7 { وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . . . } الآية .
تشير الآية : إلى أن خلق الكون قد مر بفترات زمنية طويلة جدا ، ولم يكن في ذلك الوقت شمس أو قمر ، أو ليل أو نهار ، ويرى بعض المفسرين أن معنى الآية : في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا .
ونجد القرآن الكريم : { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } . ( الحج : 47 ) .
ويقول سبحانه : { في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } . ( المعارج : 4 ) .
ويقول عز شأنه : { في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون } ( السجدة : 5 ) .
وقد فسر بعضهم خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، على أنها تعني : مراحل ، أو فترات طويلة ، أو عصور .
وفي الآيات9 12 من سورة فصلت ، يقول سبحانه :
{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِين *ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ }
{ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَ أَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } . ( النازعات : 27 33 ) .
ويقول بعض المفسرين : أن الدحو غير الخلقة ، فيمكن أن تكون الأرض قد خلقت غير مدحوة ثم أتم الله خلق السماء ، وبعد ذلك أتم خلق الأرض فدحاها ، ويسر لها الماء والمرعى والجبال ، والتأمل في الآيات العديدة ، التي تحدثت عن خلق السماوات والأرض ، وعن خلق الكون ، يجعلنا نخلص إلى النقاط الآتية :
1 وجود مراحل ستة للخلق عموما .
2 تداخل مراحل خلق السماوات مع مراحل الأرض .
3 خلق الكون ابتداء من كومة أولية فريدة ، كانت تشكل كتلة متماسكة ، انفصلت أجزاؤها بعد ذلك .
4 تعدد السماوات وتعدد الكواكب التي تشبه الأرض .
5 وجود خلق وسيط بين السماوات والأرض .
6 إن المطابقة واضحة بين مفهوم السديم الأولى في العلم الحديث ، والدخان على حسب القرآن للدلالة على الحالة الغازية للمادة التي كونت الكون في هذه المرحلة الأولى .
{ وكان عرشه على الماء } . تفيد آيات أخرى : أن الماء أصل جميع الحياة والأحياء . قال تعالى : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } ( الأنبياء : 30 ) .
وفي صحيح مسلم : عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء ) . 4
قال مجاهد : { وكان عرشه على الماء } قبل أن يخلق شيئا .
وقال ابن عباس : إنما سمّى العرش عرشا ؛ لارتفاعه .
وعن سعيد بن جبير : سئل ابن عباس عن قول الله : { وكان عرشه على الماء } ؛ على أي شيء كان الماء ؟ قال : على متن الريح . 5
شغلت هذه المسألة الإنسان في كل العصور سواء ما كان يخصه منها أو ما يخص الكائنات المحيطة به ، وعندما يواجه القرآن أصل الحياة على مستوى عام تماما ، فإنه يذكر ذلك بإيجاز بالغ مثل قوله : { أولم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } . ( الأنبياء : 30 ) .
والرتق : ضد الفتق ، ومعنى{ كانتا رتقا } . أي : كانتا ملتصقتين ، ففتق الله هذه من هذه ، فرفع الله السماء ووضع الأرض وفصل بينهما بالهواء ، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ، قال تعالى : { وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا تؤمنون } . والعبارة يمكن أن تعني : أن كل شيء مصدره الماء كمادة جوهرية ، أو أن أصل كل شيء حي هو الماء ويتفق هذان المعنيان تماما مع العلم ، فالثابت بالتحديد أن أصل الحياة مائي ، وأن الماء هو العنصر الأول لكل خلية حية ، فلا حياة ممكنة بلا ماء ، وإذا ما نوقشت إمكانية الحياة على كوكب ما ، فإن أول سؤال يطرح هو : أيحتوي هذا الكوكب على كمية كافية للحياة عليه ؟ وتسمح المعطيات الحديثة بالاعتقاد بأن أقدم الكائنات الحية كانت تنتمي إلى عالم النبات ؛ فقد اكتشفت طحالب ترجع إلى ما قبل العصر الكمبري ، أي : في أقدم الأراضي المعروفة ، ولابد أن عناصر عالم الحيوان قد ظهرت بعد ذلك بقليل ، وقد أتت أيضا في المحيطات .
وتشير كلمة ماء إلى : ماء السماء ، كما تعني : ماء المحيطات أو أي سائل آخر ، وبالمعنى الأول ؛ فالماء هو العنصر اللازم لأي حياة نباتية .
قال تعالى : { وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى } . ( طه : 53 ) .
إن كلمة ماء بمعناها الثاني ، أي : ذلك الذي يعنى : ( سائل ) دون أي تحديد ، مستخدمة في شكلها غير المحدد للدلالة على ما هو أصل تشكل أي حيوان .
