تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول: فارقوا دينهم الذي أمروا به فيما بينهم، ودخلوا في غيره {زبرا} يعني: قطعانا... يعني: فرقا فصاروا أحزابا يهودا، ونصارى، وصابئين، ومجوسا، وأصنافا شتى كثيرة. ثم قال سبحانه: {كل حزب بما لديهم فرحون}، يقول: كل أهل بما عندهم من الدين راضون به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءة قوله:"زُبُرا" فقرأته عامة قرّاء المدينة والعراق: "زُبُرا "بمعنى جمع الزّبور. فتأويل الكلام على قراءة هؤلاء: فتفرّق القوم الذين أمرهم الله من أمة الرسول عيسى بالاجتماع على الدين الواحد والملة الواحدة، دينهم الذي أمرهم الله بلزومه "زُبُرا": كُتُبا، فدان كل فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذين دان به الفريق الآخر، كاليهود الذين زعموا أنهم دانوا بحكم التوراة وكذّبوا بحكم الإنجيل والقرآن، وكالنصارى الذين دانوا بالإنجيل بزعمهم وكذّبوا بحكم الفرقان... عن مجاهد: "بَيْنَهُمْ زُبُرا" قال: كُتُب الله فرّقوها قطعا...
وقال آخرون من أهل هذه القراءة: إنما معنى الكلام: فتفرّقوا دينهم بينهم كُتُبا أحدثوها يحتجّون فيها لمذاهبهم...
وقرأ ذلك عامة قرّاء الشام: «فَتَقَطّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبَرا» بضم الزاي وفتح الباء، بمعنى: فتفرّقوا أمرهم بينهم قِطَعا كزُبَر الحديد، وذلك القِطَع منها، واحدتها زُبْرة، من قول الله: "آتُونِي زُبَرَ الحَدِيد" فصار بعضهم يهودا وبعضهم نصارى.
والقراءة التي نختار في ذلك: قراءة من قرأه بضم الزاي والباء، لإجماع أهل التأويل في تأويل ذلك على أنه مراد به الكتب، فذلك يبين عن صحة ما اخترنا في ذلك، لأن الزّبُر هي الكتب، يقال منه: زَبَرْت الكتاب: إذ كتبته.
فتأويل الكلام: فتفرّق الذين أمرهم الله بلزوم دينه من الأمم دينهم بينهم كتبا، كما بيّنا قبل.
وقوله: "كُلّ حَزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" يقول: كل فريق من تلك الأمم بما اختاروه لأنفسهم من الدين والكتب فرحون، معجبون به، لا يرون أن الحقّ سواه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فمستقيم على حَقِّه، وتائه في غَيِّه، ومُصِرُّ على عصيانه وفِسْقِه، ومقيمٌ على إحسانه وصِدْقه، كُلٌّ مربوطٌ بحدِّه، موقوفٌ بما قُسِمَ له في البداية من شأنه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كلّ فرقة من فرق هؤلاء المختلفين المتقطعين دينهم، فرح بباطله، مطمئنّ النفس، معتقد أنه على الحق.
{فتقطعوا} معنى المبالغة في شدة اختلافهم والمراد بأمرهم ما يتصل بالدين.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" فتقطعوا "أي افترقوا، يعني الأمم، أي جعلوا دينهم أديانا بعد ما أمروا بالاجتماع. ثم ذكر تعالى أن كلا منهم معجب برأيه وضلالته وهذا غاية الضلال...
