الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا} (44)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{أم تحسب أن أكثرهم يسمعون} إلى الهدى {أو يعقلون} الهدى، ثم شبههم بالبهائم، فقال سبحانه: {إن هم إلا كالأنعام} في الأكل والشرب لا يلتفتون إلى الآخرة {بل هم أضل سبيلا}، يقول: بل هم أخطأ طريقا من البهائم، لأنها تعرف ربها وتذكره، وكفار مكة لا يعرفون ربهم فيوحدونه.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"أم تَحْسبُ" يا محمد أن أكثر هؤلاء المشركين "يَسْمعُونَ" ما يُتلى عليهم، فيعون "أوْ يَعْقِلُونَ" ما يعاينون من حجج الله، فيفهمون؟

"إنْ هُمْ إلاّ كالأَنْعامِ" يقول: ما هم إلا كالبهائم التي لا تعقل ما يقال لها، ولا تفقه، بل هم من البهائم أضلّ سبيلاً، لأن البهائم تهتدي لمراعيها، وتنقاد لأربابها، وهؤلاء الكفرة لا يطيعون ربهم، ولا يشكرون نعمة من أنعم عليهم، بل يكفرونها، ويعصون من خلقهم وبرأهم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... لا تحسب {أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون} أي لا ينتفعون بما يسمعون، ولا ينتفعون بما يعقلون، والله أعلم.

{إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} قال بعضهم: {كالأنعام} لأن همتهم، ليست إلا كهمة الأنعام، وهي الأكل والشرب، ليست لهم همة سواها، وليست للأنعام همة العاقبة، فعلى ذلك الكفرة؛ فهم كالأنعام من هذه الجهة.

وقوله تعالى: {بل هم أضل سبيلا} قال قائلون: قوله: {أضل} لأن الأنعام، تعرف ربها وخالقها، وتذكره، وهم لا يعرفون ربهم، ولا يذكرون. أو هم أضل لأنهم ينسبون إلى الله ما لا يليق به من الولد والشريك، ويشركون غيره في العبادة، والأنعام لا تفعل ذلك؛ فهم أضل.

وقال بعضهم: هم أضل لأن الأنعام إذ هديت إلى الطريق اهتدت، وهم يهدون ويدعون إلى الطريق فلا يهتدون ولا يجيبون، فهم أضل.

أو يقال: هم أضل لأنهم يَضلون ويُضلون غيرهم، ويمنعونهم من الهدى، والأنعام لا، والله أعلم.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} ما يقول: سماع طالب للإفهام {أَوْ يَعْقِلُونَ} ما يعاينون من الحجج والأعلام، {إِنْ هُمْ} ما هم {إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} لأنّ البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها التي تعلفها وتعهدها، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربّهم الذي خلقهم ورزقهم.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

كالأنعام التي ليس لها هَمٌّ إلاَّ في أَكْلَةٍ وشَرْبَة، ومَنْ استجلب حظوظَ نَفْسِه فكالبهائم. وإنَّ الله -سبحانه- خَلَقَ الملائكةَ وعلى العقلِ جَبَلَهم، والبهائمَ وعلى الهوى فَطَرَهم، وبنى آدم ورَكّبَ فيهم الأمْرَيْن؛ فَمَنْ غًلَبَ هواه عَقْلَه فهو شرُّ من البهائم، ومَنْ غَلَبَ عَقْلُه هواه فهو خيرٌ من الملائكة..

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

(أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون). أي: أتحسب. وقوله: (إن هم إلا كالأنعام). أي: ما هم إلا كالأنعام، جعلهم كالأنعام؛ لأنهم لم يدركوا طريق الحق، ولم ينتفعوا بما ميزهم الله به عن البهائم من عقولهم وأسماعهم وأبصارهم.

(بل هم أضل سبيلا) أي: أخطأ طريقا، وجعل الكفار أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تسجد وتسبح لله تعالى، والكفار لا يسجدون ولا يسبحون؛ ولأن البهائم لم يعرفوا، ولم يكونوا أعطوا آله المعرفة. وأما الكفار لم يعرفوا وقد أعطوا آلة المعرفة، فهم أضل؛ ولأن البهائم لم تفسد ما لها من المعارف؛ فإن الله تعالى أعطاها قدرا من المعارف وهم يستعملونها، وأما الكفار فقد أفسدوا ما لهم من المعارف، فهم أضل وأقل من البهائم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

معناه: بل أتحسب كأن هذه المذمة أشدّ من التي تقدّمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول، لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذناً ولا إلى تدبره عقلاً، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلال، ثم أرجح ضلالة منها.

