الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة النور مدنية.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

سورة النور مدنية بلا خلاف.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه سورة النور.. يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات الله: (الله نور السماوات والأرض) ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح؛ ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة. وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية، تنير القلب، وتنير الحياة، ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح، وإشراق في القلوب، وشفافية في الضمائر، مستمدة كلها من ذلك النور الكبير. وهي تبدأ بإعلان قوي حاسم عن تقرير هذه السورة وفرضها بكل ما فيها من حدود وتكاليف، ومن آداب وأخلاق: (سورة أنزلناها وفرضناها، وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون).. فيدل هذا البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة؛ ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية، وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية..

والمحور الذي تدور عليه السورة كلها هو محور التربية التي تشتد في وسائلها إلى درجة الحدود. وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة، التي تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة. والهدف واحد في الشدة واللين. هو تربية الضمائر، واستجاشة المشاعر؛ ورفع المقاييس الأخلاقية للحياة، حتى تشف وترف، وتتصل بنور الله.. وتتداخل الآداب النفسية الفردية، وآداب البيت والأسرة، وآداب الجماعة والقيادة. بوصفها نابعة كلها من معين واحد هو العقيدة في الله، متصلة كلها بنور واحد هو نور الله. وهي في صميمها نور وشفافية، وإشراق وطهارة. تربية عناصرها من مصدر النور الأول في السماوات والأرض. نور الله الذي أشرقت به الظلمات. في السماوات والأرض، والقلوب والضمائر، والنفوس والأرواح. ويجري سياق السورة حول محورها الأصيل في خمسة أشواط: الأول يتضمن الإعلان الحاسم الذي تبدأ به؛ ويليه بيان حد الزنا، وتفظيع هذه الفعلة، وتقطيع ما بين الزناة والجماعة المسلمة، فلا هي منهم ولا هم منها.

ثم بيان حد القذف وعلة التشديد فيه؛ واستثناء الأزواج من هذا الحد مع التفريق بين الزوجين بالملاعنة. ثم حديث الإفك وقصته.. وينتهي هذا الشوط بتقرير مشاكلة الخبيثين للخبيثات، ومشاكلة الطيبين للطيبات. وبالعلاقة التي تربط بين هؤلاء وهؤلاء.

ويتناول الشوط الثاني وسائل الوقاية من الجريمة، وتجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية. فيبدأ بآداب البيوت والاستئذان على أهلها، والأمر بغض البصر والنهي عن إبداء الزينة للمحارم. والحض على إنكاح الأيامي. والتحذير من دفع الفتيات إلى البغاء.. وكلها أسباب وقائية لضمانة الطهر والتعفف في عالم الضمير والشعور، ودفع المؤثرات التي تهيج الميول الحيوانية، وترهق أعصاب المتحرجين المتطهرين، وهم يقاومون عوامل الإغراء والغواية.

والشوط الثالث يتوسط مجموعة الآداب التي تتضمنها السورة، فيربطها بنور الله. ويتحدث عن أطهر البيوت التي يعمرها وهي التي تعمر بيوت الله.. وفي الجانب المقابل الذين كفروا وأعمالهم كسراب من اللمعان الكاذب؛ أو كظلمات بعضها فوق بعض. ثم يكشف عن فيوض من نور الله في الآفاق: في تسبيح الخلائق كلها لله. وفي إزجاء السحاب. وفي تقليب الليل والنهار. وفي خلق كل دابة من ماء، ثم اختلاف أشكالها ووظائفها وأنواعها وأجناسها، مما هو معروض في صفحة الكون للبصائر والأبصار..

والشوط الرابع يتحدث عن مجافاة المنافقين للأدب الواجب مع رسول الله [صلى الله عليه وسلم] في الطاعة والتحاكم. ويصور أدب المؤمنين الخالص وطاعتهم. ويعدهم، على هذا، الاستخلاف في الأرض والتمكين في الدين، والنصر على الكافرين.