هذه الآية تنظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة) الحديث. خرجه أبو داود، ورواه الترمذي وزاد: قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي) خرجه من حديث عبد الله بن عمرو. وهذا يبين أن الافتراق المحذر منه في الآية والحديث إنما هو في أصول الدين وقواعده؛ لأنه قد أطلق عليها مللا، وأخبر أن التمسك بشيء من تلك الملل موجب لدخول النار. ومثل هذا لا يقال في الفروع، فإنه لا يوجب تعديد الملل ولا عذاب النار... "كل حزب "أي فريق وملة... وهذه الآية مثال لقريش خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم في شأنهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فتقطعوا} أي الأمم، وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم لأن الآية التي قبلها قد صرحت بأن الأنبياء ومن نجا معهم أمة واحدة لا اختلاف بينها، فعلم قطعاً أن الضمير للأمم ومن نشأ بعدهم، ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحداً أهم، فقدم قوله: {أمرهم} أي في الدين بعد أن كان مجتمعاً متصلاً {بينهم} فكانوا شيعاً، وهو معنى {زبراً} أي قطعاً، كل قطعة منها في غاية القوة والاجتماع والثبات على ما صارت إليه من الهوى والضلال، بكل شيعة طريقة في الضلال عن الطريق الأمم، والمقصد المستقيم، وكتاب زبروه في أهويتهم ولم يرحموا أنفسهم بما دعتهم إليه الهداة من الاجتماع والألفة فأهلكوها بالبغضاء والفرقة، وهو منصوب بأنه مفعول ثان لتقطع على ما مضى تخريجه في الأنبياء، وقد ظهر كما ترى ظهوراً بيناً أن هذه إشارة إلى الناجين من أمة كل نبي بعد إهلاك أعدائهم، أي أن هذه الجماعة الذين أنجيتهم معكم أمتكم، حال كونهم أمة واحدة متفقين في الدين، لا خلاف بينهم، وكما أن جماعتكم واحدة فأنا ربكم لا رب لكم غيري فاتقون ولا يخالف أحد منكم أمري ولا تختلفوا وتفترقوا لئلا أعذب العاصي منكم كما عذبت أعداءكم. ولما كان هذا مما لا يرضاه عاقل، أجيب من كأنه قال: هل رضوا بذلك مع انكشاف ضرره؟ بقوله: {كل حزب} أي فرقة {بما لديهم} أي من ضلال وهدى {فرحون} أي مسرورون فضلاً عن أنهم راضون غير معرج الضال منهم على ما جاءت به الرسل من الهدى، ولا على الاعتبار بما اتفق لأممهم بسبب تكذيبهم من الردى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
موضوع الوحدة هذا الدرس الثالث في السورة يبدأ بتصوير حال الناس بعد أمة الرسل. تلك الحال التي جاء الرسول الأخير فوجدهم عليها. مختلفين متنازعين حول الحقيقة الواحدة التي جاءهم بها الرسل من قبل جميعا. ويصور غفلتهم عن الحق الذي جاءهم به خاتم المرسلين [صلى الله عليه وسلم] والغمرة التي تذهلهم عن عاقبة ما هم فيه. بينما المؤمنون يعبدون الله، ويعملون الصالحات، وهم مع هذا خائفون من العاقبة، وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون.. فتتقابل صورة اليقظة والحذر في النفس المؤمنة، وصورة الغمرة والغفلة في النفس الكافرة. ثم يجول معهم جولات شتى:يستنكر موقفهم مرة، ويستعرض شبهاتهم مرة، ويلمس وجدانهم بدلائل الإيمان في أنفسهم وفي الآفاق مرة، ويأخذهم بمسلماتهم فيجعلها حجة عليهم مرة. وينتهي بعد هذه الجولات بتركهم إلى مصيرهم المحتوم. ويتوجه بالخطاب إلى رسول الله [صلى الله أن يمضي في طريقه، لا يغضب لعنادهم، وأن يدفع السيئة بالحسنى، وأن يستعيذ بالله من الشياطين التي تقودهم إلى الضلال المبين.
لقد مضى الرسل -صلوات الله عليهم- أمة واحدة، ذات كلمة واحدة، وعبادة واحدة، ووجهة واحدة؛ فإذا الناس من بعدهم أحزاب متنازعة لا تلتقي على منهج ولا طريق. ويخرج التعبير القرآني المبدع هذا التنازع في صورة حسية عنيفة. لقد تنازعوا الأمر حتى مزقوه بينهم مزقا، وقطعوه في أيديهم قطعا. ثم مضى كل حزب بالمزقة التي خرجت في يده. مضى فرحا لا يفكر في شيء، ولا يلتفت إلى شيء! مضى وأغلق على حسه جميع المنافذ التي تأتيه منها أية نسمة طليقة، أو يدخل إليه منها أي شعاع مضيء! وعاش الجميع في هذه الغمرة مذهولين مشغولين بما هم فيه، مغمورين لا تنفذ إليهم نسمة محيية ولا شعاع منير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جيء بفاء التعقيب لإفادة أن الأمم لم يتريثوا عقب تبليغ الرسل إياهم {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} أن تقطعوا أمرهم بينهم فاتخذوا آلهة كثيرة فصار دينهم متقطعاً قطعاً لكل فريق صنم وعبادة خاصة به. فضمير {تقطّعوا} عائد إلى الأمم المفهوم من السياق الذين هم المقصود من قوله {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون} وضمير الجمع عائد إلى أمم الرسل يدل عليه السياق.
