الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قُلۡ أَيُّ شَيۡءٍ أَكۡبَرُ شَهَٰدَةٗۖ قُلِ ٱللَّهُۖ شَهِيدُۢ بَيۡنِي وَبَيۡنَكُمۡۚ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَۚ أَئِنَّكُمۡ لَتَشۡهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللَّهِ ءَالِهَةً أُخۡرَىٰۚ قُل لَّآ أَشۡهَدُۚ قُلۡ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞ وَإِنَّنِي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ} (19)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قل أي شيء أكبر شهادة}، وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أما وجد الله رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك بما تقول، وقد سألنا عنك أهل الكتاب، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، فمن يشهد لك أن الله هو الذي أرسلك؟ فقال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: {قل} لهم {أي شيء أكبر شهادة}، قالوا: الله أكبر شهادة من غيره، فقال الله: {قل} لهم يا محمد {الله شهيد بيني وبينكم} بأني رسول، {و} أنه {وأوحي إلي هذا القرآن} من عند الله، {لأنذركم به}، يعني لكي أنذركم بالقرآن يا أهل مكة، {ومن بلغ} القرآن من الجن والإنس، فهو نذير لهم، يعني القرآن إلى يوم القيامة، ثم قال: {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى}؟ قالوا: نعم نشهد، قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم: {قل} لهم {لا أشهد} بما شهدتم، ولكن أشهد {قل إنما هو إله واحد}، قل لهم: {وإنني بريء مما تشركون} به غيره.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يكذبون ويجحدون نبوّتك من قومك: أيّ شيء أعظم شهادة وأكبر، ثم أخبرهم بأن أكبر الأشياء شهادة "الله "الذي لا يجوز أن يقع في شهادته ما يجوز أن يقع في شهادة غيره من خلقه من السهو والخطأ والغلط والكذب، ثم قل لهم: إن الذي هو أكبر الأشياء شهادة شهيد بيني وبينكم، بالمُحقّ منا من المبطل، والرشيد منا في فعله وقوله من السفيه، وقد رضينا به حكما بيننا.

عن مجاهد في قول الله تعالى: "أيّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً..." قال: أمر محمد أن يسأل قريشا، ثم أمر أن يخبرهم فيقول: "اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ".

"وأُوحِيَ إليّ هَذَا القُرآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ": يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الذين يكذّبونك: اللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وأُحِيَ إليّ هَذَا القُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بهِ عقابه، وأنذر به من بلغه من سائر الناس غيركم، إن لم ينته إلى العمل بما فيه وتحليل حلاله وتحريم حرامه والإيمان بجميعه، نزولَ نقمة الله به.

عن محمد بن كعب القرظي قال: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم. ثم قرأ: "وَمَنْ بَلَغَ أئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ...".

عن ابن عباس، قوله: "وأُحِيَ هَذَا القُرآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ" يعني أهل مكة، "وَمَنْ بَلَغَ" يعني: ومن بلغه هذا القرآن فهو له نذير.

فمعنى هذا الكلام: لأنذركم بالقرآن أيها المشركون، وأنذر من بلغه القرآن من الناس كلهم...

"أئِنّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أنّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أشْهَدُ قُلْ إنّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَإنّنِي بريء مِمّا تُشْرِكُونَ": يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الجاحدين نبوّتك، العادلين بالله ربا غيره: أئنكم أيها المشركون لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى، يقول: تشهدون أن معه معبودات غيره من الأوثان والأصنام...ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد، لا أشهد بما تشهدون أن مع الله آلهة أخرى، بل أجحد ذلك وأنكره، "إنّما هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ" يقول: إنما هو معبود واحد، لا شريك له فيما يستوجب على خلقه من العبادة. "وَإنّنِي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ" يقول: قل وإنني بريء من كلّ شريك تدعونه لله وتضيفونه إلى شركته وتعبدونه معه، لا أعبد سوى الله شيئا ولا أدعو غيره إلها.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

غلَبَتْ شهادة الحق -سبحانه- كلَّ شهادة، فهم إذا أقبلوا يشهدون فلا تحيط بحقائِقِ الشيء علومُهم، والحقُّ -سبحانه- هو الذي لا يخفى عليه شيءٌ، ثم أخبره -صلى الله عليه وسلم أنه مبعوثٌ إلى الكافة ومَنْ سيوجد إلى يوم القيامة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

وأراد: أيُّ شهيد {أَكْبَرُ شهادة} فوضع شيئاً مقام شهيد ليبالغ في التعميم {قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} يحتمل أن يكون تمام الجواب عند قوله: {قُلِ الله} بمعنى الله أكبر شهادة، ثم ابتدئ {شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي هو شهيد بيني وبينكم، وأن يكون {الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} هو الجواب، لدلالته على أنّ الله عزّ وجلّ إذا كان هو الشهيد بينه وبينهم، فأكبر شيء شهادة شهيد له {وَمَن بَلَغَ} عطف على ضمير المخاطبين من أهل مكة. أي: لأنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل: من الثقلين. وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة... {أئنكم لتشهدون} تقرير لهم مع إنكار واستبعاد {قُل لاَّ أَشْهَدُ} شهادتكم.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

في الآية مسائل:

المسألة الأولى: اعلم أن الآية تدل على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله تعالى. ثم بين أن شهادة الله حاصلة إلا أن الآية لم تدل على أن تلك الشهادة حصلت في إثبات أي المطالب فنقول: يمكن أن يكون المراد حصول شهادة الله في ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يكون المراد حصول هذه الشهادة في ثبوت وحدانية الله تعالى...ثم قال: {وأوحي إلي هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ} أي إن القول بالتوحيد هو الحق الواجب، وإن القول بالشرك باطل مردود...والجواب اللائق بقوله {أي شيء أكبر شهادة} هو أن يقال: هو الله...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

قوله تعالى:"وأوحي إلي هذا القرآن" أي والقرآن شاهد بنبوتي... "أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى "استفهام توبيخ وتقريع..

