الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَيَـٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ فَكُلَا مِنۡ حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (19)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقال الله لآدم:"يا آدَمُ اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما" فأسكن جلّ ثناؤه آدم وزوجته الجنة بعد أن أهبط منها إبليس وأخرجه منها، وأباح لهما أن يأكلا من ثمارها من أيّ مكان شاءا منها، ونهاهما أن يقربا ثمر شجرة بعينها...

"فَتَكُونا مِنَ الظّالِمِينَ "يقول: فتكونا ممن خالف أمر ربه. وفعل ما ليس له فعله...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

فقوله تعالى لآدم: {اسكن أنت وزوجك الجنة} أسكنهما عز وجل ليقرّا فيها، ويأمنا من كل [ما ينغّص عليهما] تلك النعم التي أنعم عليهما لأن الخوف مما ينغّص النعم، يذهب بلذتها. فلما أسكنهما عز وجل الجنة أمّنهما عن ذلك كله. ثم فيه أن أوّل المحنة والابتلاء من الله تعالى لعباده إنما يكون بالإنعام والإفضال عليهم ثم الجزاء والعدل لسوء ما ارتكبوا؛ لأنه عز وجل امتحن آدم بالإفضال والإنعام عليه حين أسجد ملائكته له، وأسكنه جنته، ووسّع عليه نعمه، ثم امتحنه بالشدائد وأنواع المشقة وجزاء ما ارتكبا من التناول من الشجرة التي نهاهما عن قربها. فهو ما ذكرنا أن شرط امتحانه عباده في الابتداء يكون بالإفضال والإنعام ثم بالعدل والجزاء لسوء صنيعهم...

وقوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة} لم يرد به الدّنّو منها، ولكن أراد الذوق والأكل منها. ألا ترى أنه قال: {فلما ذاقا الشجرة}؟ [الأعراف: 22] دل أن النهي لم يكن للدّنوّ منها، ولكن للذوق والأكل منها. وفيه أن الامتحان من الله مرة يكون بالحل ومرة بالحرمة لأنه أذن له التّناول مما فيها من أنواع النعم، وحرّم عليه التّناول من واحدة منها، فذلك محنة منه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

إذا أمر الإنسان بشيء هو متلبس به فإنما المقصد بذلك أن يستمر على حاله ويتمادى في هيئته، وقوله تعالى لآدم: {اسكن} هو من هذا الباب...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما أوجب له ما ذكر من الشقاوة تماديه في الحسد وكثرة كلامه في محسوده، التفت إلى محسوده الذي لم يتكلم فيه كلمة واحدة، بل اشتغل بنفسه في البكاء على ذنبه، واكتفى بفعل ربه بما ينجيه من حبائل مكره التي نصبها بما ذكر، ليكون ذلك سبب سعادته، فقال عطفاً على {اخرج منها}: {ويا آدم اسكن} ولما كان المراد بهذا الأمر هو نفسه لا التجوز به عن بعض من يلابسه، أكد ضميره لتصحيح العطف ورفع التجوز فقيل: {أنت وزوجك الجنة}. ولما كان السياق هنا للتعريف بأنه مكن لأبينا في الجنة أعظم من تمكينه لنا في الأرض بأن حباه فيها رغد العيش مقارناً لوجوده؛ ثم حسن في قوله: {فكلا} العطف بالفاء الدال على أن المأكول كان مع الإسكان، لم يتأخر عنه، قوله: {من حيث شئتما} بمعنى رغداً أي واسعاً، فإنه يدل على إباحة الأكل من كل شيء فيها غير المنهي عنه، وهذا السياق إلى آخره مشير إلى أن من خالف أمره تعالى ثل عرشه وهدم عزه وإن كان في غاية المكنة ونهاية القوة، كما أخرج من أعظم له المكنة بإسجاد ملائكته وإسكان جنته وإباحة كل ما فيها غير شجرة واحده؛ أكد تحريمها بالنهي عن قربانها دون الاكتفاء بالنهي عن غشيانها فقال: {ولا تقربا} أي فضلاً عن أن تتناولا {هذه الشجرة} مشيراً إلى شجرة بعينها أو نوعها؛ ثم سبب عن القربان العصيان، فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه فقال: {فتكونا} أي بسبب قربها {من الظالمين} أي بالأكل منها الذي هو مقصود النهي، فتكونا بذلك فاعلين فعل من يمشي في الظلام.

