الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَقَالُوٓاْ إِنۡ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا وَمَا نَحۡنُ بِمَبۡعُوثِينَ} (29)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة بالبعث كذبوه، {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} بعد الموت.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

هذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المشركين العادلين به الأوثان والأصنام الذين ابتدأ هذه السورة بالخبر عنهم، يقول تعالى ذكره:"وَقالُوا إنْ هِيَ إلاّ حَياتُنا الدّنيْا" يخبر عنهم أنهم ينكرون أن الله يحي خلقه بعد أن يميتهم، ويقولون: لا حياة بعد الممات ولا بعث ولا نشور بعد الفناء. فهم بجحودهم ذلك وإنكارهم ثواب الله وعقابه في الدار الاَخرة، لا يبالون ما أتوا وما ركبوا من إثم ومعصية لأنهم لا يرجون ثوابا على إيمان بالله وتصديق برسوله وعمل صالح بعد موت، ولا يخافون عقابا على كفرهم بالله ورسوله وسيئ من عمل يعملونه. وكان ابن زيد يقول: هذا خبر من الله تعالى عن هؤلاء الكفرة الذين وُقفوا على النار، أنهم لو ردّوا إلى الدنيا لقالوا: "إنْ هِيَ حيَاتُنا الدّنيَا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ".

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين} قوله تعالى: {إن هي} يحتمل: هي الحياة الدنيا، ويحتمل: هي الدنيا. ثم هذا القول يحتمل أن يكون من الدهرية لأنهم ينكرون البعث والحياة بعد الموت، ويقولون: إن هذا الخلق كالنبات، ينبت ثم يتلاشى. فعلى ذلك الخلق، يموتون، ويصيرون ترابا، ثم يحيون في الدنيا كقوله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24]. ويحتمل أن هذا القول كان من مشركي العرب لما لم يروا إلا الدهر، ولم يشاهدوا غيره، فظنوا أنه ليس يهلكهم إلا ذلك الدهر الذي تدور الدنيا عليه. فإن كان ذلك منهم فإنما كان ذلك من كبرائهم، ورؤسائهم على علم منهم بذلك أي بالبعث يلبسون على السفلة والأتباع ليكونوا أشد اتباعا لهم وانقيادا لأنهم لو أعلموا الأتباع بالبعث بعد الموت لعلهم يتركون طاعتهم واتباعهم لما يشتغلون بالاستعداد لذلك والعمل له؛ ففي ذلك ترك اتباعهم وطاعتهم...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

قوله تعالى: {وقالوا إن هي إلا حياتنا}، هذا على تأويل الجمهور ابتداء كلام وإخبار عنهم بهذه المقالة، ويحسن مع هذا أن يكون قوله قبل {وإنهم لكاذبون} مستأنفاً مقطوعاً خبراً عن حالهم في الدنيا التي من قولهم فيها {إن هي إلا حياتنا الدنيا} وغير ذلك، و {إن} نافية، ومعنى الآية التكذيب بالحشر والعودة إلى الله، وقال ابن زيد قوله {وقالوا} معطوف على قوله {لعادوا} أي {لعادوا} لما نهوا عنه من الكفر {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا}. وتوقيف الله لهم في الآية بعدها على البعث والإشارة إليه في قوله: {أليس هذا بالحق} يرد على هذا التأويل.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه حصل في الآية قولان:

الأول: أنه تعالى ذكر في الآية الأولى، أنه بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل، فبين في هذه الآية أن ذلك الذي يخفونه هو أمر المعاد والحشر والنشر، وذلك لأنهم كانوا ينكرونه ويخفون صحته، ويقولون ما لنا إلا هذه الحياة الدنيوية، وليس بعد هذه الحياة لا ثواب ولا عقاب.

