الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَلَقَدۡ جَآءَكُمۡ يُوسُفُ مِن قَبۡلُ بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَمَا زِلۡتُمۡ فِي شَكّٖ مِّمَّا جَآءَكُم بِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا هَلَكَ قُلۡتُمۡ لَن يَبۡعَثَ ٱللَّهُ مِنۢ بَعۡدِهِۦ رَسُولٗاۚ كَذَٰلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ مُّرۡتَابٌ} (34)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم وعظهم ليتفكروا فقال: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات} ولم يكن رآه المؤمن قط.

و {من قبل} موسى {بالبينات} يعني ببينات تعبير رؤيا الملك البقرات السبع بالسنين.

{فما زلتم في شك مما جاءكم به} يعني مما أخبركم من تصديق الرؤيا.

{حتى إذا هلك} يعني مات {قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك} يعني هكذا {يضل الله} عن الهدى إضمار {من هو مسرف} يعني من هو مشرك.

{مرتاب} يعني شاك في الله عز وجل، لا يوحد الله تعالى.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: ولقد جاءكم يوسف بن يعقوب يا قوم من قبل موسى بالواضحات من حجج الله...

وقوله:"فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكّ مِمّا جاءَكُمْ بِهِ" يقول: فلم تزالوا مرتابين فيما أتاكم به يوسف من عند ربكم غير موقني القلوب بحقيقته،

"حتى إذَا هَلَكَ "يقول: حتى إذا مات يوسف قلتم أيها القوم: لن يبعث الله من بعد يوسف إليكم رسولاً بالدعاء إلى الحقّ.

و "كَذَلكَ يُضِلّ اللّهُ مَنْ هُوَ مُسْرفٌ مُرْتابٌ" يقول: هكذا يصدّ الله عن إصابة الحق وقصد السبيل من هو كافر به مرتاب، شاك في حقيقة أخبار رسله.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

جائز أن يكون هذا قول ذلك الرجل لقومه؛ يخبرهم عن سفه أوائلهم من تكذيبهم يوسف...وجائز أن يكون، وإن خاطبهم بقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} وقوله: {فما زلتم في شك مما جاءكم به} وقوله: {قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا} إنما أراد آباءهم وأوائلهم؛ لأن يوسف عليه السلام لم يكن في زمن هؤلاء مبعوثا إليهم على ما عاتب الأبناء بصنع آبائهم في غير آية من القرآن كقوله {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} [البقرة: 91].

يقول: إياكم أن تكذّبوه، وتردّوا آياته وحججه، ثم تقولوا: إذا مات موسى لن يبعث الله من بعده رسولا كما قال أوائلكم: إذا مات يوسف لم يكن من بعده رسول.

{حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} يخرّج على وجهين: أحدهما: آمنوا به، وأنكروا رسالة غيره بعد رسولهم: {لن يبعث الله من بعده رسولا}. والثاني: أي أنكروا رسالته في حال حياته، ولم يؤمنوا به، فإذا هلك أنكروا أن يكون هو مبعوثا إليهم رسولا.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"كذلك يضل الله" أي مثل ما حكم الله بضلال أولئك يحكم بضلال "كل مسرف" على نفسه بارتكاب معاصيه "مرتاب" أي شاك في أدلة الله...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{حتى إِذَا} قبض {قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} حكماً من عند أنفسكم من غير برهان وتقدمة عزم منكم على تكذيب الرسل، فإذا جاءكم رسول جحدتم وكذبتم بناء على حكمكم الباطل الذي أسستموه.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما لم يكن مجيئه مستغرقاً لما تقدم موسى عليه السلام من الزمان أدخل الجار فقال: {من قبل} أي قبل زمن موسى عليه السلام: {بالبينات}.

{فما زلتم} بكسر الزاي من زال يزال أي ما برحتم أنتم تبعاً لآبائكم {في شك} أي محيط بكم لم تصلوا إلى رتبة الظن {مما جاءكم به} من التوحيد وما يتبعه، ودل على تمادي شكهم بقوله: {حتى إذا هلك} وكأنه عبر بالهلاك إيهاماً لهم أنه غير معظم له، وأنه إنما يقول ما يشعر بالتعظيم؛ لأجل محض النصيحة والنظر في العاقبة {قلتم} أي من عند أنفسكم بغير دليل كراهة لما جاء به وتضجرا منه جهلاً بالله تعالى: {لن يبعث الله} أي الذي له صفات الكمال.