فإن قلت: ما معنى ذكر الأكثر؟ قلت: كان فيهم من لم يصدّه عن الإسلام إلاّ داء واحد: وهو حب الرياسة، وكفى به داء عضالاً.

فإن قلت: كيف جُعلوا أضلّ من الإنعام؟ قلت: لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرّها «وتهتدي لمراعيها ومشاربها». وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوّهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أشدّ المضارّ والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنيّ والعذب الروي.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما انتفى الرد عن الهوى قسراً بالوكالة، نفى الرد طوعاً بتقبيح الضلالة، فذكر المانع منه بقوله معادلاً لما قبله، منكراً حسبانه، لا كونه هو الحاسب، أو أنكر كونه هو الحاسب، مع ما له من العقل الرزين، والرأي الرصين، ويكون {تحسب} معطوفاً على "تكون ": {أم تحسب أن أكثرهم} أي هؤلاء المدعوين {يسمعون} أي سماع من ينزجر ولو كان غير عاقل كالبهائم {أو يعقلون} ما يرون ولو لم يكن لهم سمع حتى يطمع في رجوعهم باختيارهم من غير قسر.

ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي، أثبت ما أفهمه بقوله: {إن} أي ما {هم إلا كالأنعام} أي في عدم العقل لعدم الانتفاع به {بل هم أضل} أي منها {سبيلاً} لأنهم لا ينزجرون بما يسمعون وهي تنزجر، ولا يشكرون للمحسن وهو وليهم، ولا يجانبون المسيء وهو عدوهم، ولا يرغبون في الثواب، ولا يخافون العقاب، وذلك لأنا حجبنا شموس عقولهم بظلال الجبال الشامخة من ضلالهم، ولو آمنوا لانقشعت تلك الحجب، وأضاءت أنوار الإيمان، فأبصروا غرائب المعاني، وتبدت لهم خفايا الأسرار

(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} [يونس: 9] فكما أن الإنسان -وإن كان بصيراً- لا يميز بين المحسوسات ما لم يشرق عليها نور الشمس، فكذلك الإنسان -وإن كان عاقلاً ذا بصيرة- لا تدرك بصيرته المعاني المعلومات على ما هي عليه ما لم يشرق عليها نور الإيمان، لأن البصيرة عين الروح كما أن البصر عين الجسد؛ ولما كان من المعلوم أنهم يسمعون ويعقلون وأن المنفي إنما هو انتفاعهم بذلك، كان موضع عجب من صرفهم عن ذلك، فعقبه سبحانه بتصرفه في الأمور الحسية مثالاً للأمور المعنوية، ولأن عمله في الباطن ينيره إذا شاء بشمس المعارف كعمله في الظاهر سواء، دليلاً على سلبهم النفع بما أعطاهموه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يخطو خطوة أخرى في تحقير هؤلاء الذين يتعبدون هواهم، ويحكمون شهواتهم، ويتنكرون للحجة والحقيقة، تعبدا لذواتهم وهواها وشهواتها. يخطو خطوة أخرى فيسويهم بالأنعام التي لا تسمع ولا تعقل. ثم يخطو الخطوة الأخيرة فيدحرجهم من مكانة الأنعام إلى درك أسفل و أحط: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟ إن هم إلا كالأنعام. بل هم أضل سبيلا). وفي التعبير تحرز وإنصاف، إذ يذكر (أكثرهم) ولا يعمم، لأن قلة منهم كانت تجنح إلى الهدى، أو تقف عند الحقيقة تتدبرها. فأما الكثرة التي تتخذ من الهوى إلها مطاعا، والتي تتجاهل الدلائل وهي تطرق الأسماع والعقول، فهي كالأنعام. وما يفرق الإنسان من البهيمة إلا الاستعداد للتدبر والإدراك، والتكيف وفق ما يتدبر ويدرك من الحقائق عن بصيرة وقصد وإرادة واقتناع، ووقوف عند الحجة والاقتناع. بل إن الإنسان حين يتجرد من خصائصه هذه ليكونن أحط من البهيمة، لأن البهيمة تهتدى بما أودعها الله من استعداد، فتؤدي وظائفها أداء كاملا صحيحا. بينما يهمل الإنسان ما أودعه الله من خصائص، ولا ينتفع بها كما تنتفع البهيمة: (إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا).. وهكذا يعقب على استهزائهم برسول الله [صلى الله عليه وسلم] ذلك التعقيب الذي يخرج المستهزئين من إطار الآدمية في عنف واحتقار ومهانة.