والثاني: أن تقدير الآية ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولأنكروا الحشر والنشر، وقالوا: {إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

أكد طبعهم على الكفر بقوله عطفاً على قوله {لعادوا}: {وقالوا} أي بعد الرد ما كانوا يقولونه قبل الموت في إنكار البعث {إن هي} أي ما هذه الحياة التي نحن ملابسوها {إلاّ حياتنا الدنيا} أي التي كنا عليها قبل ذلك {وما نحن} وأغرقوا في النفي فقالوا: {بمبعوثين} أي بعد أن نموت، وما رؤيتنا لما رأينا قبل هذا من البعث إلاّ سحر لا حقيقة له، ولم ينفعهم مشاهدة البعث بل ضرتهم، هذا محتمل وظاهر، ولكن الأنسب لسياق الآيات قبل وبعد أن يكون هذا حكاية لقولهم له صلى الله عليه وسلم في هذه الدار عطفاً على قوله {وقالوا لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 8] على الوجه الأول،

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بين الله تعالى لنا في هذه الآيات شأنا آخر من شؤون الكفار المكذبين بآياته في الدنيا وهو غرورهم بها، وافتتانهم بمتاعها، وإنكارهم البعث والجزاء، وما يقابله من حالهم في الآخرة يوم يكشف الغطاء، وهو ما يكون من حسرتهم وندمهم عل تفريطهم السابق، وافتتانهم بذلك المتاع الزائل، وقفى عليه ببيان حقيقة الدنيا والمقابلة بينها وبين الآخرة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يدعهم ليفتح صفحتين جديدتين متقابلتين كذلك؛ ويرسم لهما مشهدين متقابلين: أحدهما في الدنيا وهم يجزمون بأن لا بعث ولا نشور، ولا حساب ولا جزاء. وثانيهما في الآخرة وهم موقوفون على ربهم يسألهم عما هم فيه: (أليس هذا بالحق؟).. السؤال الذي يزلزل ويذيب.. فيجيبون إجابة المهين الذليل: (بلى! وربنا).. فيجبهون عندئذ بالجزاء الأليم بما كانوا يكفرون.. ثم يمضي السياق يرسم مشهدهم والساعة تأخذهم بغتة، بعدما كذبوا بلقاء الله، فتنتابهم الحسرة؛ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم! وفي النهاية يقرر حقيقة وزن الدنيا والآخرة في ميزان الله الصحيح:

(وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا، وما نحن بمبعوثين. ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال: أليس هذا بالحق؟ قالوا: بلى وربنا. قال: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون.. قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها، وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون، وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، وللدار الآخرة خير للذين يتقون. أفلا تعقلون؟)

وقضية البعث والحساب والجزاء في الدار الآخرة من قضايا العقيدة الأساسية، التي جاء بها الإسلام؛ والتي يقوم عليها بناء هذه العقيدة بعد قضية وحدانية الألوهية. والتي لا يقوم هذا الدين -عقيدة وتصورا، وخلقا وسلوكا، وشريعة ونظاما- إلا عليها.. وبها..

إن هذا الدين الذي أكمله الله، وأتم به نعمته على المؤمنين به، ورضيه لهم دينا -كما قال لهم في كتابه الكريم- هو منهج للحياة كامل في حقيقته، متكامل متناسق في تكوينه.. "يتكامل "ويتناسق فيه تصوره الاعتقادي مع قيمه الخلقية، مع شرائعه التنظيمية.. وتقوم كلها على قاعدة واحدة من حقيقة الألوهية فيه وحقيقة الحياة الآخرة.

فالحياة -في التصور الإسلامي- ليست هي هذه الفترة القصيرة التي تمثل عمر الفرد؛ وليست هي هذه الفترة المحدودة التي تمثل عمر الأمة من الناس؛ كما أنها ليست هي هذه الفترة المشهودة التي تمثل عمر البشرية في هذه الحياة الدنيا.

إن الحياة -في التصور الإسلامي- تمتد طولا في الزمان، وتمتد عرضا في الآفاق، وتمتد عمقا في العوالم، وتمتد تنوعا في الحقيقة.. عن تلك الفترة التي يراها ويظنها ويتذوقها من يغفلون الحياة الآخرة من حسابهم ولا يؤمنون بها.

