مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا} (44)

وثالثها : قوله : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون } أم ههنا منقطعة ، معناه بل تحسب ، وذلك يدل على أن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى حقت بالإضراب عنها إليها ، وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول ، لأنهم لشدة عنادهم لا يصغون إلى الكلام ، وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه ، فكأنه ليس لهم عقل ولا سمع البتة ، فعند ذلك شبههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بالكلام وعدم إقدامهم على التدبر والتفكر وإقبالهم على اللذات الحاضرة الحسية وإعراضهم عن طلب السعادات الباقية العقلية وها هنا سؤالات :

السؤال الأول : لم قال : { أم تحسب أن أكثرهم } فحكم بذلك على الأكثر دون الكل ؟ والجواب : لأنه كان فيهم من يعرف الله تعالى ويعقل الحق ، إلا أنه ترك الإسلام لمجرد حب الرياسة لا للجهل .

السؤال الثاني : لم جعلوا أضل من الأنعام ؟ الجواب : من وجوه . أحدها : أن الأنعام تنقاد لأربابها وللذي يعلفها ويتعهدها وتميز بين من يحسن إليها وبين من يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يميزون بين إحسانه إليهم وبين إساءة الشيطان إليهم الذين هو عدو لهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يحترزون من العقاب الذي هو أعظم المضار . وثانيها : أن قلوب الأنعام كما أنها تكون خالية عن العلم فهي خالية عن الجهل الذي هو اعتقاد المعتقد على خلاف ما هو عليه مع التصميم . وأما هؤلاء فقلوبهم كما خلت عن العلم فقد اتصفت بالجهل فإنهم لا يعلمون ولا يعلمون أنهم لا يعلمون ، بل هم مصرون على أنهم يعلمون . وثالثها : أن عدم علم الأنعام لا يضر بأحد . أما جهل هؤلاء فإنه منشأ للضرر العظيم ، لأنهم يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجا . ورابعها : أن الأنعام لا تعرف شيئا ولكنهم عاجزون عن الطلب . وأما هؤلاء الجهال فإنهم ليسوا عاجزين عن الطلب ، والمحروم عن طلب المراتب العالية إذا عجز عنه لا يكون في استحقاق الذم كالقادر عليه التارك له لسوء اختياره . وخامسها : أن البهائم لا تستحق عقابا على عدم العلم ، أما هؤلاء فإنهم يستحقون عليه أعظم العقاب . وسادسها : أن البهائم تسبح الله تعالى على مذهب بعض الناس على ما قال { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } وقال : { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات } إلى قوله : { والدواب } وقال : { والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه } وإذا كان كذلك فضلال الكفار أشد وأعظم من ضلال هذه الأنعام .

السؤال الثالث : أنه سبحانه لما نفى عنهم السمع والعقل ، فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين وكيف بعث الرسول إليهم فإن من شرط التكليف العقل ؟ الجواب : ليس المراد أنهم لا يعقلون بل إنهم لا ينتفعون بذلك العقل ، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم إنما أنت أعمى وأصم .