قال تعالى : { والله خلق كل دابة من ماء } . ( النور : 45 ) .
وتنطبق كلمة ماء هنا أيضا على : السائل المنوي6 وسواء كان المقصود هو أصل الحياة عموما أو العنصر الذي يجعل النباتات تولد في التربة ، أو كان المقصود هو : بذرة الحيوان ؛ فإن كل عبارات القرآن تتفق تماما مع المعطيات العلمية الحديثة ، ولا مكان مطلقا في نص القرآن لأي خرافة من الخرافات التي كانت منتشرة في عصر تنزيل القرآن الكريم . 7
ويمكن أن تدل جملة : { وكان عرشه على الماء } ، على معنى : وكان ملكه قائم وثابت لأصل هذا الكون وأساس كل شيء في هذه الحياة ، وهو مدلول : كان الله ولا شيء معه ؛ فهو سبحانه أول بلا ابتداء ، وآخر بلا انتهاء ، وهو الذي أوجد الخلق من العدم ، وهو يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، ويكون معنى { وجعلنا من الماء كل شيء حي } . أي : أصل كل الأحياء .
أخرج الإمام أحمد : عن أبي هريرة قال : يا رسول الله ، إني رأيتك ، طابت نفسي ، وقرت عيني ! فأنبئني عن كل شيء ؛ قال : ( كل شيء خلق من ماء ) ، قال : قلت : أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة ؟ قال : ( أفش السلام وأطعم الطعام ، وصل الأرحام ، وقم بالليل والناس نيام ؛ ثم ادخل الجنة بسلام ) ، 8 وفي نهاية المطاف نجد أن المسلم مطالب بالإيمان بالمحكم ، والتفويض إلى الله في المتشابه ، والتسليم بصدق ما أخبر به القرآن ، وإن عجز العقل المحدود عن تحديد المقصود .
قال تعالى : { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ } . ( آل عمران : 7 ) .
جاء في تفسير المراغي لهذه الآية :
والخلاصة : أن الماء أصل جميع الأحياء وهو الذي ينزل إليه أمر التدبير والتكوين . 9
خلاصة ما ورد في تفسير المنار للسيد رشيد رضا :
{ وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } . من أيام الله تعالى في الخلق والتكوين وما شاء من الأطوار ، لا من أيامنا في هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق لا قبله ، فلا يصح أن تقدر أيام الله بأيامها كما توهم الغافلون عن هذا وما يؤيده من قوله : { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } . ( الحج : 47 ) . وقوله : { تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة } . ( المعارج : 4 ) . وقد ثبت في علم الهيئة الفلكية أن أيام غير الأرض من الدراري التابعة لنظام شمسنا هذه تختلف عن أيام هذه الأرض في طولها ، بحسب اختلاف مقادير أجرامها وأبعادها ، وسرعتها في دورانها ، وأن أيام التكوين بخلقه من الدخان المعبر عنه : بالسديم شموسا مضيئة ، تتبعها كواكب منيرة يقدر اليوم منها بآلاف الألوف من سنينا ، بل من سني سرعة الضوء أيضا .
{ وكان عرشه على الماء } . أي : وكان سرير ملكه في أثناء هذا الطور من خلق هذا العالم أو من قبله على الماء .
والمعنى : الكلي المفهوم من العرش : أنه مركز نظام الملك ، ومصدر التدبير له ، وأن المتبادر في الاستعمال اللغوي استعمالهم : استوى على عرشه بمعنى : ملك أو استقام أمر الملك له ، وثل عرشه : بمعنى : هلك وزال ملكه . ونحن نعلم أن عروش ملوك البشر تختلف مادة وشكلا وهي من عالم الشهادة ، وصنع أيدي البشر ، كذلك يختلف النظام للتدبير الذي يصدر عنها فعرش ملكة سبإ العربية العظيم ، كان أعظم من عرش سليمان ملك إسرائيل ، ولكن تدبيرها وحكمها الشورى ( الديمقراطي ) كان دون حكمه الشرعي الديني ، ورب عرش من الذهب ، وعرش من الخشب ، وأما عرش الرحمان عز وجل فهو من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسنا ، ولا نستطيع تصويره بأفكارنا ، فأجدر بنا ألا نعلم كنه استوائه عليه ، وصدور تدبيره لأمر هذا الملك العظيم عنه ، وحسبنا أن نفهم الجملة 10 ونستفيد العبرة فما أجهل الذين تصدوا لتأويل هذه الحقائق الغيبية بأقيستهم وآرائهم البشرية ، وما أحسن ما روى عن أم سلمة رضي الله عنها وربيعة ومالك ، من قولهم : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول .
وأما قوله تعالى : { وكان عرشه على الماء } . فنفهم منه أن الذي كان دون هذا العرش ، من مادة هذا الخلق قبل تكوين السماوات والأرض أو في أثنائه هو هذا الماء ، الذي أخبرنا الله عز وجل أنه جعله أصلا لخلق جميع الأحياء ، إذ قال : { أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } . ( الأنبياء : 30 ) .
والمعنى : ألم يعلموا أن السماوات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة ، لا فتق ولا انفصال ، وهو ما يسمى في عرف علماء الفلك : بالسديم ، وبلغة القرآن : بالدخان ، { ففتقاهما } بفصل بعضها عن بعض ، فكان منها ما هو سماء : ومنها ما هو أرض { وجعلنا من الماء } في المقابلة لحياة الأحياء { كل شيء حي أفلا يؤمنون } بأن الرب الفاعل لهذا ، هو الذي يعبد وحده ولا يشرك به شيء ، وأنه قادر على إعادة الخلق كبدئه ؛ فيفهم من هنا وذك : أن الذي كان تحت العرش فينزل إليه أمر التدبير والتكوين منه ؛ هو الماء الذي هو أصل لجميع الأحياء لا ما تخيله بعض المفسرين الفنيين في الماء والعرش ، مما تأباه اللغة والعقل والشرع ، والعبادة ليس نصا في أن ذات العرش المخلوق كان على متن الماء ، كالسفن التي نراها راسية فيه الآن كما قيل ، فإن فائدة الإخبار بمثل هذا إن كان واقعا في ذلك العهد ، هو دون فائدة ما ذكرنا من معنى العرش الذي بيناه ، وهو الذي يزيدنا معرفة بربنا وبحكمه في خلقه ، وهو الذي يتفق مع نظريات علم التكوين11 وعلم الحياة ، وعلم الهيئة الفلكية ، وما ثبت من التجارب فيها ، وهذا يعد من عجائب القرآن التي تظهر في كل زمان ومكان . 12
فأصل السديم المشار إليه بقوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } ( فصلت : 11 ) .
وأصل خلق الأحياء النباتية والحيوانية من الماء لا يزال ثابتا عند جميع العلماء . وقد عبر به عن مادة التكوين ، التي هي مادة خراب العالم ، التي ترجع به هذه الأجرام إلى مادتها الأصلية بقوله تعالى : { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } ( الدخان : 10 ) . وعبر عنه كذلك : بالغمام في قوله { ويم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا } . ( الفرقان : 52 ) . وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ والملائكة } . ( البقرة : 210 ) .
والغمام في اللغة : السحاب الرقيق ، فالدخان والغمام والبخار والسديم كلها مظاهر لهذه المادة اللطيفة ( الماء ) .
والسديم في اللغة : الغمام والضباب ، واختاره علماء الفلك على الدخان وغيره ولا مشاحة في الاصطلاح . 13
وجاء في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب ما يأتي :
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام { وكان عرشه على الماء } . لقد أخبرنا الله تعالى : أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام في سورة يونس ، والجديد هنا في خلق السماوات والأرض هو الجملة المعترضة : { وكان عرشه على الماء } . وما تفيد من أنه عند خلق السماوات والأرض أي : إبرازهما إلى الوجود في شكلهما الذي انتهيا إليه ، كان هناك الماء وكان عرش الله سبحانه على الماء . أما كيف كان هذا الماء ، وأين كان ، وفي أية حالة من حالاته كان ، وأما كيف كان عرش الله على هذا الماء ؟ ؟ فزيادات لم يتعرض لها النص وليس لمفسر يدرك حدوده أن يزيد شيئا على مدلول النص ، في هذا الغيب الذي ليس لنا من مصدر لعلمه إلا هذا النص وفي حدوده . وليس لنا أن نتلمس للنصوص القرآنية مصداقا من النظريات التي تسمى : ( العلمية ) حتى ولو كان ظاهر النص يتفق مع النظرية وينطبق ؛ فالنظريات العلمية قابلة دائما للانقلاب رأسا على عقب . . .
