الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَالُوٓاْ إِنۡ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنۡيَا وَمَا نَحۡنُ بِمَبۡعُوثِينَ} (29)

قوله تعالى : { وَقَالُواْ } : هل هذه الجملة معطوفة على جواب " لو " والتقدير : ولو رُدُّوا لعادوا ولقالوا ، أو هي مستأنفة ليست داخلةً في حَيِّز " لو " ، / أو هي معطوفةٌ على قوله : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ؟ ثلاثة أوجه ، ذكر الزمخشري الوجهين الأول والآخِر فإنه قال : " وقالوا عطف على " لعادوا " أي : لو رُدُّوا لكفروا ولقالوا : إنْ هي إلا حياتنا الدنيا ، كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة ، ويجوز أن يُعْطف على قوله : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } على معنى : وإنهم لقوم كاذبون في كل شيء " . والوجهُ الأولُ منقول عن ابن زيد ، إلا أن ابن عطية ردَّه فقال : " وتوقيفُ اللَّهِ لهم في الآية بعدها على البعث والإِشارة إليه في قوله { أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ } [ آل عمران : 30 ] يردُّ على هذا التأويل " . وقد يُجاب عن هذا باختلاف حالين : فإنَّ إقرارَهم بالبعث حقيقةً إنما هو في الآخرة ، وإنكارَهم ذلك إنما هو الدنيا بتقدير عَوْدِهم إلى الدنيا ، فاعترافهم به في الدار الآخرة غيرُ منافٍ لإِنكارهم إياه في الدنيا .

قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا } " إنْ " نافية و " هي " مبتدأ ، و " حياتُنا " خبرها ، ولم يكتفُوا بمجرَّد الإِخبار بذلك حتى أبرزوها محصورةً في نفيٍ وإثبات ، و " هي " ضمير مُبْهَم يفسِّره خبره ، أي : ولا نعلم ما يُراد به إلا بذكر خبره ، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدها لفظاً ورتبة ، وقد قَدَّمْتُ ذلك عند قوله : { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [ البقرة : 29 ] ، وكونُ هذا ممَّا يفسِّره ما بعده لفظاً ورتبةً فيه نظرٌ ، إذ لقائل أن يقول " هي " تعود على شيء دلَّ عليه سياقُ الكلام ، كأنهم قالوا : إنَّ العادةَ المستمرة أو إن حالتنا وما عَهِدْنا إلا حياتنا الدنيا ، واستند هذا القائل إلى قولِ الزمخشري : " هذا ضميرٌ لا يُعْلَمُ ما يُراد به إلا بِذِكْر ما بعده " ومثَّل الزمخشري بقول العرب : " هي النفس تتحمَّل ما حَمَلَتْ " و " هي العرب تقول ما شاءت " .

وليس فيما قاله الزمخشري دليل له ؛ لأنه يعني أنه لا يُعلم ما يعود عليه الضمير إلا بذكر ما بعده ، وليس في هذا ما يدلُّ على أن الخبر مفسِّرٌ للضمير ، ويجوز أن يكون المعنى : إنِ الحياة إلا حياتنا الدنيا ، فقوله { إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } دالٌّ على ما يفسِّر الضمير وهو الحياة مطلقاً ، فَصَدَقَ عليه أنه لا يعمل ما يُراد به إلا بذكر ما بعده من هذه الحيثية لا من حيثيَّة التفسيرِ ، ويدلُّ على ما قلتُه قولُ أبي البقاء : " هي كنايةٌ عن الحياة ، ويجوز أن يكون ضميرَ القصة " .

قلت : أمَّا أولُ كلامِه فصحيحٌ ، وأمَّا آخرُه وهو قوله : " إن هي ضمير القصة " فليس بشيء ؛ لأن ضمير القصة لا يفسِّر إلا بجملةٍ مصرَّحٍ بجزْأَيْها . فإن قلت : الكوفي يجوِّزُ تفسيره بالمفرد فيكون نحا نحوَهم . فالجوابُ أن الكوفيَّ إنما يُجَوِّزه بمفرد عامل عملَ الفعل نحو : " إنه قائم زيد " " وظنتُه قائِماً زيدٌ " لأنه في صورة الجملة ، إذ في الكلام مسندٌ ومسندٌ إليه . أما نحو " هو زيد " فلا يُجيزه أحدٌ ، على أن يكونَ " هو " ضميرَ شأنٍ ولا قصة ، والدنيا صفة الحياة ، وليست صفةً مزيلةً اشتراكاً عارضاً ، يعني أن ثَمَّ حياةً غيرَ دنيا يُقِرُّون بها ، لأنهم لا يَعْرفون إلا هذه ، فهي صفةٌ لمجرد التوكيد ، كذا قيل ، ويَعْنون بذلك أنها لا مفهومَ لها ، وإلاَّ فحقيقةُ التوكيد غير ظاهرةٍ بخلاف { نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [ الحاقة : 13 ] . والباء في قوله " بمبعوثين " زائدةٌ لتأكيد الخبر المنفي ، ويحتمل مجرورها أن يكونَ منصوبً المحلِّ على أنَّ " ما " حجازيةٌ ، أو مرفوعةٌ على أنها تميمية .