فالكلام مسوق مساق الذم. ولذلك قد تفيد الفاء مع التعقيب معنى التفريع، أي فتفرع على ما أمرناهم به من التوحيد أنهم أتوا بعكس المطلوب منهم فيفيد الكلام زيادة على الذم تعجيباً من حالهم. ومما يزيد معنى الذم تذييله بقوله {كل حزب بما لديهم فرحون} أي وهم ليسوا بحال من يفرح.
والتقطع أصله مطاوع قطع، واستعمل فعلاً متعدياً بمعنى قطع بقصد إفادة الشدة في حصول الفعل، ونظيره تخوفه السير، أي تنقصه، وتجهمه الليل وتعرفه الزمن. فالمعنى: قطعوا أمرهم بينهم قطعاً كثيرة، أي تفرقوا على نحل كثيرة فجعل كل فريق منهم لنفسه ديناً. ويجوز أن يجعل {تقطَّعوا} قاصراً أسند التقطع إليهم على سبيل الإبهام ثم ميز بقوله {أمرهم} كأنه قيل: تقطعوا أمراً، فإن كثيراً من نحاة الكوفة يجوزون كون التمييز معرفة. وقد بسطنا القول في معنى {تقطعوا أمرهم بينهم} في سورة الأنبياء (93).
والأمر هنا بمعنى الشأن والحال وما صدقه أمور دينهم.
والزبُر -بضم الزاي وضم الموحدة- كما قرأ به الجمهور جمع زبور وهو الكتاب. استعير اسم الكتاب للدين لأن شأن الدين أن يكون لأهله كتاب، فيظهر أنها استعارة تهكمية إذ لم يكن لكل فريق كتاب ولكنهم اتخذوا لأنفسهم أدياناً وعقائد لو سجلت لكانت زُبُراً...
وجملة {كل حزب بما لديهم فرحون} تذييل لما قبله لأن التقطع يقتضي التحزب فذيل بأن كل فريق منهم فرح بدينه، ففي الكلام صفة محذوفة ل {حزب}، أي كل حزب منهم، بدلالة المقام.
والفرح: شدة المسرة، أي راضون جذلون بأنهم اتخذوا طريقتهم في الدين. والمعنى: أنهم فرحون بدينهم عن غير دليل ولا تبصر بل لمجرد العكوف على المعتاد. وذلك يومىء إليه {لديهم} المقتضي أنه متقرر بينهم من قبل، أي بالدين الذي هو لديهم فهم لا يرضون على من خالفهم ويعادونه، وذلك يفضي إلى التفريق والتخاذل بين الأمة الواحدة وهو خلاف مراد الله ولذلك ذيل به قوله {وإن هذه أمتكم أمة واحدة}. وقديماً كان التحزب مسبباً لسقوط الأديان والأمم وهو من دعوة الشيطان التي يلبس فيها الباطل في صورة الحق.