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ختم بصفتي الحكمة والخبرة، كان كأنه قيل: فلم لم يعلم أنا نكذبك بخبرته فيرسل معك بحكمته من يشهد لك -على ما يقول من أنه أمرك أن تكون أول من أسلم، ونهاك عن الشرك لنصدقك- من ملك كما تقدم سؤالنا لك فيه أو كتاب في قرطاس أو غيرهما؟ فقال: قد فعل، ولم يرض لي إلا بشهادته المقدسة فقال -أو يقال: إنه لما أقام الأدلة على الوحدانية والقدرة ووصل إلى صفة القهر المؤذن بالانتقام، لم يبق إلا الإشهاد عليهم إيذاناً بما يستحقونه من سوء العذاب وإنذاراً به لئلا يقولوا إذا حل بهم: إنه لم يأتنا نذير، فقال: {قل} أي يا أيها الرسول لهم {أي شيء أكبر} أي أعظم وأجل {شهادة} فإن أنصفوا وقالوا: الله! فقل: هو الذي يشهد لي، كما قال في النساء "لكن الله يشهد بما أنزل إليك "ولكنه قطع الكلام هنا إشارة إلى عنادهم أو سكوتهم، أو إلى تنزيلهم منزلة المعاند، أو العالم بالشيء العامل عمل الجاهل، فقال آمراً له صلى الله عليه وسلم: {قل الله} أي الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة أكبر شهادة.

ولما كانوا بمعرض أن يسلموا ذلك ويقولوا: إنه لَكذلك، ولكن هلم شهادته! قال: {شهيد} أي هو أبلغ شاهد يشهد {بيني وبينكم} أي بهذا القرآن الذي ثبت بعجزكم عنه أنه كلامه، وبغيره من الآيات التي عجزتم عن معارضتها؛ ولما قرر أنه أعظم شهيد، وأشار إلى شهادته بالآيات كلها، نبه على أعظمها، لأن إظهاره تعالى للقرآن على لسانه صلى الله عليه وسلم على وفق دعواه شهادة من الله له بالصدق، فقال ذاكراً لفائدته في سياق تهديد متكفل بإثبات الرسالة وإثبات الوحدانية، وقدم الأول لأنه المقرر للثاني والمفهم له بغايته، عاطفاً على جملة "شهيد" بانياً للمفعول، تنبيهاً على أن الفاعل معروف للإعجاز، وبنى للفاعل في السواد: {وأوحي إلي} وحقق الموحى به وشخّصه بقوله: {هذا القرآن} ولما كان في سياق التهديد قال مقتصراً على ما يلائمه: {لأنذركم} أي أخوفكم وأحذركم من اعتقاد شائبة نقص في الإله لا سيما الشرك {به ومن} أي وأنذر به كل من {بلغ} أي بلغه، قال الفراء: والعرب تضمر الهاء في صلات "الذي" و "من" و "ما".

وقال البخاري في آخر الصحيح: {لأنذركم به} يعني أهل مكة، ومن بلغ هذا القرآن فهو له نذير علقه بصيغة الجزم عن ابن عباس ووصله إليه ابن أبي حاتم كما أفاده شيخنا في شرحه...

فالمعنى: فمن صدق هذا القرآن فقد أفلح، ومن كذب فليأت بسورة من مثله، ثم عجزه شاهد على نفسه بالكذب، وهو شهادة الله لي بالصدق، ولأجل أن الله هو الشاهد لم تنقض الشهادة بموت النبي صلى الله عليه وسلم، بل استمرت على مرّ الأيام وكرّ الأعوام لبقاء الشاهد وتعاليه عن شوائب النقص وسمات الحدث، وإلى ذلك الإشارة بقول النبي صلى الله عليه وسلم" ما من الأنبياء نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة "أخرجه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه. ولعل الاقتصار على الإنذار مع ما تقدم إشارة إلى أن أكثر الخلق هالك، وقد ذكر في نزول هذه الآية أن أهل مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أما وجد الله رسولاً غيرك؟ ما نرى أحداً يصدقك بما تقول، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس عندهم منك ذكر، فأرنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم، فأنزلها الله.

ولما لم يبق لمتعنت شبهة، ساق فذلكة ذلك وقطب دائرته- وهو لزوم التوحيد الذي جعلت الرسالة مُرَقَّى إليه، فإذا ثبت في قلب فاضت أنواره بحسب ثباته حتى أنها ربما ملأت الأكوان وعلت على كيوان -مساق استفهام على طريقة الإنكار والتعجيب تعظيماً لشأنه وتفخيماً لمقامه وتنبيهاً لهم على أن يبعدوا عن الشرك فقال: أئنكم لتشهدون أن مع الله} أي الذي حاز جميع العظمة {آلهة}.

ولما كانوا لكثرة تعنتهم ربما أطلقوا على أسمائه سبحانه إله كما قالوا حين سمعوه صلى الله عليه وسلم يقول:"يا الله يا رحمن "كما سيأتي إن شاء الله تعالى آخر الحِجْر وآخر سبحان، صرح بالمقصود على وجه لا يحتمل النزاع فقال: {أخرى} ولما كان كأنه قيل: إنهم ليقولون ذلك، فماذا يقال لهم؟ قال: {قل لا أشهد} أي معكم بشيء مما تقولونه لأنه باطل، ولو كان حقاً لشهدت به.

ولما كان هذا غير قاطع لطمعهم فيه، اجتثَّه من أصله وبرمته بقوله: {قل إنما هو} أي الإله {إله واحد} وهو الله الذي لا يعجزه شيء وهو يعجز كل شيء، لأنه واحد لا كفوء له، فإنكم عجزتم عن الإتيان بسورة من مثل كلامه وأنتم أفصح الناس.

ولما كان معنى هذا البراءة من إنذارهم، صرح به في قوله مؤكداً في جملة اسمية: {وإنني بريء مما تشركون} أي الآن وفي مستقبل الزمان إبعاداً من تطمعهم أن تكون الموافقة بينه وبينهم باتخاذه الأنداد أو شيئاً منها ولياً، فثبت التوحيد بهذه الآية بأعظم طرق البيان وأبلغ وجوه التأكيد، ولقد امتثل صلى الله عليه وسلم الأمر بإنذار من يمكن إبلاغه القرآن...

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

قوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغ} أي أوحى الله إليّ هذا القرآن الذي تلوته عليكم؛ لأجل أن أنذركم به، وأنذر به من بلغ إليه، أي كل من بلغ إليه من موجود ومعدوم سيوجد في الأزمنة المستقبلة، وفي هذه الآية من الدلالة على شمول أحكام القرآن لمن سيوجد، كشمولها لمن قد كان موجوداً وقت النزول، ما لا يحتاج معه إلى تلك الخزعبلات المذكورة في علم أصول الفقه.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

ثم ختم الله تعالى هذه الأقوال أو الأوامر القولية المبينة لحقيقة الدين ودلائله بشهادته لرسوله وشهادة رسوله له فقال: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم}

أما معنى الآية فهو أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل كفار قريش: أي شيء شهادته أكبر شهادة وأعظمها وأجدر بأن تكون أصلحها وأصدقها؟ ثم أمره بأن يجيب هو عن هذا السؤال بأن أكبر الأشياء شهادة الذي لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ هو الله تعالى وهو شهيد بيني وبينكم، وأوحي إلي هذا القرآن من لدنه لأنذركم به عقابه على تكذيبي فيما جئت به مؤيدا بشهادته سبحانه، وأنذر من بلغه هذا القرآن في كل مكان وكل زمان؛ إذ كل من بلغه فهو مدعو إلى إتباعه حتى تقوم الساعة.