ثم يعود الشوط الخامس إلى آداب الاستئذان والضيافة في محيط البيوت بين الأقارب والأصدقاء. وإلى آداب الجماعة المسلمة كلها كأسرة واحدة، مع رئيسها ومربيها -رسول الله [صلى الله عليه وسلم]. وتتم السورة بإعلان ملكية الله لما في السماوات والأرض، وعلمه بواقع الناس، وما تنطوي عليه حناياهم، ورجعتهم إليه، وحسابهم على ما يعلمه من أمرهم. وهو بكل شيء عليم.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أغراض هذه السورة:

شملت من الأغراض كثيرا من أحكام معاشرة الرجال للنساء، ومن آداب الخلطة والزيادة.

وأول ما نزلت بسببه قضية التزوج بامرأة اشتهرت بالزنى وصدر ذلك ببيان حد الزنى.

وعقاب اللذين يقذفون المحصنات.

وحكم اللعان.

والتعرض إلى براءة عائشة رضي الله عنها مما أرجفه عليها أهل النفاق، وعقابهم، والذين شاركوهم في التحدث به.

البيوت غير المسكونة.

وآداب المسلمين والمسلمات في المخالطة.

وإفشاء السلام.

والتحريض على تزويج العبيد والإماء.

والتحريض على مكاتبتهم، أي إعتاقهم على عوض يدفعونه لمالكيهم.

وتحريم البغاء الذي كان شائعا في الجاهلية.

والأمر بالعفاف.

وذم أحوال أهل النفاق والإشارة إلى سوء طويتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.

والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان.

وضرب المثل لهدي الإيمان وضلال الكفر.

والتنويه ببيوت العبادة والقائمين فيها.

وتخلل ذلك وصف عظمة الله تعالى وبدائع مصنوعاته وما فيها من منن على الناس.

وقد أردف ذلك بوصف ما أعده الله للمؤمنين، وأن الله علم بما يضمره كل أحد وأن المرجع إليه والجزاء بيده.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

لقد أنزل الله هذه السورة لتكون آياتها دستوراً عملياً للمسلمين في بعض جوانب حياتهم، حيث تحدّثت عن علاقة الرجل بالمرأة، وأكّدت الآية على القاعدة الشرعية التي تحكم تلك العلاقة على أساس تحضير الأجواء التي تمنع الانحراف على هذا المستوى، وتخلق مناعة داخلية، وتواجهه بالردع القانوني الحاسم الذي يدعو إلى عقاب المنحرفين، ويمنع الاتهامات غير المسؤولة، أو الإشاعات الطائشة التي يمكن إرسالها على هذا المستوى، ويضع حدوداً تفصل بين ما يجوز قوله وما لا يجوز؛ فليس للإنسان الحرية في أن يقول كل ما يعلمه من شؤون الناس أمام الآخرين، بل هناك دائرة خاصة محدّدة تتسع لقول الحقيقة بدقّة ومسؤولية، بهدف تحديد الموقف، لا إثارة الانتباه وتحريك النوازع الذاتية العابثة، ثم تعمل السورة على التذكير بوسائل الوقاية من الجريمة، وتدخل بعد ذلك في تحديد قواعد السلوك الاجتماعي، وأسس التهذيب الأخلاقي في حركة الفرد لجهة احترام وقته وحريته.. وتضمنت السورة بعض اللمحات واللفتات والإيحاءات المتعلقة بتفاصيل العقيدة والانفتاح على الله في حركة الكون، وما في جنباته وآفاقه من نور متدفق، وما يوحي به ذلك كله من النور الإلهي الذي لا يملك الإنسان إلا أن ينفتح عليه لامتداده اللاّنهائي وعمقه اللاّمحدود، وانسيابه الإشراقي في ذروة الصفاء، في كل دفقة نور في أغوار الأرض وفي رحاب السماء.. وفيه تقدم السورة نموذجاً حياً يلامس الروح. ثم يمتد الحديث إلى بعض ملامح المؤمنين الذين يرتفعون إلى مستوى الإخلاص المتجسّد في العبادة الخالصة لله التي تستغرق كل وجدانهم وحياتهم، وإلى بعض مواقع الكافرين في الدنيا، ومصيرهم المظلم في الآخرة..

