فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا} (44)

ثم انتقل سبحانه من الإنكار الأول إلى إنكار آخر فقال :

{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ ؟ } " ما تتلو عليهم من آيات القرآن ، ومن المواعظ سماع تفهم ، واعتبار " { أَوْ يَعْقِلُونَ } معاني ذلك ويفهمونه ، حتى تعتني بشأنهم ، وتطمع في إيمانهم ، وليسوا كذلك ، بل هم بمنزلة من لا يسمع ، ولا يعقل . وتخصيص الأكثر بالذكر ، لأنه كان منهم من آمن ، ومنهم من عقل الحق ، وكابر استكبارا وخوفا على الرياسة ، ثم بين سبحانه حالهم ، وقطع مادة الطمع فيهم فقال :

{ إِنْ هُمْ } أي ما هم في الانتفاع بما يسمعونه { إِلا كَالأَنْعَامِ } التي هي مسلوبة العقل والفهم ، فلا تطمع فيهم فإن فائدة السمع والعقل مفقودة ، وإن كانوا يسمعون ما يقال لهم ، ويعقلون ما يتلى عليهم ، ولكنهم لما لم ينتفعوا بذلك ، كانوا كالفاقد له . ثم أضرب سبحانه عن الحكم عليهم ، بأنهم كالأنعام ، إلى ما هو فوق ذلك ، فقال :

{ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } من الأنعام { سَبِيلا } أي طريقا قال مقاتل : البهائم تعرف ربها ، وتهتدي إلى مراعيها ومشاربها ، وتنقاد لأربابها ، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم ، الذي خلقهم ، ورزقهم ، والمعنى أنها تنقاد لمن يتعهدها وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها ، وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء ، لا ينقادون لربهم ، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ولأن جهالتها لا تضر بأحد وجهالة هؤلاء تؤدي إلى تهييج الفتن ، وصد الناس عن الحق ، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال ، فلا تقصير منها ، ولا ذم عليها ، وهؤلاء مقصرون ، ومستحقون أعظم العقاب على تقصيرهم .

وقيل إنما كانوا أضل من الأنعام لأنه لا حساب عليها ولا عقاب لها ، وقيل إنما كانوا أضل لأن البهائم إذا لم تعقل صحة التوحيد والنبوة ، لم تعتقد بطلان ذلك ، بخلاف هؤلاء ، فإنهم اعتقدوا البطلان عنادا ومكابرة ، وتعصبا . وغمطا للحق ، وقيل إن الأنعام تسجد وتسبح ، والكفار لا يفعلون ذلك ، وقيل الملائكة روح ، وعقل ، والبهائم نفس ، وهوى ، والآدمي مجمع الكل ابتلاء ، فإن غلبته النفس والهوى ، فضلته الأنعام ، وإن غلبته الروح وضلالتهم ، أتبعه بذكر طرف من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الإنعام ، وحاصل ما ذكر منها خمسة ، فأولها الاستدلال بأحوال الظل فقال :

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ( 45 ) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ( 46 ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ( 47 ) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ( 48 ) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا ( 49 ) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا ( 50 ) } .