شهادة الشيء حضوره ومشاهدته، والشهادة به الإخبار به عن علم ومعرفة واعتقاد مبني على المشاهدة بالبصر أو بالبصيرة أي العقل والوجدان ومنه الشهادة بالتوحيد، وإثبات الشيء بالدليل والبرهان شهادة به، وشهادة الله بين الرسول وبين قومه قسمان: شهادته سبحانه برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادته بما جاء به. وشهادته عز وجل برسالة رسوله ثلاثة أنواع (أحدها) إخباره بها في كتابه بمثل قوله: {محمد رسول الله} [الفتح:29] {إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا} [فاطر: 24] {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} [سبأ:28] {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107] {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين} [البقرة: 252] {يس، والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين} [يس:1-3].

فهذه شهادات وردت بغير لفظ الشهادة وهو غير شرط في صحتها خلافا لبعض الفقهاء، ولا يقتضي التلفظ به حقيتها فقد حكى الله عن إخوة يوسف أنهم {قالوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف:81] وهم لم يقولوا: نشهد إن ابنك سرق. وقد سموا قولهم شهادة لأنه عن علم بما ثبت عليه عند عزيز مصر، وإن كان ذلك الإثبات مصنوعا. وقال تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون:1] فإنهم صرحوا بلفظ الشهادة ولما كانوا غير مؤمنين بها شهد الله تعالى بكذبهم فيها. وقال تعالى: {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه} [النساء:166] فهذه شهادة صرح فيها باللفظ، وكذلك قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لست مرسلا، قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم} [الرعد:43] وهي بمعنى هذه الآية التي نفسرها.

النوع الثاني من شهادة الله تعالى لرسوله: تأييده بالآيات الكثيرة وأعظمها القرآن- وهو الآية العلمية العقلية الدائمة بما ثبت بالفعل عن عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله. وبما اشتمل عليه من الآيات الكثيرة كأخبار الغيب ووعد الرسول والمؤمنين بنصره تعالى لهم وإظهارهم على أعدائهم وغير ذلك مما ثبت بالفعل عند أهل عصره ونقل إلينا بالتواتر. ومنها غير القرآن من الآيات الحسية والأخبار النبوية بالغيب التي ظهر بعضها في زمنه وبعضها بعد زمنه عليه أفضل الصلاة والسلام، كقوله في سبطه الحسن وهو طفل « ابني هذا سيد ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين»، وقوله في عمار بن ياسر: « قتلته الفئة الباغية»، وقوله: « صنفان من أهل النار لم أرهما بعد رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، على رؤوسهن كأسنمة البخت».

النوع الثالث من شهادته لرسوله: شهادة كتبه السابقة له وبشارة الرسل الأولين به، ولا تزال هذه الشهادات والبشائر ظاهرة فيما بقي عند اليهود والنصارى من تلك الكتب وتواريخ أولئك الرسل عليهم السلام على ما طرأ عليها من التحريف، وقد تقدم بيان ذلك في تفسير السور السابقة ولاسيما المائدة. ولا تنسى هنا أخذه تعالى العهد على الرسل وقوله لهم: {أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا أقررنا، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين} [آل عمران:81] [ج:3].

وأما شهادته تعالى لما جاء به رسوله من التوحيد والبعث- وهو ما كانوا ينكرونه دون الآداب والفضائل والأحكام العلمية فهو ثلاثة أنواع: أحدها – شهادة كتابه معجز الخلق بذلك كقوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 18، 19]، وقوله: {زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا، قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئون بما عملتم وذلك على الله يسير} [التغابن: 7].

ثانيها: ما أقامه من الآيات البينات في الأنفس والآفاق على توحيده واتصافه بصفات الكمال. وفي بيان ذلك في هذه السورة ما ليس في غيرها.

ثالثها: ما أودعه جل شأنه في الفطرة البشرية من الإيمان الفطري وبالألوهية وبقاء النفس وما هدى إليه العقول السليمة من تأييد هذا الشعور الفطري بالدلائل والبراهين. ولعلنا نشرح معنى الإيمان الفطري الذي بيناه من قبل بيانا موجزا في تفسير آية العهد الإلهي الذي أخذه على بني آدم، وهي قوله تعالى في سورة الأعراف: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا} [الأعراف: 172].

علم مما بيناه أن شهادته تعالى هي شهادة آياته في القرآن، وآياته في الأكوان وآياته في العقل والوجدان، اللذين أودعهما في نفس الإنسان، وهذه الآيات قد بينها القرآن وأرشد إليها، فهو الدعوى والبينة، والشاهد والمشهود له، وكفى به ظهورا بالحق وإظهار له، أنه لا يحتاج إلى شهادة غيره له، على أن الشهود والأدلة على حقيقته كثيرة. وقد جاءت جملة « وأوحي إلي هذا القرآن» معطوفة على جملة « الله شهيد بيني وبينكم» مصدرة بالفعل المبني للمفعول لأن المراد بنصها بيان أن القرآن هو موضوع الدعوة والرسالة المقصود منها بالذات، وتدل بموضعها دلالة إيمان على أنه أعظم شهادة لله تعالى.

وقوله تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ} نص على عموم بعثة خاتم الرسل عليه أفضل الصلاة والسلام، أي لأنذركم به يا أهل مكة أو يا معشر قريش أو العرب وجميع من بلغه ووصلت إليه دعوته من العرب أو العجم، أو المعنى لأنذركم به أيها المعاصرون لي وجميع من بلغه إلى يوم القيامة. قال البيضاوي: وهو دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه. اه. يعني أن العبرة في دعوة الإسلام بالقرآن فمن لم يبلغه القرآن لا يصدق عليه أنه بلغته الدعوة، وحينئذ لا يكون مخاطبا بهذا الدين. ومفهومه أن الحجة لا تقوم بتبليغ دعوة الإسلام بالقواعد الكلامية والدلائل النظرية التي بني عليها ذلك العلم ولكنا نرى المسلمين قد تركوا دعوة القرآن وتبليغه بعد السلف الصالح وتركوا العلم به وبما بينه من السنة إلى تقليد المتكلمين والفقهاء. والقرآن حجة عليهم وإن جعلوا أنفسهم غير أهل للحجة.

