7- والله خلق السماوات والأرض وما فيهما في ستة أيام ، ومن قبل ذلك لم يكن الوجود أكثر من عالم الماء ، ومن فوقه عرش الله . وقد خلق الله هذا الكون ليظهر بالاختبار أحوالكم - أيها الناس - ليظهر منكم من يقبل على الله بالطاعة والأعمال الحسنة ، ومن يُعرض عن ذلك . . ومع هذه القدرة الخالقة إن قلت لهم مؤكداً : أنهم سيبعثون من قبورهم ، وأنهم خلقوا ليموتوا ويُبعثوا ، سارعوا إلى الرد عليك مؤكدين أن هذا الذي جئتهم به لا حقيقة له ، وما هو إلا كالسحر الواضح الذي يلعب بالعقول .
قال أكثر أهل التفسير : «الأيام » هي من أيام الدنيا ، وقالت فرقة : هي من أيام الآخرة يوم من ألف سنة . قاله كعب الأحبار ، والأول أرجح .
وأجزاء ذكر السماوات عن كل ما فيها إذ كل ذلك خلق في الستة الأيام ، واختلفت الأحاديث في يوم بداية الخلق ، فروي أبو هريرة - فيما أسند الطبري - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال : «خلق الله التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد ، والشجر يوم الاثنين والمكروه يوم الثلاثاء ، والنور يوم الأربعاء ، وبث الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة » ، ونحو هذا من أن البداءة يوم السبت في كتاب مسلم ، وفي الدلائل لثابت : وكان خلق آدم في يوم الجمعة ، لا يعتد به إذ هو بشر كسائر بنيه ، ولو اعتد به لكانت الأيام سبعة خلاف ما في كتاب الله ، وروي عن كعب الأحبار أنه قال : بدأ الله خلق السماوات والأرض يوم الأحد ، وفرغ يوم الجمعة ، وخلق آدم في آخر ساعة منه . ونحو هذا في جل الدواوين أن البدأة يوم الأحد ، وقال قوم : خلق الله تعالى هذه المخلوقات في ستة أيام مع قدرته على خلقها في لحظة . نهجاً إلى طريق التؤدة والمهلة في الأعمال ليحكم البشر أعمالهم ، وروي عن ابن عباس أنه قال : كان العرش على الماء ، وكان الماء على الريح{[6268]} .
وقوله تعالى : { ليبلوكم } متعلق ب { خلق } والمعنى أن خلقه إياها كان لهذا وقال بعض الناس : هو متعلق بفعل مضمر تقديره أعلم بذلك ليبلوكم ، ومقصد هذا القائل : أن هذه المخلوقات لم تكن لسبب البشر .
وقرأ عيسى الثقفي{[6269]} : «ولئن قلتُ » بضم التاء ، وقرأ الجمهور «قلتَ » بفتح التاء .
ومعنى الآية : أن الله عز وجل هذه صفاته وهؤلاء بكفرهم في حيز إن قلت لهم : إنهم مبعوثون كذبوا وقالوا : هذا سحر . أي فهذا تناقض منكم إذ كل مفطور يقر بأن الله خالق السماوات والأرض ، فهم من جملة المقرين بهذا ، ومع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور إذ البداءة أعسر من الإعادة ، وإذ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس .
واللام في { لئن } مؤذنة بأن اللام في { ليقولن } لام قسم لا جواب شرط .
وقرأ الأعرج والحسن وأبو جعفر وشيبة وفرقة من السبعة «سحر » وقرأت فرقة «ساحر » وقد تقدم .
{ وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا }
عطف على جملة { وما من دابّة في الأرض إلاّ على الله رزقها } [ هود : 6 ] . والمناسبة أنّ خلق السماوات والأرض من أكبر مظاهر علم الله وتعلقات قدرته وإتقان الصنع ، فالمقصود من هذا الخبر لازمه وهو الاعتبار بسعة علمه وقدرته ، وقد تقدم القول في نظيرها في قوله : { إنّ ربّكُمْ اللّهُ الذي خلق السموات والأرض في ستة أيامٍ ثم استوى على العرش } في سورة [ الأعراف : 54 ] .
وجملة { وكان عرشه على الماء } يجوز أن تكون حالاً وأن تكون اعتراضاً بين فعل ( خلق ) ولام التعليل . وأما كونها معطوفة على جملة { وما من دابّة في الأرض إلاّ على الله رزقها } [ هود : 6 ] المسوقة مساق الدليل على سعة علم الله وقدرته فغير رشيق لأنّ مضمون هذه الجملة ليس محسوساً ولا متقرراً لدى المشركين إذ هو من المغيبات وبعضه طرأ عليه تغيير بخلق السموات فلا يحسن جعله حجة على المشركين لإثبات سعة علم الله وقدرته المأخوذ من جملة { وما من دابة في الأرض } [ هود : 6 ] الخ . والمعنى إن العرش كان مخلوقاً قبل السموات وكان محيطاً بالماء أو حاوياً للماء . وحمل العرش على أنّه ذات مخلوقة فوق السموات هو ظاهر الآية . وذلك يقتضي أن العرش مخلوق قبل ذلك وأن الماء مخلوق قبل السموات والأرض . وتفصيل ذلك وكيفيته وكيفية الاستعلاء مما لا قبل للأفهام به إذ التعبير عنه تقريب .