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

قال الجشمي: وقد تقدم ذكر هذه القصة، والفائدة في إعادتها أن القرآن نزل في بضع وعشرين سنة، والعوارض تعرض، والوفود تقدم، فكانت القصة تعاد، ليسمع من لم يسمع، استصلاحا ولطفا. لأن في إعادة قصة واحدة، في مواضع بألفاظ مختلفة، كل واحد منها في نهاية الحسن، من إعجاز القرآن...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

والآية ترشد إلى أن المرأة تابعة للرجل في السكنى والمعيشة باقتضاء الفطرة وهو الحق الواقع الذي يعد ما خالفه شذوذا. والقرآن قد علل النهي بأنه يترتب على مخالفته أن يكونا من الظالمين لأنفسهما أي بفعلهما ما يعاقبان عليه ولو بالحرمان من ذلك الرغد من العيش وما يعقبه من التعب في المعيشة.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

... يتجه الخطاب إلى آدم وزوجه، ليعهد إليهما ربهما بأمره في حياتهما؛ ولتبدأ تربيته لهما وإعدادهما لدورهما الأساسي، الذي خلق الله له هذا الكائن. وهو دور الخلافة في الأرض -كما صرح بذلك في آية البقرة: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)...

. (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة، فكلا من حيث شئتما، ولا تقربا هذه الشجرة، فتكونا من الظالمين). لقد أذن الله لهما بالمتاع الحلال، ووصاهما بالامتناع عن المحظور. ولا بد من محظور يتعلم منه هذا الجنس أن يقف عند حد؛ وأن يدرب المركوز في طبعه من الإرادة التي يضبط بها رغباته وشهواته؛ ويستعلي بها على هذه الرغبات والشهوات، فيظل حاكماً لها لا محكوماً بها كالحيوان، فهذه هي خاصية "الانسان "التي يفترق بها عن الحيوان، ويتحقق بها فيه معنى "الإنسان"...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

وفي توجيه الخطاب لآدم بهذه الفضيلة بحضور إبليس بعد طرده زيادة إهانة، لأنّ إعطاء النّعم لمرضي عليه في حين عقاب من استأهل العقاب زيادة حسرة على المعاقَب، وإظهاراً للتّفاوت بين مستحقّ الإنعام ومستحقّ العقوبة.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... لقد خلق الله آدم ليكون خليفة في الأرض، وكان عليه أن يتلقى من الله التكاليف محصورة في "افعل "و "لا تفعل"؛ لأنك إن لم تمتثل سيظهر الفساد في المجتمع، أما الذي لا يظهر منه فساد فسبحانه يتركه مباحا؛ لذلك فكل ما لم يرد فيه "افعل" و "لا تفعل" لا يفسد به المجتمع. إذن ف "افعل" و "لا تفعل" هي مقياس ضمان الصلاح في الأرض.

وهل خلق الله الإنسان هكذا بدون منغصات تفسد عليه منهج الله؟. لا، فما دام الشيطان قد وقف هذا الموقف مع آدم، وقال أنا سأغوي؛ فسيزين لك في "افعل" و "لا تفعل" ويأتيك الأمر بالصلاة فينزغك الشيطان حتى لا تصلي. ويأتيك الأمر ألا تشرب الخمر فيزين لك الشيطان أن تشربها، ويحاول أن ينقل مجال "افعل" إلى مجال "لا تفعل"، وكذلك يحاول أن يزين لك" أن تفعل "ما هو في جال" لا تفعل "فترتبك حركتك.

إن الحق سبحانه يريد منهجا يحكم حركة الحياة، ويضمن للخلافة في الأرض أن تؤدي مهمتها أداء يسعد الإنسان فيها في الدنيا وينعم في الآخرة؛ لذلك كان لابد أن يدرب الحق سبحانه خليفته في الأرض على المنهج؛ حتى لا يتلقي المنهج تلقيا نظريا، لذلك شاء سبحانه وتعالى ألا يجعل آدم يباشر مهمة الخلافة إلا بعد أن يعطيه تدريبا على المهمة في" افعل "و" لا تفعل". وحذره من العقبات التي تعترض "افعل"؛ حتى لا تجيء في منطقة "لا تفعل"، وكذلك من العقبات في منطقة" لا تفعل "حتى لا تجيء في منطقة" افعل"، واختار له مكانا فيه كل مقومات الحياة وترفها حتى لا يتعب في أي شيء أبدا في أثناء التدريب، وأوضح له أن هذه الجنة وهي بستان جميل وفيه كل مقومات الحياة وترفها، وأمره: كُلْ من كل شيء فيها، ولا لا تقرب هذه الشجرة.