ومما روي عن تفسير السلف في الآية من الأحاديث والآثار ما أخرجه ابن مردويه وأبو نعيم والخطيب عن ابن عباس قال: « من بلغه القرآن فكأنما شافهته به – ثم قرأ – {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}» ويؤيد الرواية أن القرآن لما كان متواترا بلفظه ومعناه كان من بلغه بعده صلى الله عليه وسلم كمن سمعه منه وإن كثرت الوسائط، لأنه هو الذي بلغه بلا زيادة ولا نقصان. وليس للأحاديث المروي كثيرها بالمعنى هذه المزية. فهي موضع اجتهاد: وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ: من بلغه القرآن حتى يفهمه ويعقله كان كمن عاين النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى فقال لهم: « هل دعيتم إلى الإسلام-؟ قالوا لا. فخلى سبيلهم ثم قرأ: {وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ} ثم قال-خلوا سبيلهم حتى يأتوا مأمنهم من أجل أنهم لم يدعوا».

ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهادة له بالوحدانية التي جحدها المشركون وبراءته من قولهم وشهادتهم بالشرك فقال: {أءنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون (19)} قالوا إن الاستفهام هنا للتقرير مع الإنكار والاستبعاد. وقد أمره تعالى أن يجيب بأنه لا يشهد كما يشهدون، ثم أمره أمرا آخرا بأن يشهد بنقيض ما يزعمون ويتبرأ منه وهو أن يصرح بأن الإله لا يكون إلا واحدا، ويتبرأ مما يشركونه به من الأصنام وغيرها أو من إشراكهم مهما يكن موضوعه، وإنما قال: {قل إنما هو إله واحد} فأعاد الأمر ولم يعطف المأمور به على ما قبله لإفادة أن الإقرار بالوحدانية مقصود بذاته لا يغني عنه نفي الشهادة بالشرك.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وأخيرا تجيء قمة المد في هذه الموجة؛ ويجيء الإيقاع المدوي العميق؛ في موقف الإشهاد والإنذار والمفاصلة والتبرؤ من المشاركة في الشرك.. كل ذلك في رنة عالية، وفي حسم رهيب:

(قل: أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله. شهيد بيني وبينكم، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ، أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أشهد، قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون)..

إن تتابع المقاطع والإيقاعات في الآية الواحدة عجيب؛ وإن هذا التتابع ليرسم الموقف لحظة لحظة، ومشهدا مشهدا، ويكاد ينطق بملامح الوجوه فيه وخلجات الصدور..

فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمر من ربه هذا الأمر.. ثم ها هو ذا يواجه المشركين الذين يتخذون من دون الله أولياء؛ يجعلون لهم بعض خصائص الألوهية مع الله؛ ويدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم على هذا الذي هم فيه ليدخلوا هم فيما جاءهم به! كأن ذلك يمكن أن يكون! وكأنه يمكن أن يجتمع الإسلام والشرك في قلب واحد على هذا النحو الذي كانوا يتصورونه؛ والذي لا يزال يتصوره ناس في هذا الزمان، من أنه يمكن أن يكون الإنسان مسلما لله؛ بينما هو يتلقى من غير الله في شؤون الحياة؛ وبينما هو يخضع لغير الله ويستنصر بغير الله، ويتولى غير الله!

ها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه هؤلاء المشركين؛ ليبين لهم مفرق الطريق بين دينه ودينهم، وبين توحيده وشركهم، وبين إسلامه وجاهليتهم. وليقرر لهم: أنه لا موضع للقاء بينه وبينهم، إلا أن يتخلصوا هم من دينهم ويدخلوا في دينه. وأنه لا وجه للمصالحة في هذا الأمر؛ لأنه يفترق معهم في أول الطريق!

وها هو ذا يبدأ معهم مشهد الإشهاد العلني المفتوح المكشوف:

(قل: أي شيء أكبر شهادة؟)..

أي شاهد في هذا الوجود كله هو أكبر شهادة؟ أي شاهد تعلو شهادته كل شهادة؟ أي شاهد تحسم شهادته في القضية فلا يبقى بعد شهادته شهادة؟

وللتعميم المطلق، حتى لا يبقى في الوجود كله (شيء) لا يستقصى وزنه في مقام الشهادة: يكون السؤال: (أي شيء أكبر شهادة؟).

وكما يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسؤال، فهو يؤمر كذلك بالجواب. ذلك أنه لا جواب غيره باعتراف المخاطبين أنفسهم. ولا جواب غيره في حقيقة الأمر والواقع:

ل: الله..

نعم! فالله -سبحانه وتعالى- هو أكبر شهادة.. هو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين.. هو الذي لا شهادة بعد شهادته، ولا قول بعد قوله. فإذا قال فقد انتهى القول، وقد قضي الأمر.

فإذا أعلن هذه الحقيقة: حقيقة أن الله سبحانه هو أكبر شهادة، أعلن لهم أنه -سبحانه- هو الشهيد بينه وبينهم في القضية:

(شهيد بيني وبينكم)..

على تقدير: هو شهيد بيني وبينكم -فهذا التقطيع في العبارة هو الأنسب في جو المشهد: وهو أولى من الوصل على تقدير: (قل الله شهيد بيني وبينكم).

فإذا تقرر المبدأ: مبدأ تحكيم الله سبحانه في القضية، أعلن إليهم أن شهادة الله سبحانه، تضمنها هذا القرآن، الذي أوحاه إليه لينذرهم به؛ وينذر به كل من يبلغه في حياته صلى الله عليه وسلم أو من بعد. فهو حجة عليهم وعلى من يبلغه غيرهم؛ لأنه يتضمن شهادة الله في هذه القضية الأساسية؛ التي تقوم عليها الدنيا والآخرة، ويقوم عليها الوجود كله والوجود الإنساني ضمنا:

(وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ)..

فكل من بلغه هذا القرآن من الناس، بلغة يفهمها، ويحصل منها محتواه، فقد قامت عليه الحجة به، وبلغه الإنذار، وحق عليه العذاب، إن كذب بعد البلاغ.. [فأما من يحول عدم فهمه للغة القرآن دون فهمه لفحواه، فلا تقوم عليه الحجة به؛ ويبقى إثمه على أهل هذا الدين الذين لم يبلغوه بلغته التي يفهم بها مضمون هذا الشهادة.. هذا إذا كان مضمون القرآن لم يترجم إلى لغته]..