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{سورة} يريد فريضة وحكم {أنزلناها وفرضناها} يعني: وبيناها {وأنزلنا فيها آيات بينات} يعني: عز وجل آيات القرآن بينات، يعني: واضحات، يعني: حدوده تعالى وأمره ونهيه، {لعلكم} يعني: لكي {تذكرون}، فتتبعون ما فيه من الحدود والنهي.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني بقوله تعالى ذكره:"سُورَةٌ أنْزَلْناها": وهذه السورة أنزلناها... وقد بيّنا فيما مضى قبلُ أن السورة وصف لما ارتفع...

وأما قوله: "وَفَرَضْناها "فإن القرّاء اختلفت في قراءته، فقرأه بعض قرّاء الحجاز والبصرة: «وَفَرّضْناها» ويتأوّلونه: وفصّلناها ونزّلنا فيها فرائض مختلفة. وكذلك كان مجاهد يقرؤه ويتأوّله... وقد يحتمل ذلك إذا قرئ بالتشديد وجها غير الذي ذكرنا عن مجاهد، وهو أن يوجه إلى أن معناه: وفرضناها عليكم وعلى من بعدكم من الناس إلى قيام الساعة. وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة والشأم: "وَفَرَضْناها "بتخفيف الراء، بمعنى: أوجبنا ما فيها من الأحكام عليكم وألزمناكموه وبيّنا ذلك لكم.

والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان مشهورتان قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أن الله قد فصلها، وأنزل فيها ضروبا من الأحكام، وأمر فيها ونهى، وفرض على عباده فيها فرائض، ففيها المعنيان كلاهما: التفريض والفرض، فلذلك قلنا بأية القراءتين قرأ القارئ فمصيب الصواب... وقوله: "وأنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيّناتٍ" يقول تعالى ذكره: وأنزلنا في هذه السورة علامات ودلالات على الحقّ "بينات"، يعني: واضحات لمن تأملها وفكر فيها بعقل أنها من عند الله، فإنها الحقّ المبين، وإنها تهدي إلى الصراط المستقيم... "لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ" يقول: لتتذكروا بهذه الآيات البينات التي أنزلناها.

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

{سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} أي هذه سورة أنزلناها. ويحتمل أن يكون قد خصها بهذا الافتتاح لأمرين: أحدهما: أن المقصود الزجر والوعيد فافتتحت بالرهبة كسورة التوبة. الثاني: أن فيها تشريفاً للنبي صلى الله عليه وسلم بطهارة نسائه فافتتحت بذكر الشرف، والسورة اسم للمنزلة الشريفة، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

سورة هي شَرَفٌ لك -يا محمد- أنزلناها لأن أقلَّ ما ورد به التحدي سورة؛ فكلُّ سورةٍ شَرَفٌ له عليه السلام لأنها له معجزة، بيَّناها وشرعنا فيها من الحلال والحرام، وبيَّنا فيها من الأحكام [ما] لكم به اهتداء، وللقلوب من غمرة الاستعجام شفاء. أنزلنا فيها آياتٍ بيناتٍ ودلائلَ واضحاتٍ، وحُجَجاً لائحات؛ لتتذكروا تلك الآيات، وتعتبروا بما فيها من البراهين والبينات.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{سُورَةٌ}... أي: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها...

