فهو من عالم الغيب الذي ندركه بحواسنا، ولا نستطيع تصويره بأفكارنا، فأجدر بنا أن لا نعلم كنه استوائه عليه، وصدور تدبيره لأمر هذا الملك العظيم عنه، وحسبنا أن نفهم الكناية، ونستفيد العبرة، فما أجهل الذين تصدوا لتأويل هذه الحقائق الغيبية، بأقيستهم وآرائهم البشرية. وما أحسن ما روي عن أم سلمة رضي الله عنه وربيعة ومالك رحمه الله من قولهم: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، الخ ما تقدم في تفسير آية الأعراف.
وأما قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء} فنفهم منه أن الذي كان دون هذا العرش من مادة هذا الخلق قبل تكوين السماوات والأرض في أثنائه هو هذا الماء، الذي أخبرنا عز وجل أنه جعله أصلا لخلق جميع الأحياء، إذ قال: {أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون} [الأنبياء: 30] الرؤية هنا علمية والمعنى ألم يعلموا ما ينبغي أن يعلموه من أن السماوات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة لا فتق فيها ولا انفصال- وهي ما يسمى في عرف علماء الفلك بالسديم وبلغة القرآن بالدخان –ففتقناهما بفصل بعضهما من بعض، فكان منها ما هو سماء ومنها ما هو أرض، وجعلنا من الماء في المقابلة لحياة الأحياء كل شيء حي، أفلا يؤمنون والأمر كذلك بأن الرب الفاعل لهذا هو الذي يعبدون وحده ولا يشرك به شيء، وأنه قادر على إعادة الخلق كبدئه؟
فيفهم من هذا وذاك أن الذي كان تحت العرش فيتنزل إليه أمر التدبير والتكوين منه هو الماء، الذي هو الأصل لجميع الأحياء لا ما يخيله بعض المفسرين الفنيين في الماء والعرش، مما تأباه اللغة والعقل والشرع، والعبارة ليست نصا في أن ذات العرش المخلوق كان على متن الماء كالسفن التي نراها راسية فيه الآن كما قيل، فإن فائدة الإخبار بمثل هذا إن كان واقعا في ذلك العهد هو دون فائدة ما ذكرنا من معنى العرش الذي بيناه، وهو الذي يزيدنا معرفة بربنا وبحكمه في خلقه، وهو الذي يتفق مع نظريات علم التكوين وعلم الحياة وعلم الهيئة الفلكية وما ثبت من التجارب فيها، ويخالف أتم المخالفة ما كان معروفا عند أمم الحضارة من قواعد علم الفلك القديمة ونظرياته المسلمة. وبهذا يعد من عجائب القرآن، التي تظهر في كل زمان بعد زمان.
ثم علل سبحانه وتعالى خلقه لما ذكر ببعض حكمه الخاصة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن فقال: {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} أي ليجعل ذلك بلاء أي اختبارا وامتحانا لكم فيظهر أيكم أحسن إتقانا لما يعمله، ونفعا له وللناس به، وذلك أنه سخر لكم كل شيء وجعلكم مستعدين لإبراز ما أودعه فيه من المنافع والفوائد المادية والمعنوية، ومن حكم خالقه ورحمته بعباده فيه، ومستعدين للإفساد والضرر به، ليجزي كل عامل بعمله وإنما يتم ذلك في الآخرة، وقد سبق لنا تفصيل هذا البلاء في تفسير {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} [الأنعام: 165] وغيره.
{ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت} أي وتالله لئن قلت للناس فيما تبلغهم من وحي ربهم: إنكم ستبعثون من بعد موتكم ليجزيكم ربكم بعملكم فيما بلاكم به {ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} [النجم: 31] فإنه ما خلقكم سدى، ولا سخر لكم هذا العالم واستخلفكم فيه عبثا {ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} أي ليجيبنك الذين كفروا وكذبوا بلقاء الله قائلين: ما هذا الذي جئتنا به من هذا القرآن لتسخرنا به لطاعتك إلا سحر بين ظاهر، تسحر به العقول، وتسخر به الضمائر والقلوب، فتفرق به بين المرء وأخيه، وأمه وأبيه، وعشيرته التي تؤويه، معتقدين بسلطان بلاغته أنهم سيموتون ثم يبعثون، ويجزون بكل ما يفعلون {هيهات هيهات لما توعدون} [المؤمنون: 36].
علاوة في آيات التكوين وما فيها من إعجاز القرآن العلمي...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}... قال الفضيل بن عياض رحمه الله:"أخْلَصُه وأَصْوَبُه" قيل يا أبا علي: "ما أَخْلَصُه وأَصْوَبُه "؟. فقال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً، لم يُقْبَلْ. وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقْبَلْ، حتى يكون خالصاً صواباً. والخالص: أن يكون لِوَجْه الله، والصواب: أن يكون متَّبعا فيه الشَّرع والسُّنّة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).. والسياق يظهر كأن خلق السماوات والأرض في ستة أيام -مع سيطرة الله سبحانه على مقاليده- كان من أجل ابتلاء الإنسان. ليَعْظُمَ هذا الابتلاءُ ويَشعرَ الناسُ بأهميتهم وبجدّيّة ابتلائهم. وكما جهَّز الخالقُ هذه الأرضَ وهذه السماواتِ بما يَصلُح لحياة هذا الجنس، جهَّز هذا الجنسَ كذلك باستعداداتٍ وطاقاتٍ؛ وبنى فطرتَه على ذات القانون الذي يَحْكُم الكونَ؛ وترك له جانبا اختياريا في حياته، يَملِك معه أن يتجه إلى الهدى فيُعينه الله عليه ويهديه، أو أن يتجهَ إلى الضلال فيمدّ الله له فيه، وترَك الناسَ يعملون، لِيَبْلُوَهُمْ أيُّهم أحسنُ عملاً...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ}... {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}... ربْط الحديث عن خَلق السماوات والأرض، بإثارة التسابُق نحو العمل الأحسَن، ينطلق من الدَّوْرِ المميَّز لموقع الإنسان في عملية الخلق هذه، ومِن تحمُّلِه المسؤوليّةَ بعد أن تَحَدَّدَ للخلق معناه على مستوى الغاية التي تُخرِجه من العبَثيّة الجامدة. وإذا كان الإنسان مَدعُوّاً إلى المبادرة نحو العمل الأحسن، فإن ذلك لا يُمثِّل الحالة النهائية، بل يعُتبر انطلاقةً إيمانيّةً نحو المواقع الجديدة في الآخِرة، لِيَقف الإنسانُ هناك عند حدود مصيرِه، من خلال طبيعة عملِه في الدنيا...