فإذا أعلن إليهم أن شهادة الله- سبحانه -متضمنة في هذا القرآن، أعلن إليهم مضمون هذه الشهادة في صورة التحدي والاستنكار لشهادتهم هم، المختلفة في أساسها عن شهادة الله سبحانه. وعالنهم بأنه ينكر شهادتهم هذه ويرفضها؛ وأنه يعلن غيرها ويقرر عكسها ويشهد لربه بالوحدانية المطلقة والألوهية المتفردة؛ وأنه يفاصلهم على هذا عند مفرق الطريق؛ وأنه يتبرأ من شركهم في صيغة التشديد والتوكيد:

(أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أشهد، قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون)..

والنصوص القرآنية بمقاطعها هذه، وبإيقاعاتها هذه، تهز القلوب بما لا يملك البيان البشري أن يفعل فلا أريد أن أوقف تدفقها وانسكابها في القلب بأي تعليق.

تعقيب على الوحدة- الولاء والتوحيد والمفاصلة

ولكني أريد أن أتحدث عن القضية التي تضمنها هذا المقطع، وجرت بها هذه الموجة.. إن هذه القضية التي عرضها السياق القرآني في هذه الآيات.. قضية الولاء والتوحيد والمفاصلة.. هي قضية هذه العقيدة؛ وهي الحقيقية الكبرى فيها. وان العصبة المؤمنة اليوم لخليقة بأن تقف أمام هذا الدرس الرباني فيها وقفة طويلة..

إن هذه العصبة تواجه اليوم من الجاهلية الشاملة في الأرض، نفس ما كانت تواجهه العصبة التي تنزلت عليها هذه الآيات، لتحدد على ضوئها موقفها، ولتسير على هذا الضوء في طريقها؛ وتحتاج -من ثم- أن تقف وقفة طويلة أمام هذه الآيات، لترسم طريقها على هداها.

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية؛ وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم جاءها الإسلام مبينا على قاعدته الكبرى:"شهادة أن لا إله إلا الله".. شهادة أن لا إله إلا الله بمعناها الذي عبر عنه ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس، وهو يسأله: "ما الذي جاء بكم؟ "فيقول:"الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"..

وهو يعلم أن رستم وقومه لا يعبدون كسرى بوصفه إلها خالقا للكون؛ ولا يقدمون له شعائر العبادة المعروفة؛ ولكنهم إنما يتلقون منه الشرائع، فيعبدونه بهذا المعنى الذي يناقض الإسلام وينفيه؛ فأخبره أن الله ابتعثهم ليخرجوا الناس من الأنظمة والأوضاع التي يعبد العباد فيها العباد، ويقرون لهم بخصائص الألوهية -وهي الحاكمية والتشريع والخضوع لهذه الحاكمية والطاعة لهذا التشريع- [وهي الأديان].. إلى عبادة الله وحده وإلى عدل الإسلام.

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله. فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان؛ ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: "لا إله إلا الله"؛ دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية "الحاكمية "التي يدعيها العباد لأنفسهم -وهي مرادف الألوهية- سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب. فالأفراد، كالتشكيلات، كالشعوب، ليست آلهة، فليس لها إذن حق الحاكمية.. إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله. فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية. ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء..

البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: "لا إله إلا الله" بلا مدلول ولا واقع.. وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد -من بعدما تبين لهم الهدى- ومن بعد أن كانوا في دين الله!

فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلا أمام هذه الآيات البينات!

ما أحوجها أن تقف أمام آية الولاء:

(قل: أغبر الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين)..

ذلك لتعلم أن اتخاذ غير الله وليا -بكل معاني "الولي".. وهي الخضوع والطاعة، والاستنصار والاستعانة.. يتعارض مع الإسلام، لأنه هو الشرك الذي جاء الإسلام ليخرج منه الناس.. ولتعلم أن أول ما يتمثل فيه الولاء لغير الله هو تقبل حاكمية غير الله في الضمير أو في الحياة.. الأمر الذي تزاوله البشرية كلها بدون استثناء. ولتعمل أنها تستهدف اليوم إخراج الناس جميعا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ وأنها تواجه جاهلية كالتي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة حين تلقي هذه الآيات..

وما أحوجها أن تستصحب في مواجهتها للجاهلية تلك الحقائق والمشاعر التي تسكبها في القلب المؤمن الآيات التالية:

(قل: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه، وذلك الفوز المبين. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير)..

فما أحوج من يواجه الجاهلية بطاغوتها وجبروتها، وبإعراضها وعنادها، وبالتوائها وكيدها، وبفسادها وانحلالها.. ما أحوج من يواجه هذا الشر كله، أن يستصحب في قلبه هذه الحقائق وهذا المشاعر.. مخافة المعصية والولاء لغير الله. ومخافة العذاب الرعيب الذي يترقب العصاة.. واليقين بأن الضار والنافع هو الله. وأن الله هو القاهر فوق عباده فلا معقب على حكمه ولا راد لما قضاه. إن قلبا لا يستصحب هذه الحقائق وهذه المشاعر لن يقوى على تكاليف" إنشاء "الإسلام من جديد في وجه الجاهلية الطاغية.. وهي تكاليف هائلة تنوء بها الجبال!

ثم ما أحوج العصبة المؤمنة- بعد أن تستيقن حقيقة مهمتها في الأرض اليوم؛ وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة التي تدعو إليها ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكل مدلولاته؛ وبعد أن تستصحب معها في مهمتها الشاقة تلك الحقائق والمشاعر. ما أحوجها بعد ذلك كله إلى موقف الإشهاد والقطع والمفاصلة والتبرؤ من الشرك الذي تزاوله الجاهلية البشرية اليوم كما كانت تزاوله جاهلية البشرية الأولى. وأن تقول ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله؛ وأن تقذف في وجه الجاهلية، بما قذف به في وجهها الرسول الكريم، تنفيذا لأمر به العظيم:

(قل: أي شيء أكبر شهادة؟ قل: الله، شهيد بيني وبينكم، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ. أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أشهد. قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون)..