إن الحياة -في التصور الإسلامي- تمتد في الزمان، فتشمل هذه الفترة المشهودة -فترة الحياة الدنيا- وفترة الحياة الأخرى التي لا يعلم مداها إلا الله؛ والتي تعد فترة الحياة الدنيا بالقياس إليها ساعة من نهار!

وتمتد في المكان، فتضيف إلى هذه الأرض التي يعيش عليها البشر؛ دارا أخرى: جنة عرضها كعرض السماوات والأرض؛ ونارا تسع الكثرة من جميع الأجيال التي عمرت وجه الأرض ملايين الملايين من السنين!

وتمتد في العوالم، فتشمل هذا الوجود المشهود إلى وجود مغيب لا يعلم حقيقة كلها إلا الله؛ ولا نعلم نحن عنه إلا ما أخبرنا به الله. وجود يبدأ من لحظة الموت، وينتهي في الدار الآخرة. وعالم الموت وعالم الآخرة كلاهما من غيب الله. وكلاهما يمتد فيه الوجود الإنساني في صور لا يعلمها إلا الله.

وتمتد الحياة في حقيقتها؛ فتشمل هذا المستوى المعهود في الحياة الدنيا، إلى تلك المستويات الجديدة في الحياة الأخرى.. في الجنة وفي النار سواء.. وهي ألوان من الحياة ذات مذاقات ليست من مذاقات هذه الحياة الدنيا.. ولا تساوي الدنيا -بالقياس إليها- جناح بعوضة!

والشخصية الإنسانية -في التصور الإسلامي- يمتد وجودها في هذه الأبعاد من الزمان، وفي هذه الآفاق من المكان، وفي هذه الأعماق والمستويات من العوالم والحيوات.. ويتسع تصورها للوجود كله؛ وتصورها للوجود الإنساني؛ ويتعمق تذوقها للحياة؛ وتكبر اهتماماتها وتعلقاتها وقيمها، بقدر ذلك الامتداد في الأبعاد والآفاق والأعماق والمستويات.. بينما أولئك الذين لا يؤمنون بالآخرة، يتضاءل تصورهم للوجود الكوني، وتصورهم للوجود الإنساني؛ وهم يحشرون أنفسهم وتصوراتهم وقيمهم وصراعهم في ذلك الجحر الضيق الصغير الضئيل من هذه الحياة الدنيا!

ومن هذا الاختلاف في التصور يبدأ الاختلاف في القيم، ويبدأ الاختلاف في النظم.. ويتجلى كيف أن هذا الدين منهج حياة متكامل متناسق؛ وتتبين قيمة الحياة الآخرة في بنائه: تصورا واعتقادا، وخلقا وسلوكا وشريعة ونظاما..

إن إنسانا يعيش في هذا المدى المتطاول من الزمان والمكان والعوالم والمذاقات، غير إنسان يعيش في ذلك الجحر الضيق، ويصارع الآخرين عليه، بلا انتظار لعوض عما يفوته، ولا لجزاء عما يفعله وما يفعل به.. إلا في هذه الأرض ومن هؤلاء الناس!

إن اتساع التصور وعمقه وتنوعه ينشى ء سعة في النفس وكبرا في الاهتمامات ورفعة في المشاعر! ينشأ عنها هي بذاتها خلق وسلوك، غير خلق الذين يعيشون في الجحور وسلوكهم! فاذا أضيف إلى سعة التصور وعمقه وتنوعه، طبيعة هذا التصور، والاعتقاد في عدل الجزاء في الدار الآخرة، وفي ضخامة العوض عما يفوت ونفاسته؛ استعدت النفس للبذل في سبيل الحق والخير والصلاح الذي تعلم أنه من أمر الله، وأنه مناط العوض والجزاء؛ وصلح خلق الفرد واستقام سلوكه -متى استيقن من الآخرة كما هي في التصور الإسلامي- وصلحت الأوضاع والأنظمة، التي لا يتركها الأفراد تسوء وتنحرف، وهم يعلمون أن سكوتهم على فسادها لا يحرمهم صلاح الحياة الدنيا وحدها وخيراتها؛ ولكنه يحرمهم كذلك العوض في الآخرة، فيخسرون الدنيا والآخرة!