ولما كان مرادهم استغراق النفي حتى لا يقع البعث في زمن من الأزمان وإن قل، أدخل الجار فقال: {من بعده} أي يوسف عليه السلام {رسولا} وهذا...الحجر على الملك الأعظم في عباده وبلاده والإخبار عنه بما ينافي كماله.

ولما كان كأنه قيل: هذا ضلال عظيم هل ضل أحد مثله؟ أجيب بقوله: {كذلك} أي مثل هذا الضلال العظيم الشأن {يضل} وأبرز الاسم ولم يضمره لئلا يخص الإضلال بالحيثية الماضية، وجعله الجلالة تعظيماً للأمر لصلاحية الحال لذلك وكذا ما يأتي بعده {الله} أي بما له من صفات القهر {من هو مسرف} أي متعال في الأمور خارج عن الحدود طالب للارتفاع عن طور البشر.

ولما كان السياق للشك في الرسالة والقول بالظن الذي يلزم منه اتهام القادر سبحانه بالعجز أو مجانبة الحكمة قال: {مرتاب} أي يشك فيما لا يقبل الشك ويتهم غيره بما لا حظّ للتهمة فيه، أي ديدنه التذبذب في الأمور الدينية، فلا يكاد يحقق أمراً من الأمور، ولا إسراف ولا ارتياب أعظم من حال المشرك فإنه منع الحق أهله وبذله لمن لا يستحقه بوجه.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهذه هي المرة الوحيدة في القرآن التي يشار فيها إلى رسالة يوسف -عليه السلام- للقوم في مصر. وقد عرفنا من سورة يوسف، أنه كان قد وصل إلى أن يكون على خزائن الأرض، المتصرف فيها. وأنه أصبح "عزيز مصر "وهو لقب قد يكون لكبير وزراء مصر. وفي السورة كذلك ما قد يؤخذ منه أنه جلس على عرش مصر -وإن لم يكن ذلك مؤكداً- وذلك قوله: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً وقال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً).. وقد يكون العرش الذي رفع عليه أبويه شيئاً آخر غير عرش المملكة المصرية الفرعونية. وعلى أية حال فقد وصل يوسف إلى مكان الحكم والسلطان. ومن ثم نملك أن نتصور الحالة التي يشير إليها الرجل المؤمن. حالة شكهم فيما جاءهم به يوسف من قبل، مع مصانعة يوسف صاحب السلطان وعدم الجهر بتكذيبه وهو في هذا المكان! (حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً).. وكأنما استراحوا لموته، فراحوا يظهرون ارتياحهم في هذه الصورة، ورغبتهم عما جاءهم به من التوحيد الخالص، الذي يبدو مما تكلم به في سجنه مع صاحبي السجن: (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار).. فزعموا أن لن يجيئهم من بعده رسول؛ لأن هذه كانت رغبتهم. وكثيراً ما يرغب المرء في شيء ثم يصدق تحققه؛ لأن تحققه يلبي هذه الرغبة! والرجل المؤمن يشتد هنا وهو يشير إلى هذا الارتياب والإسراف في التكذيب فيقول: (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب).. فينذرهم بإضلال الله الذي ينتظر كل مسرف مرتاب في عقيدته وقد جاءته معها البينات...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

توسم فيهم قلة جدوى النصح لهم وأنهم مصممون على تكذيب موسى فارتقى في موعظتهم إلى اللوم على ما مضى، ولتذكيرهم بأنهم من ذرية قوم كذّبوا يوسف لما جاءهم بالبينات فتكذيب المرشدين إلى الحق شنشنة معروفة في أسلافهم فتكون سجية فيهم.