إنه لا بد أن تقف العصبة المسلمة في الأرض، من الجاهلية التي تغمر الأرض، هذا الموقف. لا بد أن تقذف في وجهها بكلمة الحق هذه عالية مدوية، قاطعة فاصلة، مزلزلة رهيبة.. ثم تتجه إلى الله تعلم أنه على كل شيء قدير، وأنه هو القاهر فوق عباده. وأن هؤلاء العباد -بما فيهم الطواغيت المتجبرون- أضعف من الذباب، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه! وأنهم ليسوا بضارين من أحد إلا بإذن الله؛ وليسوا بنافعين أحدا إلا بإذن الله، وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ولا بد أن تستيقن العصبة المسلمة كذلك أنها لن تنصر ولن يتحقق لها وعد الله بالتمكين في الأرض، قبل أن تفاصل الجاهلية على الحق عند مفترق الطريق. وقبل أن تعلن كلمة الحق في وجه الطاغوت، وقبل أنتشهد على الجاهلية هذا الإشهاد، وتنذرها هذه النذارة، وتعلنها هذا الإعلان، وتفاصلها هذه المفاصلة، وتتبرأ منها هذه البراءة..

إن هذا القرآن لم يأت لمواجهة موقف تاريخي؛ إنما جاء منهجا مطلقا خارجا عن قيود الزمان والمكان. منهجا تتخذه الجماعة المسلمة حيثما كانت في مثل الموقف الذي تنزل فيه هذا القرآن. وهي اليوم في مثل هذا الموقف تماما؛ وقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا القرآن لينشئ الإسلام في الأرض إنشاء.. فليكن اليقين الجازم بحقيقة هذا الدين. والشعور الواضح بحقيقة قدرة الله وقهره. والمفاصلة الحاسمة مع الباطل وأهله.. لتكن هذه عدة الجماعة المسلمة.. والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

روى الواحدي في « أسباب النزول» عن الكلبي: أنّ رؤساء مكّة قالوا: يا محمد ما نرى أحداً مصدّقَك بما تقول، وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرُك ولا صفتك فأرِنا من يشهد أنّك رسول الله. فنزلت هذه الآية.

وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بيّنته عند قوله تعالى: {قل لمن ما في السماوات والأرض} [الأنعام: 12] ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقّي ما يرد بعد الاستفهام.

و (أي) اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام، والمضاف إليه هنا هو {شيء} المفسّر بأنَّه من نوع الشهادة.

و {شَيء} اسم عامّ من الأجناس العالية ذات العموم الكثير، قيل: هو الموجود، وقيل: هو ما يعلم ويصحّ وجوده. والأظهر في تعريفه أنّه الأمر الذي يعلم. ويجري عليه الإخبار سواء كان موجوداً أو صفة موجود أو معنى يتعقّل ويتحاور فيه، ومنه قوله تعالى: {فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنّا تراباً ذلك رجْع بعيد} [ق: 2، 3].

وقد تقدّم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة (شيء) ومواقع ضعفها عند قوله تعالى: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع} في سورة [البقرة: 155].

( {وأكبَرُ} هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات، وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى، كقوله تعالى: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72] وقوله: {قل قتال فيه كبير} وقد تقدّم في سورة [البقرة: 217].

وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها.

وقوله: {شهادة} تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ماصْدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة. فالمعنى: أيّة شهادة هي أصدق الشهادات، فالمستفهم عنه بِ {أي} فرد من أفراد الشهادات يطلب عِلم أنَّه أصدق أفراد جنسه.

والشهادة تقدّم بيانها عند قوله تعالى: {شهادة بينكم} في سورة [المائدة: 106].

ولمّا كانت شهادة الله على صدق الرسول غير معلومة للمخاطبين المكذّبين بأنّه رسول الله، صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الكاذبين} [النور: 8] أي أن تُشهد الله على كذب الزوج، أي أن تحلف على ذلك بسم الله، فإنّ لفظ (أشهد الله) من صيغ القسم إلاّ أنّه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازاً مرسلاً، وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم، وبذلك يظهر موقع قوله: {الله شهيد بيني وبينكم}، أي أشهده عليكم.

وقريب منه ما حكاه الله عن هود {قال إنّي أشهد الله} [هود: 54].

وقوله: {قل الله شهيد بيني وبينكم} جواب للسؤال، ولذلك فصلت جملته المصدّرة ب {قل}. وهذا جواب أمر به المأمور بالسؤال على معنى أن يسأل ثم يبادر هو بالجواب لكون المراد بالسؤال التقرير وكون الجواب ممّا لا يسع المقرّر إنكاره، على نحو ما بيّنّاه في قوله: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} [الأنعام: 12] ووقع قوله: {الله شهيد بيني وبينكم} جواباً على لسانهم لأنّه مرتّب على السؤال وهو المقصود منه فالتقدير: قل شهادة الله أكبر شهادة، فالله شهيد بيني وبينكم، فحذف المرتّب عليه لدلالة المرتّب إيجازاً كما هو مقتضى جزالة أسلوب الإلجاء والجدل. والمعنى: أنّي أشهد الله الذي شهادته أعظم شهادة أنّني أبلغتكم أنّه لا يرضى بأن تشركوا به وأنذرتكم.

ومعنى: {شهيد بيني وبينكم} أنّه لمّا لم تنفعهم الآيات والنذر فيرجعوا عن التكذيب والمكابرة لم يبق إلاّ أن يكلهم إلى حساب الله تعالى. والمقصود: إنذارهم بعذاب الله في الدنيا والآخرة. ووجه ذكر {بيني وبينكم} أنّ الله شهيد له، كما هو مقتضى السياق. فمعنى البيْن أنّ الله شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق لردّ إنكارهم رسالته كما هو شأن الشاهد في الخصومات.

وقوله: {وأوحي إليّ هذا القرآن} عطف على جملة {الله شهيد بيني وبينكم}، وهو الأهمّ فيما أقسم عليه من إثبات الرسالة. وينطوي في ذلك جميع ما أبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما أقامه من الدلائل. فعطف {وأوحي إلي هذا القرآن} من عطف الخاصّ على العامّ، وحُذف فاعل الوحي وبني فعله للمجهول للعلم بالفاعل الذي أوحاه إليه وهو الله تعالى.

والإشارة ب {هذا القرآن} إلى ما هو في ذهن المتكلّم والسامع. وعطف البيان بعد اسم الإشارة بيَّن المقصود بالإشارة.

واقتصر على جعل علّة نزول القرآن للنذارة دون ذكر البشارة لأنّ المخاطبين في حال مكابرتهم التي هي مقام الكلام لا يناسبهم إلاّ الإنذار، فغاية القرآن بالنسبة إلى حالهم هي الإنذار، ولذلك قال {لأنذركم به} مصرَّحاً بضمير المخاطبين. ولم يقل: لأنذر به، وهم المقصود ابتداء من هذا الخطاب وإن كان المعطوف على ضميرهم ينذر ويبشّر. على أنّ لام العلّة لا تؤذن بانحصار العلّة في مدخولها إذ قد تكون للفعل المعدّى بها علل كثيرة.