وهكذا ينتهي الشوط الثاني في السورة..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

انتقال عن التأييس من اهتدائهم لغلبة الهوى على عقولهم إلى التحذير من أن يظن بهم إدراك الدلائل والحجج، وهذا توجيه ثان للإعراض عن مجادلتهم التي أنبأ عنها قوله تعالى: {وسوف يعلمون حين يَرَوْن العذاب مَن أضلّ سبيلاً} [الفرقان: 42]، ف {أم} منقطعة للإضراب الانتقالي من إنكار إلى إنكار وهي مؤذنة باستفهام عطفته على الاستفهام الذي قبلها. والتقدير: أم أتحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون.

والمراد من نفي {أن أكثرهم يسمعون} نفي أثر السماع وهو فهم الحق لأن ما يلقيه إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يَرتاب فيه إلا من هو كالذي لم يسمعه. وهذا كقوله تعالى {ولا تُسمع الصُّمَّ الدعاء إذا ولَّوْا مدبرين} [النمل: 80].

وعطف {أو يعقلون} على {يسمعون} لنفي أن يكونوا يعقلون الدلائل غير المقالية وهي دلائل الكائنات قال تعالى: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101].

وإنما نُفي فهم الأدلة السمعية والعقلية عن أكثرهم دون جميعهم، لأن هذا حال دهمائهم ومقلِّديهم، وفيهم معشر عقلاء يفهمون ويستدلون بالكائنات ولكنهم غلب عليهم حبّ الرئاسة وأَنِفوا من أن يعودوا أتباعاً للنبيء صلى الله عليه وسلم ومساوين للمؤمنين من ضعفاء قريش وعبيدهم مِثل عمار، وبلال.

وجملة {إن هم إلا كالأنعام} مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما تقدم من إنكار أنهم يسمعون يثير في نفس السامعين سؤالاً عن نفي فهمهم لما يسمعون مع سلامة حواس السمع منهم، فكان تشبيههم بالأنعام تبييناً للجمع بين حصول اختراق أصوات الدعوة آذانهم مع عدم انتفاعهم بها لعدم تهيئهم للاهتمام بها، فالغرض من التشبيه التقريب والإمكان...

وانتُقل في صفة حالهم إلى ما هو أشدّ من حال الأنعام بأنهم أضلّ سبيلاً من الأنعام. وضَلال السبيل عدم الاهتداء للمقصود لأن الأنعام تفقه بعض ما تسمعه من أصوات الزجر ونحوها من رُعاتها وسائقيها وهؤلاء لا يفقهون شيئاً من أصوات مرشدهم وسائسهم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا كقوله تعالى {فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة وإن من الحجارة لَمَا يتفجر منه الأنهار} [البقرة: 74] الآية.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} إنهم لا يحركون أسماعهم في طريق المعرفة، ولا يثيرون عقولهم في آفاق الحق، من خلال الترابط بين السمع الذي ينقل الكلمة وبين العقل الذي يبلور الفكرة من خلالها بالتأمل والتفكير.

وربما كان هناك وجه آخر للحديث عن السمع أو العقل، وهو ما ذكره صاحب الميزان في قوله: «والترديد بين السمع والعقل من جهة أنَّ وسيلة الإنسان إلى سعادة الحياة أحد أمرين، إما أن يستقل بالتعقل فيعقل الحق فيتبعه، أو يرجع إلى قول من يعقله وينصحه فيتبعه إن لم يستقل بالتعقل، فالطريق إلى الرشد سمعٌ أو عقل، فالآية في معنى قوله: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [1] [الملك: 10]:

{إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} التي لا تعي أيّ معنى في الكلمة التي تسمعها، فلا تثير فيها أيّ شيء. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وذلك من ناحيتين:

إحداهما: أن الأنعام لا تملك العقل الذي يمكن أن تهتدي به إلى معرفة الحق، بينما يملك هؤلاء كل أدوات المعرفة ووسائلها، فلا يعملون على الاهتداء بها.

وثانيتهما، أن الأنعام لا تمارس الأعمال التي تدرك ضررها، بينما يقتحم هؤلاء ما يعلمون أنه يضرهم ولا ينفعهم.