" كل "هذا هو الأمر، و" لا تقرب "هذا هو النهي. وأوضح سبحانه لآدم أن الذي سيعكر عليه تطبيق منهج الله هو العدو الذي ثبتت عداوته إنه" إبليس"، لأنه حين امتنع عن السجود لآدم تلقى الطرد واللعنة فأقسم وقال: {قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين82} (سورة ص).

كأن الحق سبحانه وتعالى جعل الجنة كمكان فيه كل مقومات الحياة لآدم بصنع الله سبحانه وإعداده... إذن وجود الجنة هنا يعني أنها مكان التدريب على المهمة في الخلافة أمرا متمثلا في "فَكُلا"، ونهيا متمثلا في" لا تقربا"، لم يقل لهما: لا تأكلا، بل قال: "لا تقربا" لأن القربان مظنة أنه يؤدي إلى الغواية ويدفع إليها. وهو قد أكل منها لأنه جاء ناحيتها واقترب منها، ولو كان قد استمع ولم يقرب لما أكل منها.

فكأن الله جعل لآدم في جنة التدريب والتمرين رمزين: الرمز الأول: ل "افعل"، والرمز الثاني: ل" لا تفعل"، ونجد أن الذي نهى الله عنه قليل بالنسبة لما أباحه وأمر به. وهذا من رحمة الله بالعباد، فيفعل المؤمن ما يؤمر به، ولا يحوم حول ما حرمه الله؛ لأنه لا يأمن حين يرى ما حرم الله أن تميل نفسه إليه، ولذلك قال: {ولا تقربا} فلو أنهما لم يقربا ما كانت الشجرة تغريهما بأي منظر. ولذلك في كثير من الأشياء التي يحرمها الحق سبحانه وتعالى وفي قمتها ما يصون ويحفظ العقيدة الأساسية، يقول بعدم الاقتراب أو الاجتناب، فسبحانه هو القائل: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (من الآية (30) سورة الحج): ولم يقل: "لا تعبدوا الأوثان"، بل قال: {فَاجْتَنِبُوا}، والشأن في" الخمر "أيضا جاء بالاجتناب. لكنّ بعضا من السطحيين يقولون: لم يرد في الخمر تحريم بل قال بالاجتناب، ونقول له: الاجتناب أقوى من المنع والتحريم، لأن غاية التحريم أن يمنعك من شرب الخمر. لكن الاجتناب يقتضي ألا تذهب ناحيتها، ولا تقعد في المكان الذي توجد فيه، ولا تعصرها ولا تحملها. {.. ولا تقْربا هذِهِ الشّجرة فتكُونا مِن الظّالِمِين (19) [سورة الأعراف]: والظلم هو تجاوز الحد أو إعطاء الشخص غير حقه، ويوضح سبحانه: أنا لم أجعل لكما حقا في أن تقربا ناحية هذه الشجرة، فإن قربها أي منكما، فهو قد خالف ما شرعته لكما، {فتكُونا مِن الظّالِمِين} أي تدخلا في إطار من يظلمون أنفسهم لأن الله لا يظلم أحدا، وأنت تظلم نفسك لأنك تعطي شهوة قليلة في زمن يسير، وبعد ذلك تأخذ عقابها عذابا أليما في زمن طويل وبشكل أشد. وهذا ظلم لنفسك، كما أنه دليل على أنك غير مأمون عليها.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{فَتَكُونَا مِنَ الظَّلِمِينَ}، الذين يظلمون أنفسهم، ويسيئون اإليها بالانحراف عن خط المسؤولية في طاعة الله. ولم يكن لديهما أيُّ حافزٍ ذاتيّ يدفعهما إلى المعصية، لأنهما لا يشعران بالحاجة إلى هذه الشجرة بالذات، ما دامت الشجرة لا تمثل شيئاً مميزاً في شكلها وثمرها...