ومعنى: {وفرضناها} فرضنا أحكامها التي فيها. وأصل الفرض: القطع، أي: جعلناها واجبة مقطوعاً بها، والتشديد للمبالغة في الإيجاب وتوكيده. أو لأنّ فيها فرائض شتى، وأنك تقول: فرضت الفريضة، وفرضت الفرائض. أو لكثرة المفروض عليهم...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{سورة} أي عظيمة؛ ثم رغب في امتثال ما فيها مبيناً أن تنوينهاً للتعظيم بقوله: {أنزلناها} أي بما لنا من العظمة وتمام العلم والقدرة {وفرضناها} أي قررناها وقدرناها وأكثرنا فيها من الفروض وأكدناها {وأنزلنا فيها} بشمول علمنا {آيات} من الحدود والأحكام والمواعظ والأمثال وغيرها، مبرهناً عليها {بينات} لا إشكال فيها رحمة منا لكم، فمن قبلها دخل في دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم التي لقناه إياها في آخر تلك فرحمه خير الراحمين، ومن أباها ضل فدخل في التبكيت بقولنا {ألم تكن آياتي تتلى عليكم} [المؤمنون: 105] ونحوه، وذلك معنى قوله: {لعلكم تذكرون} أي لتكونوا -إذا تأملتموها مع ما قبلها من الآيات المرققة والقصص المحذرة- على رجاء -عند من لا يعلم العواقب- من أن تتذكروا ولو نوعاً من التذكر -كما أشار إليه الإدغام- بما ترون فيها من الحكم أن الذي نصبها لكم وفصلها إلى ما ترون لا يترككم سدى، فتقبلوا على جميع أوامره، وتنتهوا عن زواجره، ليغفر لكم ما قصرتم فيه من طاعته، ويرحمكم بتنويل ما لا وصول لكم إليه إلا برحمته، وتتذكروا أيضاً بما يبين لكم من الأمور، ويكشف عنه الغطاء من الأحكام التي أعمت عنها حجب النفوس، وسترتها ظلمات الأهوية -ما جبل عليه الآدميون، فتعلموا أن الذي تحبون أن يفعل معكم يحب غيركم أن تفعلوه معه، والذي تكرهونه من ذلك يكرهه غيركم، فيكون ذلك حاملاً لكم على النصفة فيثمر الصفاء، والألفة والوفاء، فتكونوا من المؤمنين المفلحين الوارثين الداخلين في دعوة البشير النذير بالرحمة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

مطلع فريد في القرآن كله. الجديد فيه كلمة (فرضناها) والمقصود بها -فيما نعلم- توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء. ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات. هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة، والتي ينساها الناس تحت تأثير المغريات والانحرافات، فتذكرهم بها تلك الآيات البينات، وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ومعنى {سورة} جزء من القرآن معين بمبدأ ونهاية وعدد آيات...

وجملة: {أنزلناها} وما عطف عليها في موضع الصفة ل {سورة}. والمقصود من تلك الأوصاف التنويه بهذه السورة ليقبل المسلمون بشراشرهم على تلقي ما فيها. وفي ذلك امتنان على الأمة بتحديد أحكام سيرتها في أحوالها.

ففي قوله: {أنزلناها} تنويه بالسورة بما يدل عليه « أنزلنا» من الإسناد إلى ضمير الجلالة الدال على العناية بها وتشريفها. وعبر ب« أنزلنا» عن ابتداء إنزال آياتها بعد أن قدرها الله بعلمه بكلامه النفسي. فالمقصود من إسناد إنزالها إلى الله تعالى تنويه بها. وعبر عن إنزالها بصيغة المضي وإنما هو واقع في الحال باعتبار إرادة إنزالها، فكأنه قيل: أردنا إنزالها وإبلاغها، فجعل ذلك الاعتناء كالماضي حرصاً عليه. وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة وقوعه كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية.

والقرينة قوله: {وفرضناها} ومعنى {فرضناها} عند المفسرين: أوجبنا العمل بما فيها. وإنما يليق هذا التفسير بالنظر إلى معظم هذه السورة لا إلى جميعها فإن منها ما لا يتعلق به عمل كقوله: {الله نور السماوات والأرض} [النور: 35] الآيات وقوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة} [النور: 39].