وتأكيد الخبر ب (قد) ولام القسم لتحقيقه؛ لأنهم مظنة أن ينكروه لبعد عهدهم به، فالمجيء في قوله: {جاءكم} مستعار للحصول والظهور والباء للملابسة، أي ولقد ظهر لكم يوسف ببيّنات، ولا يلزم أن يكون إظهار البينات مقارناً دعوةً إلى شرع لأنه لما أظهر البينات وتحققوا مكَانتهُ كان عليهم بحكم العقل السليم أن يتبينوا آياته ويستهدوا طريقَ الهدى والنجاة، فإن الله لم يأمر يوسف بأن يدعو فرعون وقومه، لحكمة لعلَّها هي انتظار الوقت والحالِ المناسب الذي ادخره الله لموسى عليه السلام...

والبينات: إخباره بما هو مغيب عنهم من أحوالهم بطريق الوحي في تعبير الرُّؤَى، وكذلك آية العصمة التي انفرد بها من بينهم وشهدت له بها امرأة العزيز وشاهِدُ أهلها حتى قال المَلِك: {ائتوني به استخلصه لنفسي} [يوسف: 54]، فكانت دلائل نبوءة يوسف واضحة ولكنهم لم يستخلصوا منها استدلالاً يقتفون به أثره في صلاح آخرتهم، وحرصوا على الانتفاع به في تدبير أمور دنياهم فأودعوه خزائن أموالهم وتدبير مملكتهم، فقال له الملِك: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} [يوسف: 54]. ولم يخطر ببالهم أن يسْترشدوا به في سلوكهم الديني.

فإن قلت: إذا لم يهتدوا إلى الاسترشاد بيوسف في أمور دينهم وألهاهم الاعتناء بتدبير الدنيا عن تدبير الدين فلماذا لم يدْعُهم يوسف إلى الاعتقاد بالحق واقتصر على أن سَأَل من الملك: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف: 55]...

قلت: لأن الله لم يأمره بالدعوة للإِرشاد إلا إذا سُئل منه ذلك لحكمة كما علمت آنفاً، فأقامه الله مقام المفتي والمرشد لمن استرشد لا مقام المحتسب المغيِّر للمنكر، و {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124]، فلما أقامه الله كذلك وعَلِم يوسف من قول الملك: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} [يوسف: 54] أن الملك لا يريد إلا تدبير مملكته وأمواله، لم يسأله أكثر مما يفي له بذلك. وأما وجوب طلبهم المعرفة والاسترشاد منه فذلك حق عليهم.

فمعنى: {فَمَا زِلْتُم في شَكّ مِمَّا جَاءَكُم به} الإِنحاء على أسلافهم في قلة الاهتمام بالبحث عن الكمال الأعلى وهو الكمال النفساني باتباع الدين القويم، أي فما زال أسلافكم يشعرون بأن يوسف على أمر عظيم من الهُدى غير مألوف لهم ويهرعون إليه في مهماتهم ثم لا تعزم نفوسهم على أن يطلبوا منه الإرشاد في أمور الدين، فهم من أمره في حالة شك، أي كان حاصل ما بلغوا إليه في شأنه أنهم في شك مما يكشف لهم عن واجبهم نحوه فانقضت مدة حياة يوسف بينهم وهم في شك من الأمر.

و {حتى} للغاية وغايتها هو مضمون الجملة التي بعدها وهي جملة: {إذَا هَلَكَ}،

و {إذَا} هنا اسم لزمان المضي مجرورة ب (حتى) وليست بظرف، أي حتى زمنِ هلاك يوسف قُلتم: لن يَبعث الله من بعده رسولاً، أي قال أسلافكم في وقت وفاة يوسف: لا يبعث الله في المستقبل أبداً رسولاً بعد يوسف، يعنون: أنا كنا مترددين في الإِيمان بيوسف فقد استرحنا من التردد فإنه لا يجيء من يدَّعِي الرسالة عن الله من بعده، وهذا قول جَرى منهم على عادة المعاندين والمقاومين لأهل الإِصلاح والفضل أن يعترفوا بفضلهم بعد الموت تندماً على ما فاتهم من خير كانوا يَدعونهم إليه...

{كذلك يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} إلى قوله: {جَبَّارٍ}. كله من كلام الله تعالى معترَض بين كلام المؤمن وكلام فرعون فإن هذا من المعاني الإِسلامية قصد منه العبرة بحال المكذبين بموسى تعريضاً بمشركي قريش، أي كضلال قوم فرعون يضل الله من هو مسرف مرتاب أمثالكم، فكذلك يكون جزاؤكم.