ويجوز أن يكون المراد من العرش ملك الله وحكمه تمثيلاً بعرش السلطان ، أي كان ملك الله قبل خلق السموات والأرض مُلكاً على الماء .
وقوله : { ليبلوكم } متعلق ب { خلق } واللاّم للتعليل . والبلو : الابتلاء ، أي اختبار شيء لتحصيل علم بأحواله ، وهو مستعمل كناية عن ظهور آثار خلقه تعالى للمخلوقات ، لأن حقيقة البلو مستحيلة على الله لأنّه العليم بكلّ شيء ، فلا يحتاج إلى اختباره على نحو قوله : { إلاّ لنَعْلَم مَن يتّبعُ الرسول } في سورة [ البقرة : 143 ] .
وجُعل البلو علة لخلق السموات والأرض لكونه من حكمة خلق الأرض باعتبار كون الأرض من مجموع هذا الخلق ، ثم إن خلق الأرض يستتبع خلق ما جعلت الأرض عامرة به ، واختلاف أعمال المخاطبين من جملة الأحوال التي اقتضاها الخلق فكانت من حكمة خلق السموات والأرض ، وكان التّعليل هنا بمراتب كثيرة ، وعلة العلة علّة .
و { أيكم } : اسم استفهام ، فهو مبتدأ ، وجملة المبتدأ والخبر سادّة مسدّ الحال اللاّزم ذكرها بعد ضمير الخطاب في { يبلوكم } ، نظراً إلى أن الابتلاء لا يتعلق بالذوات ، فتعدية فعل ( يبلو ) إلى ضمير الذوات ليس فيه تمام الفائدة فكان محتاجاً إلى ذكر حال تُقَيّد متعلق الابتلاء ، وهذا ضرب من التعليق وليس عينه .
وفي الآية إشارة إلى أن من حكمة خلق الأرض صدور الأعمال الفاضلة من شرف المخلوقات فيها . ثم إن ذلك يقتضي الجزاء على الأعمال إكمالاً لمقتضى الحكمة ولذلك أعقبت بقوله : { ولئنْ قلت إنّكم مبعوثون } الخ .
{ وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }
يظهر أن الواو واو الحال والجملة حال من فاعل { خلَق السماوات والأرض } باعتبار ما تعلق بالفعل من قوله في { ستة أيام } ، وقوله : { ليبلوكم } ، والتقدير : فعل ذلك الخلق العجيب والحال أنهم ينكرون ما هو دون ذلك وهو إعادة خلق الناس . ويجهلون أنه لولا الجزاء لكان هذا الخلق عبثاً كما قال تعالى : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين } [ الدخان : 38 ] . فإنْ حمل الخبر في قوله : { وهو الذي خلق السموات والأرض } على ظاهر الإخبار كانت الحال مقدّرة من فاعل { خلَق } أي خلق ذلك مقدّراً أنكم تنكرون عظيم قدرته ، وإن حمل الخبر على أنه مستعمل في التنبيه والاعتبار بقدرة الله كانت الحال مقارنة .
ووجه جعلها جملة شرطية إفادة تجدد التكذيب عند كلّ إخبار بالبعث ، واللاّم موطّئة للقسَم ، وجواب القسَم { ليقولن } الخ ، فاللام فيه لام جواب القسم . وجواب ( إنْ ) محذوف أغنى عنه جواب القسَم كما هو الشأن عند اجتماع شرط وقسم أنْ يحذف جواب المتأخر منهما .
وتأكيد الجملة باللام الموطئة للقسم وما يتبعه من نون التوكيد لتنزيل السامع منزلة المتردد في صدور هذا القول منهم لغرابة صدوره من العاقل ، فيكون التأكيد القوي والتنزيل مستعملاً في لازم معناه وهو التعجيب من حال الذين كفروا أن يحيلوا إعادة الخلق وقد شاهدوا آثار بدء الخلق وهو أعظم وأبدع .
وقرأ الجمهور { إلاّ سحرٌ } على أنّ { هذا } إشارة إلى المدلول عليه ب ( قُلتَ ) ، ومعنى الإخبار عن القول بأنّه سحرٌ أنهم يزعمون أنّه كلام من قبيل الأقوال التي يقولها السحرة لخصائص تؤثر في النفوس .
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { إلاّ ساحرٌ } فالإشارة بقوله { هذا } إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم المفهوم من ضمير { قلتَ } أي أنه يقول كلاماً يسحرنا بذلك .
ووجه جعلهم هذا القول سحراً أن في معتقداتهم وخرافاتهم أنّ من وسائل السحر الأقوال المستحيلة والتكاذيب البهتانيّة ، والمعنى أنّهم يكذّبون بالبعث كلّما أخبروا به لا يترددون في عدم إمكان حصوله بله إيمانهم به .
و { مبين } اسم فاعل أبان المهموز الذي هو بمعنى بَانَ المجرد ، أي بَيّنٌ وَاضحٌ أنه سحر أو أنه ساحرٌ .