فالذي أختاره أن يكون الفرض هنا بمعنى التعيين والتقدير كقوله تعالى: {نصيباً مفروضاً} [النساء: 7] وقوله: {ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له} [الأحزاب: 38]. وتعدية فعل « فرضنا» إلى ضمير السورة من قبيل ما يعبر عنه في مسائل أصول الفقه من إضافة الأحكام إلى الأعيان بإرادة أحوالها، مثل {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]، أي أكلها. فالمعنى: وفرضنا آياتها. وسنذكر قريباً ما يزيد هذا بياناً عند قوله تعالى: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} [النور: 34] وكيف قوبلت الصفات الثلاث المذكورة هنا بالصفات الثلاث المذكورة هنالك...

وأما قوله: {أنزلنا فيها آيات بينات} فهو تنويه آخر بهذه السورة تنويه بكل آية اشتملت عليها السورة: من الهدى إلى التوحيد، وحقية الإسلام، ومن حجج وتمثيل، وما في دلائل صنع الله على سعة قدرته وعلمه وحكمته، وهي ما أشار إليه قوله: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين} [النور: 34] وقوله: {ألم تر أن الله يزجي سحاباً} إلى قوله: {صراط مستقيم} [النور: 43 46].

ومن الآيات البينات التي أنزلت فيها إطلاع الله رسوله على دخائل المنافقين مما كتموه في نفوسهم من قوله: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} إلى قوله: {إن الله خبير بما تعلمون} [النور: 48 53] فحصل التنويه بمجموع السورة ابتداء والتنويه بكل جزء منها ثانياً.

فالآيات جمع آية وهي قطعة من الكلام القرآني دالة على معنى مستقل وتقدم بيانها في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.

فالمراد من الآيات المنزلة في هذه السورة جميع ما اشتملت عليه من الآيات لا آيات مخصوصة من بينها. والمقصود التنويه بآياتها بإجراء وصف {بينات} عليها.

وإذا كانت الآيات التي اشتملت السورة على جميعها هي عين السورة لا بعضاً منها إذ ليس ثم شيء غير تلك الآيات حاوٍ لتلك الآيات حقيقة ولا مشبه بما يحوي، فكان حرف (في) الموضوع للظرفية مستعملاً في غير ما وضع له لا حقيقة ولا استعارة مصرحة.

فتعين أن كلمة {فيها} تؤذن باستعارة مكنية بتشبيه آيات هذه السورة بأعلاق نفسية تكتنز ويحرص على حفظها من الإضاعة والتلاشي كأنها مما يجعل في خزانة ونحوها...

فقوله: {وأنزلنا فيها} هو: بمعنى وأنزلناها آيات بينات. ووصف {آيات} ب {بينات} أي واضحات، مجاز عقلي لأن البيّن هو معانيها، وأعيد فعل الإنزال مع إغناء حرف العطف عنه لإظهار مزيد العناية بها.

والوجه أن جملة {لعلكم تذكرون} مرتبطة بجملة: {أنزلنا فيها آيات بينات} لأن الآيات بهذا المعنى مظنة التذكر، أي دلائل مظنة لحصول تذكركم. فحصل بهذا الرجاء وصف آخر للسورة هو أنها مبعث تذكر وعظة. والتذكر: خطور ما كان منسياً بالذهن وهو هنا مستعار لاكتساب العلم من أدلته اليقينية بجعله كالعلم الحاصل من قبل فنسيه الذهن، أي العلم الذي شأنه أن يكون معلوماً، فشبه جهله بالنسيان وشبه علمه بالتذكر.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{لعلكم تذكرون}، أي تذكرون أحكامها، وتعرفون شدتها، فتعرفون قبح الجريمة، وأثرها في المجتمع الإسلامي، وأنها لا تكون في قوم إلا كتبت عليهم الذلة، والضعف والاستسلام، والخنوع.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