والحزب: الجماعة المجتمعون على أمر من اعتقاد أو عمل، أو المتفقون عليه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً}، فلم يمتثلوا للأمر الإلهي الموجّه إليهم بالتوحّد من خلال رسالته، بما يمثله ذلك من وحدة رسله، ولم يدرسوا ما أنزله الله على هؤلاء الرسل من مفاهيم واحدة قد تختلف لجهة بعض تفاصيل التطبيق، وقد تتنوّع التشريعات التي تعبّر عنها تبعاً لاختلاف الزمن، وما يفرضه من تطور وتبدل في حاجات الانسان، ما يستدعي أن يجعل تحليل ما حرّمه سابقاً أمراً واقعياً منطقياً، لأن للتحريم أمداً معيناً لا يتجاوزه، وهذا يفسح في المجال لبروز حكمٍ جديدٍ يخالف الحكم السابق. وهكذا فإن اختلاف الرسل والكتب التي حملوها لا يعني التعارض في المواقف، أو التباين في الانتماء، بل يعني مرحلية الرسالات التي تستدعي أن يكون لكل رسالة نهاية محدودة ينتهي دورها عندها، ليأتي دور رسالة لاحقة تكمّل الطريق الذي بدأته الرسالة السابقة. ولكن المشكلة أنَّ هؤلاء انطلقوا من الدوافع الذاتية التي تغرقهم في المطامع والمنافع والامتيازات الخاصة، وتجعلهم يرسمون حدوداً أمام النبوّات، باعتبارها امتيازاً خاصاً بفريق دون آخر، ويصبح النبي بالتالي رمزاً لهذا الحزب أو ذاك، بعيداً عما هي الرسالة، وعما هي تقوى الله، وتتحوّل المسألة من حالة إيمان إلى حالة تحزّبٍ.. وبذلك يتقطع أمرهم؛ فلكل منهم كتاب، ولكل منهم معبد، ولكل جهةٍ رسول، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وهو فرح ذاتي أناني يحلم بالانتصارات الفئوية العدوانية، وليس فرحاً روحياً ينطلق من المواقف الرسالية التي تنفتح لأعدائها، لتفتح قلوبهم على الحقّ، وتلاحق أصدقاءها بالنقد إذا انحرفوا عنه.. إنه معنى الرسالة في الحزب الذي يحطّم الحواجز بينه وبين الناس، لتكون الرسالة هي خطابه لهم، لا شخصيته الذاتية، على مستوى الفئة أو الطائفة أو ما يشبه ذلك. الإسلام منفتح على كل الرسالات وهذا الخط الإيجابي المنفتح هو خط الإسلام، الذي جاء به رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم)، فقد جعل من صُلب عقيدة الإيمان به، الإيمان بكلّ الرسل والرسالات السابقة، ولم يفرّق بين رسول ورسول، لجهة الإيمان والكفر، كما يفعل اليهود والنصارى، كما صدّق كل الكتب التي بين يديه، لأنه يؤمن بالكتاب كله، لذا تحدث عن الإنجيل ومفاهيمه، وعن التوراة وشرائعها، كما دعا الجميع إلى الوقوف عند ما يتفقون عليه معه، وإلى الحوار في ما يختلفون فيه معه، ولم يتعقد من خلاف، ولم ينغلق على أحد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وقد حذّرت الآية التالية البشر من الفُرقة والاختلاف، بعد أن تمّت في الآية السابقة دعوتهم إلى التمسّك بالوحدة فقالت: (فتقطّعوا أمرهم بينهم زبراً) وممّا يثير الدهشة أنّ (كلّ حزب بما لديهم فرحون)...
فكلّ حزب يتحدّث بما تشتهي نفسه، ويصرّ على رأيه...
تستعرض الآية حقيقة نفسيّة واجتماعية هي أنّ التعصّب الجاهلي للأحزاب والفئات يمنع وصولها إلى الحقيقة! لأنّ كلاًّ منها قد اتّخذ سبيلا خاصّاً به، وأصبح في قوقعة لا تسمح لنور جديد بالدخول إلى قلبه، ولا بنسيم معنوي يهبّ على روحه ليكشف لها حقيقة من الحقائق...
وهذه الحالة نتجت عن حبّ الذات المفرط والعناد، وهما أكبر عدوٍّ للحقيقة، ولوحدة الاُمّة...
إنّ الاعتزاز بالنمط الذي تعيشه كلّ فئة واحتقار سواه يجعل الإنسان يصمّ اُذنيه عن كلّ صوت يخالف ما اعتقده. ويُغطّي رأسه بثوبه، أو يلجأ إلى الفرار خوفاً من تجلّي حقيقة على خلاف ما اعتاد عليه كما يذكر القرآن المجيد عن حال المشركون زمن نوح (عليه السلام) وعلى لسان هذا النّبي المرسل: (وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارا). ولا يمكن للإنسان النجاة بنفسه والوصول إلى الحقّ إلاّ بالتخلّص من هذه الحالة وإنهاء عناده.