{ومن بلغ} عطف على ضمير المخاطبين، أي ولأنذر به من بلغه القرآن وسمعه ولو لم أشافهه بالدعوة، فحذف ضمير النصب الرابط للصلة لأنّ حذفه كثير حسن، كما قال أبو علي الفارسي.

وعموم {مَن} وصلتها يشمل كلّ من يبلغه القرآن في جميع العصور.

{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ الله ءَالِهَةً أخرى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله واحد وَإِنَّنِي بريء مِّمَّا تُشْرِكُونَ}.

جملة مستأنفة من جملة القول المأمور بأن يقوله لهم. فهي استئناف بعد جملة {أيّ شيء أكبر شهادة}. خصّ هذا بالذكر لأنّ نفي الشريك لله في الإلهية هو أصل الدعوة الإسلامية فبعد أن قرّرهم أنّ شهادة الله أكبر شهادة وأشهد الله على نفسه فيما بلّغ، وعليهم فيما أعرضوا وكابروا؛ استأنف استفهاماً على طريقة الإنكار استقصاء في الإعذار لهم فقال: أتشهدون أنتم على ما أصررتم عليه أنّ مع الله آلهة أخرى كما شهدت أنا على ما دعوتكم إليه، والمقرّر عليه هنا أمر ينكرونه بدلالة المقام.

وإنّما جعل الاستفهام المستعمل في الإنكار عن الخبر الموكّد ب (إنّ) ولام الابتداء ليفيد أنّ شهادتهم هذه ممَّا لا يكاد يصدَّق السامعون أنّهم يشهدونها لاستبعاد صدورها من عقلاء، فيحتاج المخبر عنهم بها إلى تأكيد خبره بمؤكّديْن فيقول: إنّهم ليشهدون أنّ مع الله آلهة أخرى، فهنالك يحتاج مخاطبهم بالإنكار إلى إدخال أداة الاستفهام الإنكاري على الجملة التي من شأنها أن يحكى بها خبرهم، فيفيد مثلُ هذا التركيب إنكارين: أحدهما صريح بأداة الإنكار، والآخر كنائي بلازم تأكيد الإخبار لغرابة هذا الزعم بحيث يشكّ السامع في صدوره منهم.

ومعنى {لتشهدون} لتدّعونا دعوى تحقَّقونها تحقيقاً يشبه الشهادة على أمر محقّق الوقوع، فإطلاق {تشهدون} مشاكلة لقوله {قل الله شهيد بيني وبينكم}.

والآلهة جمع إله، وأجري عليه الوصف بالتأنيث تنبيهاً على أنّها لا تعقل فإنّ جمع غير العاقل يكون وصفه كوصف الواحدة المؤنّثة.

وقوله: {قل لا أشهد} جواب للاستفهام الذي في قوله: {أإنّكم لتشهدون} لأنّه بتقدير: قل أإنّكم، ووقعت المبادرة بالجواب بتبرّىء المتكلّم من أن يشهد بذلك لأنّ جواب المخاطبين عن هذا السؤال معلوم من حالهم أنّهم مقرّون به فأعرض عنهم بعد سؤالهم كأنّه يقول: دعْنا من شهادتكم وخذوا شهادتي فإنّي لا أشهد بذلك. ونظير هذا قوله تعالى: {فإن شهدوا فلا تشهد معهم} [الأنعام: 15].

وجملة: {قل إنّما هو إله واحد} بيان لجملة {لا أشهد} فلذلك فصلت لأنّها بمنزلة عطف البيان، لأنّ معنى لا أشهد بأنّ معه آلهة هو معنى أنّه إله واحد، وأعيد فعل القول لتأكيد التبليغ.

وكلمة {إنّما} أفادت الحصر، أي هو المخصوص بالوحدانية: ثم بالغ في إثبات ذلك بالتبرّي من ضدّه بقوله: {وإنّني بريء ممَّا تشركون}. وفيه قطع للمجادلة معهم على طريقة المتاركة.

و (ما) في قوله: {ممّا تشركون} يجوز كونها مصدرية، أي من إشراككم. ويجوز كونها موصولة، وهو الأظهر، أي من أصنامكم التي تشركون بها، وفيه حذف العائد المجرور لأنّ حرف الجرّ المحذوف مع العائد متعيّن تقديره بلا لبس، وذلك هو ضابط جواز حذف العائد المجرور، كقوله تعالى: {أنسجد لما تأمرنا} [الفرقان: 60] أي بتعظيمه، وقوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر} أي بالجهر به. وظاهر كلام « التسهيل» أنّ هذا ممنوع، وهو غفلة من مؤلّفه اغترّ بها بعض شرّاح كتبه.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

والنص القرآني الذي نتكلم فيه اشتمل على أمور ثلاثة: أولها: بيان أنه المعجزة المثبتة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر بالإشارة إذ قال: (وأوحي إلي هذا القرآن) وقد ثبت بالتحدي عجزهم عن أن يأتوا بمثله.

ثانيها: أنه مشتمل على الإنذار للمشركين والمخالفين والعصاة إن استمروا على غيهم ولم يستجيبوا لنداء ربهم ودعوة نبيهم على الوحدانية والفضيلة وتكون مجتمع سليم نقي.

ثالثها: أن النص يتضمن أن القرآن حجة وإنذار لكل من بلغه سواء خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم أم بلغه وقد بين ذلك قوله تعالى: (لأنذركم به ومن بلغ) أي أن من بلغ القرآن فهو مخاطب به، سواء أكان من العرب أم كان من العجم، وكأنه خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم ولقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عن الله تعالى، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله) وروى عن جمع من التابعين أنهم كانوا يقولون: (من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم). وإن هذا النص يستفاد منه أمران: أولهما: أن من لم يبلغه القرآن ولا يعلم عنه شيئا فإنه لا يعتبر قد بلغته الدعوة الإسلامية وإثمه على الذين تقاصروا عن تبليغها وبيانها. ثانيهما: أنه لا معذرة لمن يعرف القرآن في الكفر بالحقائق الإسلامية. ولكن كيف التبليغ بالقرآن والعجمة سائدة في هذا الوجود سواء أكانت إنجليزية أو فرنسية أو غيرهما؟ والجواب ذلك أنه يجب في سبيل الدعوة إلى الإسلام التي هي فرض كفاية على المسلمين يأثم المسلمون جميعا إن لم يكن دعاة إلى الإسلام يجب عليهم أن تفسر طائفة مخلصة مؤمنة فاهمة القرآن تفسيرا موجزا تبين معانيه، ويترجم ذلك التفسير إلى كل لغة أعجمية.

(أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ). شهادة الله التي فصل بها في القضية ونطق بها القرآن الكريم، ولذا أحيل بيانها إلى القرآن في قوله تعالى: (وأوحي إلي هذا القرآن) وفي هذا النص السامي يقابل بينها وبين شهادتهم وما يتبعه، النبي صلى الله عليه وسلم أيتبع الله تعالى العلي الحكيم ام يتبع أهواءهم؟ معاذ الله أن يتبع الهوى بل إنه يتبع الهدى، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، فهم وقع منهم ذلك، وتأكد وقوعه ولم ينكروه ولذلك كان تأكيد وقوعهم بان قال تعالت كلماته: (أئنكم) فهو إنكار لهذا الأمر الواقع منهم وقوعا مؤكدا، وإنكار الواقع توبيخ، فالاستفهام هنا يتضمن معنى تقرير ما وقع منهم وتوبيخهم عليه، وعبر ب"تشهدون" للإشارة إلى قوة الضلال في نفوسهم إذا إنهم مع ضلال الفكرة الوثنية يعتقدونها أشد الاعتقاد لأن الشهادة لا تكون الا بالعلم اليقيني فهم يؤمنون ب (تشهدون) بالشرك أي بأن مع الله آلهة أخرى وتسمية الأوثان التي يشركون بها مع الله تعالى آلهة لأن ذلك في زعمهم فليست آلهة ولا يمكن أن تكون آلهة إذ هي أوثان أو أشياء أو أشخاص لا يكون منها نفع ولا ضرر وليست مفيدة في ذاتها وهم يعبدونها، فهي بزعمهم آلهة. ووصفت ب (أخرى) مع أنها جمع، وكان الظاهر أن توصف (بأخر) ليوصف الجمع بالجمع ولكن لأنها مشتركة في وصف جامع وهو أنها أحجار فهي في المعنى شيء واحد لذا وصفت، فهي في المعنى واحد وكذا وصفت بما يوصف به الواحد لا بما يوصف به العدد ب (أخرى) فيه إشارة إلى بطلان عبادتها. وانه من المبالغة في التوبيخ والتنديد أن يأمر الله تعالى نبيه بالا يشهد بما يشهدون بل يشهد بشهادة الحق، فيقول الله تعالى: (قل لا أشهد). وفي أمر الله تعالى له بالقول مع التنديد لهم والتوبيخ لهم ما يدعو إلى الاقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم وهو العاقل الصادق الأمين المعروف بذلك بينهم جاهلية وإسلاما وإن ذهبت اللجاجة إلى إنكار المعروف بلسانه لا بقلبه. (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ). هذا تقرير وتأكيد لمعنى الجملة السابقة وهي لا شهد وتحتمل أن تكون داخلة في مقول القول، ويكون مقول القول لا أشهد وإنما هو إله واحد، ويحتمل أن تكون جملة مبتدأة والفصل في الأول يكون لأنها بيان لما قبلها، وفي الثانية يكون لابتداء الكلام، وإن كان في المعنى فيه تقرير لما سبقه. والضمير (هو) يعود على الله تعالى وهذا النص السامي تضمن أمرين: أولهما: وحدة الله تعالى وقد نص عليه بقوله تعالى: (إنما هو إله واحد) وهذا يفيد قصر الأولوهية على الله تعالى فلا يعبد سواه سبحانه، ويفيد مع ذلك أنه لا يتصور أن يكون المعبود بحق غير واحد، لأن المنشئ المكون واحد ولا يتصور بمقتضى النظر إلا أن يكون المعبود واحدا. الأمر الثاني: التصريح ببراءة النبي صلى الله عليه وسلم مما يعبدون من أوثان يشركون بها مع الله تعالى: (وإنني بريء مما تشركون). في هذا النص تنديد شديدبعبادة الأوثان لأن الرجل العاقل يتبرأ منها، ولا يليق أن يعبدها وقد أكد براءته ب (عن) وبالوصف (برئ) وبأن ذلك انتحال منهم وليس ألوهية في شيء.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

لقد اختلف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع القوم المناوئين له. والاختلاف يتطلب حكما وبينة. والشهود هم إحدى البينات، فما بالنا والشاهد هو الله؟! إنه الشاهد والحكم والمنفذ. وشهادة الله لا تحايل فيها، وحكمه لا ظلم فيه، وإرادته لا تظلم عبدا مثقال ذرة، ولا شهادة – إذن – أكبر من شهادة الحق لرسوله بأنه رسول من الله. ولو شاء الحق لجعلكم كلكم مؤمنين، لكنه أراد للإنسان الاختيار. وحنان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على البشر هو الذي جعله يتمنى إيمانهم،...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

يستفاد من هذه العبارة أيضاً أنّ القرآن أعظم معجزة وأكبر شاهد على صدق دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ثمّ يشير إِلى هدف نزول القرآن ويقول: (لأُنذركم به ومن بلغ) أي أنّ القرآن قد نزل عليّ لكي أنذركم، وأنذر جميع الذين يصل إِليهم عبر تاريخ البشر، وعلى امتداد الزمان وفي أرجاء العالم كافة كلامي، وأحذرهم من عواقب عصيانهم. يلاحظ هنا أنّ الكلام مقتصر على الإِنذار مع أنّ خطابات القرآن تجمع غالباً بين الإِنذار والبشرى، والسبب في ذلك يعود إِلى أنّ الكلام موجه هنا إِلى أفراد معاندين مصرين على المكابرة، ولا يمكن أن نتصور في الواقع عبارة أوجز وأشمل لبيان المقصود من هذه العبارة، وما فيها من دقّة وسعة يزيل كل إِيهام في عدم اختصاص دعوة القرآن بالعرب أو بزمان أو مكان معينين. بعض العلماء استدلوا بهذا التعبير وأمثاله على ختم النّبوة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهذه الجملة تعني أنّ الرّسول قد بعث إلى جميع الذين تصلهم دعوته، وهذا يشمل جميع الذين يردون الحياة حتى نهاية العالم. وتفيد الأحاديث الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ مفهوم إِبلاغ القرآن لا يعني مجرّد وصول نصوصه إِلى الأقوام الأُخرى فحسب، بل إنّ المفهوم يشمل وصول ترجماته بمختلف اللغات إِلى تلك الأقوام.