اسمها سورة النور، وإذا استقرأنا موضوع المسمى أو المعنون له بسورة (النور) تجد النور شائعا في كل أعطافها- لا أقول آياتها ولا أقول كلماتها- ولكن النور شائع في كل حروفها، لماذا؟. قالوا: لأن النور من الألفاظ التي يدل عليها نطقها ويعرفها أكثر من أي تعريف آخر، فالناس تعرف النور بمجرد نطق هذه الكلمة، والنور لا يعرف إلا بحقيقة ما يؤديه، وهو ما تتضح به المرئيات، وتتجلى به الكائنات، فلولا هذا النور ما كنا نرى شيئا. إذن: يعرف النور بخاصيته، وهو الذي يجعل لك قدرة على أن ترى المرئيات، بدليل أنها إن كانت في ظلمة لا تراها. إذن: فالنور لا يرى، ولكن نرى به الأشياء، فالله تعالى نور السماوات والأرض ينورهما لنا، لكن لا نراه سبحانه. لكن، هل كل الأشياء مرائي؟ أليس منها المسموع والمشموم والمتذوق؟ قالوا: نعم، لكن الدليل الأول على كل هذه وفعل الحوادث هي المرئيات؟ لأن كل أدلة الكون مرئية نراها أولا، ثم حين تسمع، وحين تشم، وحين تلمس، وحين تميز الثقيل من الخفيف، أو القريب من البعيد، فهذا كله فرع ما يوجد فيك، بعد ما تؤمن أن الله الذي أوجدك هو الذي أوجد لك كل شيء، فإذا ما نظرت إلى النور وجدت النور أمرا حسيا ترى به الأشياء... لكن، ما نفع هذا النور الحسي للإنسان الخليفة في الأرض؟ أنت حين ترى الأشياء تتعامل معها تعاملا يعطيك خيرها ويكف عنك شرها، ولو لم تر الأشياء ما أمكنك التعامل معها، وإلا فكيف تسير في مكان مظلم فيه ما يؤذيك مثل الثعابين أو زجاج متكسر؟. إذن: لا تستطيع أن تهتدي إلى مواضع قدمك، وتأخذ خير الأشياء، وتتجنب شرها إلا بالنور الحسي، كذلك إن سرت في ظلمة وعلى غير هدى، فلا بد أن تصطدم بأقوى منك فيحطمك، أو بأضعف منك فتحطمه. لذلك سمى الحق- تبارك وتعالى- المنهج الذي يهديك في دروب الحياة نورا. والناس حين لا يوجد النور الرباني الإلهي يصنعون لأنفسهم أنوارا على قدر إمكاناتهم وبيئاتهم بداية من المسرجة ولمبة الجاز، وكان الناس يتفاوتون حتى في هذه- حتى عصر الكهرباء...- يتفاوت فيها الناس تفاوتا كبيرا، هذا في الليل، فإذا ما أشرقت الشمس أطفأ الجميع أنوارهم ومصابيحهم، لماذا؟ لأن مصباح الله قد ظهر واستوى فيه الجميع لا يتميز فيه أحد عن أحد. وكذلك النور المعنوي نور المنهج الذي يهديك إن كان لله فيه توجيه، فأطفئ مصابيح توجيه البشر لا يصح أن تستضيء بنور، ونور ربك موجود، بل عليك أن تبادر وتأخذ ما تقدر عليه من نور ربك، فكما أخذت نور الله الحسي فألغيت به كل الأنوار، فخذ نور الله في القيم، خذ نور الله في الأخلاق وفي المعاملات وفي السلوك يغنيك هذا عن أي نور من أنوار البشر ومناهجهم. لتظهر عليه سمات قدرته تعالى وصفات كماله، فالله تعالى قادر، الله عالم، الله حكيم، الله غني، الله رحيم، الله غفور.. الخ وهو سبحانه يعطي من صفاته ويفيض منها على خلقه وخليفته في أرضه بعضا من هذه الصفات، فيعطيك من قدرته قدرة، ومن رحمته رحمة، ومن غنائه غنى، لكن تظل الصفة في يده تعالى إن شاء سلبها، ألا ترى القوي قد يصير ضعيفا، والغني قد يصير فقيرا؟. ذلك لنعلم أن هذه الصفات ليست ذاتية فينا، وأن هذه الهبات ليست أصلا عندنا، إنما هي فيض من فيض الله وهبة من هباته سبحانه، لذلك علينا أن نستعملها وفق مراده تعالى، فإن أعطاك ربك القدرة فإنما أفاض بها عليك لتفيض أنت بها على غيرك، أعطاك العلم لتنثره على الناس، أعطاك الغنى لترعى حق الفقير. إذن: ما دام أن الله تعالى أفاض عليك من صفات الكمال واحتفظ هو سبحانه بملكية هذه الصفات، فإن شاء سلبها منك، فعليك أن تستغل الفرصة وتنتهز وجود هذه الخصلة عندك، فتثمرها فيما أراده الله منك قبل أن تسلب، حتى إذا سلبت منك نالتك من غيرك...