إن القرآن هو الأصل ، والنظريات العلمية توافقه أو تخالفه سواء ؛ أما الحقائق العلمية التجريبية فمجالها غير مجال القرآن ، وقد تركها القرآن للعقل البشري يعمل فيها بكامل حريته ، ويصل إلى النتائج التي يصل إليها بتجاربه ، ووكل نفسه بتربية هذا العقل على الصحة والاستقامة والسلامة ، وتحريره من الوهم والأسطورة والخرافة . 14
{ ليبلوكم أيكم أحسن عملا } لقد خلق الله الكون في ستة أيام وأتم إعماره وتجهيزه للإنسان ، وهو سبحانه مسيطر على الكون كله { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } . والسياق يظهر أن خلق السماوات والأرض ، وإحكام نظام هذا الكون مع سيطرة الله تعالى على مقاليده ؛ كان من أجل الإنسان واختباره ، وقد أمد الله الإنسان بالعقل والإرادة والاختيار ، والاستعداد للاستقامة والانحراف ؛ ليجزي كل عامل بما عمل ، { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا } . ( الكهف : 7 ) .
لقد خلق الله الكون وأمده بمقومات الحياة ، وسيطر بقدرته على هذا الملك العظيم ، ثم خلق الإنسان ووهبه العقل والتفكير والاختيار ، والقدرة على عمل الخير والشر ، ثم أعد حياة أخرى للحساب والجزاء ، ومثوبة الطائع ومعاقبة العاصي ، ولكن الكافرين ينكرون البعث والحشر ! ! !
{ ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين } .
أي : ولئن أخبرت هؤلاء المشركين : أن الله سيبعثهم بعد مماتهم للحساب والجزاء ليجيبنك الذي كفروا بلقاء الله قائلين : ما هذا القول إلا سحر بين ظاهر ، تسحر به العقول ، وتسحر به الضمائر والقلوب ؛ لتمنعنا عن لذات الدنيا وتصرفنا عن متعنا إلى دعوتك ، وقد ألف الناس إطلاق السحر على كل أمر بديع غريب فائق ، ومن ذلك قو ل فرعون وملئه لموسى : { يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون } . ( الزخرف : 49 ) . وفي الحديث : ( إن من البيان لسحرا ) وكأن الكفار أحسوا بما في القرآن من الروعة والجلال والمقدرة الفائقة ، والسيطرة على النفوس ، الأخذ بزمام الأفئدة ، فادعوا أنه : سحر يؤثر ونسبوه إلى المردة والشياطين ؛ لأنه فوق طاقة البشر ، ولو أنصفوا لقالوا : إنه وحي السماء وكلام الله رب العالمين .
قال النسفي : { وهو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام } من الأحد إلى الجمعة ؛ تعليما للتأني { وكان عرشه على الماء } أي : يعني : ما كان تحته قبل خلق السماوات والأرض إلا الماء ، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السماوات والأرض . قيل : بدأه بخلق ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة ؛ فصارت ماء ، ثم خلق ريحا فأقر الماء على متنه ، ثم وضع عرشه على الماء ، وفي وقوف العرش على الماء أعظم اعتبار لأهل الأفكار . 15
ونلاحظ أن كثيرا مما يتعلق بأخبار بدء الخليقة ، قد نقله المفسرون عن الإسرائيليات ، وهي أخبار نقلت عن بني إسرائيل ، وقد أمرنا نبينا قائلا : ( لا تصدقوا أهل الكتاب ، ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا ، وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ) . 16
تنقسم الأخبار الإسرائيلية إلى أقسام ثلاثة :
القسم الأول : ما يعلم صحته لموافقته للقرآن أو السنة الصحيحة ، مثل : تعيين صاحب موسى بأنه الخضر ، فقد جاء هذا الاسم صريحا في حديث البخاري17 وهذا القسم صحيح ومقبول .
القسم الثاني : ما يعلم كذبه بأن يناقض ما عرفناه من شرعنا ، أو يكون مخالفا لما يقرره العقل ، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته .
القسم الثالث : هو السكوت عنه فلا هو من قبيل الأول ، ولا هو من قبيل الثاني ، وهذا القسم نتوقف فيه فلا نصدقه ولا نكذبه . 18
وغالبا هذا القسم الثالث مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني ، ولهذا يختلف أهل الكتاب فيه كثيرا ، ويختلف المفسرون عادة بسبب ذلك كما يذكرون في مثل أسماء أصحاب أهل الكهف ، ولون كلبهم ، وأسماء الطيور التي أحياها إبراهيم ، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة ، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى ، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن ، حيث لا فائدة منه تعود على المكلفين في دنياهم أو دينهم ، ولكن نقل الخلاف عنهم جائز ، كما قال تعالى : { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم . . . } إلى آخر الآية . ( الكهف : 22 ) .
ويقول أحمد شاكر : إن إباحة التحدث عنهم شيء ، وذكر ذلك في تفسير القرآن شيء آخر ؛ إذ أنه يوهم البيان والتفصيل لكتاب الله ، وحاشا لله ولكتابه من ذلك . 19