الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلۡحَقِّ مِنۡ عِندِنَا قَالُواْ ٱقۡتُلُوٓاْ أَبۡنَآءَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ وَٱسۡتَحۡيُواْ نِسَآءَهُمۡۚ وَمَا كَيۡدُ ٱلۡكَٰفِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَٰلٖ} (25)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{فلما جاءهم} موسى {بالحق من عندنا} يعني اليد والعصا آمنت به بنو إسرائيل ف {قالوا} أي قال فرعون وحده لقومه للملأ يعني الأشراف: {اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه} يعني مع موسى.

{واستحيوا نساءهم}: اقتلوا أبناهم ودعوا البنات، فلما هموا بذلك حبسهم الله عنهم حين اقطعهم البحر، يقول الله عز وجل: {وما كيد الكافرين إلا في ضلال} آية يعني خسار: {وما كيد} فرعون الذي أراد ببني إسرائيل من قتل الأبناء واستحياء النساء {إلا في ضلال} يعني خسار.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فلما جاء موسى هؤلاء الذين أرسله الله إليهم بالحقّ من عندنا، وذلك مجيئه إياهم بتوحيد الله، والعمل بطاعته، مع إقامة الحجة عليهم، بأن الله ابتعثه إليهم بالدعاء إلى ذلك قالُوا:"اقْتُلُوا أبْناءَ الّذِينَ آمَنُوا بالله مَعَهُ" من بني إسرائيل "وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ "يقول: واستبقوا نساءهم للخدمة.

فإن قال قائل: وكيف قيل "فَلَمّا جاءَهُمْ مُوسَى بالحَقّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أبْناءَ الّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ"، وإنما كان قتل فرعون الولدان من بني إسرائيل حذار المولود الذي كان أخبر أنه على رأسه ذهاب ملكه، وهلاك قومه، وذلك كان فيما يقال قبل أن يبعث الله موسى نبيّا؟ قيل: إن هذا الأمر بقتل أبناء الذين آمنوا مع موسى، واستحياء نسائهم، كان أمرا من فرعون وملئه من بعد الأمر الأوّل الذي كان من فرعون قبل مولد موسى...

وقوله: "وَما كَيْدُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ" يقول: وما احتيال أهل الكفر لأهل الإيمان بالله إلا في جور عن سبيل الحقّ، وصدّ عن قصد المحجة، وأخذ على غير هدى.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَلَمَّا جَاءهُمْ بالحق} بالنبوّة،

فإن قلت: أما كان قتل الأبناء واستحياء النساء من قبل خيفة أو يولد المولود الذي أنذرته الكهنة بظهوره وزوال ملكه على يده؟ قلت: قد كان ذلك القتل حينئذ، وهذا قتل آخر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {قَالُواْ اقتلوا} أعيدوا عليهم القتل كالذي كان أولاً، يريد: أن هذا قتل غير القتل الأول {فِى ضلال} في ضياع وذهاب، باطلاً لم يجد عليهم، يعني: أنهم باشروا قتلهم أولاً فما أغنى عنهم، ونفذ قضاء الله بإظهار من خافوه، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني، وكان فرعون قد كفّ عن قتل الولدان، فلما بعث موسى وأحسّ بأنه قد وقع: أعاده عليهم غيظاً وحنقاً، وظناً منه أنه يصدهم بذلك عن مظاهرة موسى، وما علم أنّ كيده ضائع في الكرتين جميعاً.

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

{وما كيد الكافرين إلا في ضلال} في ضياع، ووضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم والدلالة على العلة...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما أجمل أمره كله في هاتين الآيتين، شرع في تفصيله فقال مشيراً إلى مبادرتهم إلى العناد من غير توقف أصلاً التي أشار إليها حذف المبتدأ والاقتصار على الخبر الذي هو محط الفائدة: {فلما جاءهم} أي موسى عليه السلام {بالحق} أي بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه، كائناً {من عندنا} على ما لنا من القهر، فآمن معه طائفة من قومه.

{قالوا} أي فرعون وأتباعه {اقتلوا} أي قتلاً حقيقياً بإزالة الروح.

{أبناء الذين آمنوا} أي به فكانوا {معه} أي خصوهم بذلك واتركوا من عداهم لعلهم يكذبونه.

{واستحيوا نساءهم} أي اطلبوا حياتهن بأن لا تقتلوهن.