وسورة النور جاءت لتحمل نور المعنويات، نور القيم، نور التعامل، نور الأخلاق، نور الإدارة والتصرف، وما دام أن الله تعالى وضع لنا هذا النور فلا يصح للبشر أن يضعوا لأنفسهم قوانين أخرى، لأنه كما قال سبحانه: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (40)} [النور]: فلو لم تكن هذه الشمس ما استطاع أحد أن يصنع لنفسه نورا أبدا. فالحق- تبارك وتعالى- يريد لخليفته في أرضه أن يكون طاهرا شريفا كريما عزيزا، لذلك وضع له من القوانين ما يكفل له هذه الغاية، وأول هذه القوانين وأهمها قانون التقاء الرجل والمرأة التقاء سليما في وضح النهار، لينتج عن هذا اللقاء نسل طاهر جدير بخلافة الله في أرضه، لذلك أول ما تكلم الحق سبحانه في هذه السورة تكلم عن مسألة الزنى. والعجيب أن تأتي هذه السورة بعد سورة (المؤمنون) التي قال الله في أولها {قد أفلح المؤمنون (1)} [المؤمنون]: ثم ذكر من هؤلاء المؤمنين المفلحين {والذين هم لفروجهم حافظون (5)} [المؤمنون]، وهنا قال: {الزانية والزاني.. (2)} [النور]، فجاء بالمقابل الذين هم لفروجهم حافظون. نفهم من هذا أنه لا يلتقي رجل وامرأة إلا على نور من الله وهدى من شريعته الحكيمة، لأنه عز وجل هو خالق الإنسان، وهو أعلم بما يصلحه، وهو خالق ذراته، ويعلم كيف تنسجم هذه الذرات بعضها البعض، وهو سبحانه خالق ملكات النفس، ويعلم كيف تتعايش هذه الملكات ولا تتنافر...

{سورة أنزلناها وفرضناها} السورة: مأخوذة من سور البيت، وهي طائفة من نجوم القرآن أو آياته محوطة ببداية ونهاية، تحمل أحكاما وقد تكون طويلة كسورة البقرة، أو قصيرة كالإخلاص والكوثر، فليس للسورة كمية مخصوصة، لأنها توقيفية.

{أنزلناها} نفهم من أنزل أن الإنزال من أعلى إلى ما من هو أدنى منه، كما يكتب الموظف مثلا يريد التظلم لرئيسه: أرفع إليك كذا وكذا، فيقول الأعلى: وأنا أنزلت القرار الفلاني، فالأدنى يرفع للأعلى، والأعلى ينزل للأدنى...

{وفرضناها} الشيء المفروض يعني الواجب أن يعمل، لأن المشرع قاله وحكم به وقدره، ومنه قوله سبحانه: {فنصف ما فرضتم.. (237)} [البقرة]: أي: نصف ما قدرتم، إذن: كل شيء له حكم في الشرع، فإن الله تعالى مقدره تقديرا حكيما على قدره.