والذين يفترون على عقيدة الحياة الآخرة فيقولون: إنها تدعو الناس إلى السلبية في الحياة الدنيا؛ وإلى إهمال هذه الحياة؛ وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها؛ وإلى تركها للطغاة والمفسدين تطلعا إلى نعيم الآخرة.. الذين يفترون هذا الافتراء على عقيدة الآخرة يضيفون إلى الافتراء الجهالة! فهم يخلطون بين عقيدة الآخرة -كما هي في التصورات الكنسية المنحرفة- وعقيدة الآخرة كما هي في دين الله القويم.. فالدنيا -في التصور الإسلامي- هي مزرعة الآخرة. والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، ورفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء عن سلطان الله فيها، ودفع الطواغيت وتحقيق العدل والخير للناس جميعا.. كل أولئك هو زاد الآخرة؛ وهو الذي يفتح للمجاهدين أبواب الجنة، ويعوضهم عما فقدوا في صراع الباطل، وما أصابهم من الأذى..

فكيف يتفق لعقيدة هذه تصوراتها أن يدع أهلها الحياة الدنيا تركد وتأسن، أو تفسد وتختل، أو يشيع فيها الظلم والطغيان، أو تتخلف في الصلاح والعمران.. وهم يرجون الآخرة، وينتظرون فيها الجزاء من الله؟

إن الناس إذا كانوا في فترات من الزمان يعيشون سلبيين؛ ويدعون الفساد والشر والظلم والطغيان والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا -مع ادعائهم الإسلام- فإنما هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف؛ ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين؛ ويستيقنون من لقاء الله في الآخرة. فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة، وهو يعي حقيقة هذا الدين، ثم يعيش في هذه الحياة سلبيا، أو متخلفا، أو راضيا بالشر والفساد والطغيان.

إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا، وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى. ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة. ويجاهد لترقية هذه الحياة وتسخير طاقاتها وقواها وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة عن الله فيها. ويكافح الشر والفساد والظلم محتملا الأذى والتضحية حتى الشهادة وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة.. إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة؛ وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا؛ وأن الدنيا صغيرة زهيدة ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى..

وكل جزئية في النظام الإسلامي منظور فيها إلى حقيقية الحياة الآخرة؛ وما تنشئه في التصور من سعة وجمال وارتفاع؛ وما تنشئه في الخلق من رفعة وتطهر وسماحة ومن تشدد في الحق وتحرج وتقوى؛ وما تنشئه في النشاط الإنساني من تسديد وثقة وتصميم.

من أجل ذلك كله لا تستقيم الحياة الإسلامية بدون يقين في الآخرة. ومن أجل ذلك كله كان هذا التوكيد في القرآن الكريم على حقيقة الأخرة..

وكان العرب في جاهليتهم -وبسبب من هذه الجاهلية- لا تتسع آفاقهم التصورية والشعورية والفكرية للاعتقاد في حياة أخرى غير هذه الحياة الدنيا؛ ولا في عالم آخر غير هذا العالم الحاضر: ولا في امتداد الذات الإنسانية إلى آماد وآفاق وأعماق غير هذه الآماد المحسوسة.. مشاعر وتصورات أشبه شيء بمشاعر الحيوان وتصوراته.. شأنهم في هذا شأن الجاهلية الحاضرة.. "العلمية" كما يصر أهلها على تسميتها!

(وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين)..