ولما كان هذا أمراً صاداً في العادة لمن يؤمن عن الإيمان وراداً لمن آمن إلى الكفران، أشار إلى أنه سبحانه خرق العادة بإبطاله فقال: {وما} أي والحال أنه ما كيدهم -هكذا كان الأصل ولكنه قال: {كيد الكافرين} تعميماً وتعليقاً بالوصف.

{إلا في ضلال} أي مجانبة للسداد الموصل إلى الظفر والفوز؛ لأنه ما أفادهم أولاً في الحذر من موسى عليه السلام، ولا آخراً في صد من آمن به مرادهم، بل كان فيه تبارهم وهلاكهم، وكذا أفعال الفجرة مع أولياء الله، ما حفر أحد منهم لأحد منهم حفرة مكر إلا أركسه الله فيها...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ويجمل السياق تفصيل ما حدث بعد هذا الجدال، ويطوي موقف المباراة مع السحرة، وإيمانهم بالحق الذي غلب باطلهم ولقف ما يأفكون. ويعرض الموقف الذي تلا هذه الأحداث:

(فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا: اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم).

ويعقب عليه قبل أن تكمل الآية:

(وما كيد الكافرين إلا في ضلال)..

إنه منطق الطغيان الغليظ، كلما أعوزته الحجة، وخذله البرهان، وخاف أن يستعلي الحق، بما فيه من قوة وفصاحة ووضوح، وهو يخاطب الفطرة فتصغي له وتستجيب. كما استجاب السحرة الذين جيء بهم ليغلبوا موسى وما معه، فانقلبوا أول المؤمنين بالحق في مواجهة فرعون الجبار.

فأما فرعون وهامان وقارون فقالوا: (اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم)..

ولقد كان فرعون -في أيام مولد موسى- قد أصدر مثل هذا الأمر. وهناك أحد احتمالين فيما حدث بعد ذلك الأمر الأول.. الاحتمال الأول أن فرعون الذي أصدر ذلك الأمر كان قد مات وخلفه ابنه أو ولي عهده، ولم يكن الأمر منفذاً في العهد الجديد، حتى جاء موسى وواجه الفرعون الجديد، الذي كان يعرفه وهو ولي للعهد، ويعرف تربيته في القصر، ويعرف الأمر الأول بتذبيح الذكور وترك الإناث من بني إسرائيل. فحاشيته تشير إلى هذا الأمر، وتوحي بتخصيصه بمن آمنوا بموسى، سواء كانوا من السحرة أو من بني إسرائيل القلائل الذين استجابوا له على خوف من فرعون وملئه.. والاحتمال الثاني: أنه كان فرعون الأول الذي تبنى موسى، ما يزال على عرشه. وقد تراخى تنفيذ الأمر الأول بعد فترة أو وقف العمل به بعد زوال حدته. فالحاشية تشير بتجديده، وتخص به الذين آمنوا مع موسى وحدهم للإرهاب والتخويف.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

رَمَوْه ابتداءً بأنه ساحر كذاب توهماً أنهم يلقمونه حجر الإِحجام فلما استمر على دَعوته وجاءهم بالحق، أي أظهر لهم الآيات الحقَّ أي الواضحة، فأطلق {جاءهم} على ظهور الحق كقوله تعالى: {جاء الحق وزهق الباطل} [الإسراء: 81]. و {مِن عِندِنا} وصف للحق لإِفادة أنه حق خارق للعادة لا يكون إلا من تسخير الله وتأييده وهو آيات نبوته التسعُ...

{وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إلاَّ في ضَلالٍ}. وهو محل الاعتبار لقريش بأن كيد أمثالهم كان مضاعاً فكذلك يكون كيدهم...

وسمي هذا الرأي كيداً لأنهم تشاوروا فيه فيما بينهم دون أن يعلم بذلك موسى والذين آمنوا معه، وأنهم أضمروه ولم يعلنوه ثم شغلهم عن إنفاذه ما حلّ بهم من المصائب التي ذكرت في قوله تعالى في سورة [الأعراف: 130]: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين} الآية، ثم بقوله: {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد} [الأعراف: 133] الآية. والضلال: الضياع والاضمحلال كقوله: {قالوا أئذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10] أي هذا الكيد الذي دبروه قد أخذ الله على أيديهم فلم يجدوا لإنفاذه سبيلاً...