{وأنزلنا فيها آيات بينات} الآيات الواضحات، وتطلق الآيات- كما قلنا- على الآيات الكونية التي تلفت أنظارنا إلى قدرة الله وبديع صنعه، وتطلق على المعجزات التي تثبت صدق الرسل، وتطلق على آيات القرآن الحاملة للأحكام. وفي هذه السورة كثير من الأحكام إلى أن قال فيها الحق سبحانه: {الله نور السماوات والأرض.. (35)} [النور]، وقال: {نور على نور.. (35)} [النور]: فطالما أنكم أخذتم نور الدنيا، وأقررتم أنه الأحسن، وأنه إذا ظهر ألغى جميع أنوراكم، فكذلك خذوا نور التشريع واعملوا به واعلموا أنه نور على نور. إذن: لديكم من الله نوران، نور حسي ونور معنوي. {لعلكم تذكرون (1)} [النور]: بعد أن قال سبحانه أنزلت كذا وكذا أراد أن يلهب المشاعر لتستقبل آياته الاستقبال الحسن، وتطبق أحكامه التطبيق الأمثل يقول: أنزلت إليكم كذا لعلكم تذكرون، ففيها حث وإلهاب لنستفيد بتشريع الحق للخلق.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

فالله هو الذي أنزلها على رسوله، ولا بدّ للناس أن يستشعروا ذلك، ليعيشوا مع آياتها لطف الخالق بالمخلوق، ورحمة الله بعباده، في ما يحيطهم به من رعايته التي تضمن لهم السعادة والهناء...

{أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا}، فقد أنزلها الله من موقع الألوهية القاهرة التي تأمر وتنهى وتفرض على الناس الالتزام بأوامره ونواهيه، ليتعاطى الإنسان معها تعاطي الخضوع للقوّة الخالقة القادرة، وليشعر بأنّ عليه أن ينفّذ ما يريده الله منه على أساس مسؤوليته في الحياة، حيث ينتظر الثواب إذا أطاع، ويترقب العقاب إذا عصى...

{لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} كيف يجب للإنسان أن يتحرك، وللحياة أن تُعاش، وللعباد أن يلتقوا بالله من مواقع المحبة المتجسدة بالطاعة، ومواقع الخوف المتمثل بالابتعاد عن المعصية، ليكون العمر كله في طريق الله.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وأُولى آيات هذه السورة المباركة بمثابة إشارة إِلى مجمل بحوث السورة "سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون "«سورة» كلمة مشتقّة من «السور» أي الجدار المرتفع، ثمّ أطلقت على الجدران التي تحيط بالمدن لحمايتها من مهاجمة الأعداء. وبما أنّ هذه الجدران كانت تعزل المدينة عن المنطقة المحيطة بها، فقد استعملت كلمة «سورة» تدريجياً في كل قطعة مفصولة عن شيء، ومنها استعملت لتعني قِسماً من القرآن. كما قال بعض اللغويين: إِنَّ «سورة» بناء جميل مرتفع، وهذه الكلمة تطلق أيضاً على قسم من بناء كبير، وتطلق السورة على أقسام القرآن المختلفة المفصولة بعضها عن بعض. وعلى كل حال فإنّ هذه العبارة إشارة إِلى كون أحكام ومواضيع هذه السورة من اعتقادات وآداب وأوامر إِلهية ذات أهمّيّة فائقة، لأنّها كلها من الله. وتؤكّد ذلك عبارة «فرضناها»، لأنّ «الفرض» يعني قطع الشيء الصلب والتأثير فيه كما يقول الراغب في مفرداته. وعبارة (آيات بينات) قد تكون إشارة إِلى الحقائق المنبعثة عن التوحيد والمبدأ والمعاد والنّبوة، التي تناولتها هذه السورة. وهي إزاء «فرضنا» التي تشير إِلى الأوامر الإِلهية والأحكام الشرعية التي بيّنتها هذه السورة. وبعبارة أخرى: إحداها تشير إِلى الاعتقادات، والأُخرى إِلى الأحكام الشرعية. ويحتمل أن تعني «الآيات البينات» الأدلة التي استندت إِليها هذه الأحكام الشرعية. وعبارة (لعلكم تذكرون) تؤكّد أن جذور جميع الاعتقادات الصحيحة، وتعاليم الإِسلام التطبيقية، تكمن في فطرة البشر. وعلى هذا الأساس فإن بيانها يعتبر نوعاً من التذكير.