وكان الله -سبحانه- يعلم أن الاعتقاد على هذا النحو يستحيل أن تنشأ في ظله حياة إنسانية رفيعة كريمة.. هذه الآفاق الضيقة في الشعور والتصور، التي تلصق الإنسان بالأرض، وتلصق تصوره بالمحسوس منها كالبهيمة.. وهذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان، التي تطلق السعار في النفس، والتكالب على المتاع المحدود، والعبودية لهذا المتاع الصغير، كما تطلق الشهوات من عقالها تعربد وحدها بلا كابح، ولا هدنة، ولا أمل في عوض، إن لم تقض هذه الشهوات الهابطة الصغيرة، التي لا تكاد تبلغ نزوات البهيمة!.. وهذه الأنظمة والأوضاع، التي تنشأ في الأرض منظورا فيها إلى هذه الرقعة الضيقة من الزمان والمكان؛ بلا عدل ولا رحمة، ولا قسط ولا ميزان.. إلا أن يصارع الأفراد بعضهم بعضا، وتصارع الطبقات بعضها بعضا، وتصارع الأجناس بعضها بعضا.. وينطلق الكل في الغابة انطلاقا لا يرتفع كثيرا على انطلاق الوحوش والغيلان! كما نشهد اليوم في عالم "الحضارة".. في كل مكان..

كان الله -سبحانه- يعلم هذا كله؛ ويعلم أن الأمة التي قدر أن يعطيها مهمة الإشراف على الحياة البشرية، وقيادتها إلى القمة السامقة التي يريد أن تتجلى فيها كرامة الإنسانية في صورة واقعية.. أن هذه الأمة لا يمكن أن تؤدي واجبها هذا إلا بأن تخرج بتصوراتها وقيمها من ذلك الجحر الضيق إلى تلك الآفاق والآماد الواسعة.. من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة..

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

الحياة التي تسمى حياة في نظرهم ولا شيء سواها حياة الدنيا، هذه الجملة تفيد ثلاث فوائد: أولها: نفى وجود أي حياة غير الحياة التي يعيشونها ولو كانت هذه الحياة هي الدنيا وليست العالية القويمة. الثانية: أنهم ينسبون الحياة إليهم لاستمتاعهم فيها وما فيها من لهو ينغمسون فيه، وعبث يعبثونه. الثالثة: إنكارهم صراحة لبعثهم وتأكيد النفى بالياء وبالجملة الاسمية. لقد قالوا ذلك القول في الدنيا بلا ريب ولكن كلمة (قالوا) في هذا النص، أهي معطوفة على كلمة (لعادوا) وقولهم هذا يكون على فرض عودتهم، وهو هو الظاهر ويكون قوله تعالى: (وإنهم لكاذبون) جملة اعتراضية مؤكدة لمعنى عودتهم إلى ما كانوا عليه إن عادوا إلى الدنيا إذ هي تكذيب ادعاء أنهم لا يكذبون بآيات ربنا، ويكونون من المؤمنين. ويصح أن تكون (وقالوا) كلام سيق مستأنفا للمقابلة بين حالهم التي يرونها في الآخرة إذ يرون الهول عيانا، وقد ينكرون البعث ويؤكدون الإنكار له، وها هم أولاء يرونه ويتمنون ما يتمنون...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

ففي دنياهم كانوا لا يؤمنون إلا بحياة واحدة هي الدنيا. ولم يلتفتوا إلى أن الإنسان يحيا في الدنيا على قدر قوته، وويل للضعيف من القوي. والقوي إنما يخاف من قانون يعاقبه، أو يخاف من إله سيعاقبه على الذنب مهما أخفاه، ولذلك نجد القاضي المؤمن يقول دائما: لئن عميتم على قضاء الأرض، فلا تعموا على قضاء السماء. ومن غباء أهل الكفر أنهم يسمون الحياة على الأرض (الحياة الدنيا) وهي في حقيقتها دنيا، وماداموا قد حكموا وعرفوا أنها (دنيا) فلا بد أن يقابلها حياة عليا. إن كل ذلك يحدث لهم عندما يقفون على النار، والنار جند من جنود الجبار، فما بالك بهم حين يقفون أمام خالق النار ورب العالمين؟...