قوله تعالى : { وربك الغني } ، عن خلقه .
قوله تعالى : { ذو الرحمة } ، قال ابن عباس : بأوليائه وأهل طاعته ، وقال الكلبي : بخلقه ذو التجاوز .
قوله تعالى : { إن يشأ يذهبكم } ، يهلككم ، وعيد لأهل مكة .
قوله تعالى : { ويستخلف } ، ويخلف وينشئ .
قوله تعالى : { من بعدكم ما يشاء } . خلقاً غيركم أمثل وأطوع .
قوله تعالى : { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } ، أي : آبائهم الماضين قرناً بعد قرن .
{ وربك الغني } عن العباد والعبادة . { ذو الرحمة } يترحم عليهم بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي ، وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتأسيس لما بعده وهو قوله : { إن يشأ يذهبكم } أي ما به إليكم حاجة { إن يشأ يذهبكم } أيها العصاة . { ويستخلف من بعدكم ما يشاء } من الخلق . { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } أي قرن بعد قرن لكنه أنبأكم ترحم عليكم .
{ وَرَبُّكَ الغنى ذُو الرحمة } .
عُطفْت جملة : { وربك الغني } على جملة : { وما ربُّك بغافل عمّا يعملون } [ الأنعام : 132 ] إخباراً عن علمه ورحمته على الخبر عن عمله ، وفي كلتا الجملتين وعيد ووعد ، وفي الجملة الثّانية كناية عن غناه تعالى عن إيمان المشركين وموالاتهم كما في قوله : { إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم } [ الزمر : 7 ] ، وكناية عن رحمته إذْ أمهل المشركين ولم يعجّل لهم العذاب ، كما قال : { وربُّك الغفور ذو الرّحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب } في سورة الكهف ( 58 ) .
وقوله : { وربك } إظهار ، في مقام الإضمار ، ومقتضى الظاهر أن يقال : وهو الغنيّ ذو الرّحمة ، فخولف مقتضى الظاهر لما في اسم الربّ من دلالة على العناية بصلاح المربوب ، ولتكون الجملة مستقلّة بنفسها فتسير مسرى الأمثال والحِكَم ، وللتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم .
والغنيّ : هو الّذي لا يحتاج إلى غيره ، والغنيّ الحقيقي هو الله تعالى لأنَّه لا يحتاج إلى غيره بحال ، وقد قال علماء الكلام : إنّ صفة الغِنَى الثّابتة لله تعالى يَشمل معناها وجوب الوجود ، لأنّ افتقار الممكن إلى الموجد المختارِ ، الّذي يرجح طَرف وجوده على طرف عدمه ، هو أشدّ الافتقار ، وأحسب أنّ معنى الغِنى لا يثبت في اللّغة للشّيء إلاّ باعتبار أنّه موجود فلا يشمل معْنى الغنى صفة الوجود في متعارف اللّغة . إلاّ أن يكون ذلك اصطلاحاً للمتكلّمين خاصّاً بمعنى الغِنى المطلق . وممّا يدلّ على ما قُلتهُ أنّ من أسمائه تعالى المغني ، ولم يُعتبر في معناه أنَّه موجد الموجودات . وتقدّم الكلام على معنى الغنيّ عند قوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً } في سورة النّساء ( 135 ) .
وتعريف المسند باللاّم مقتض تخصيصه بالمسند إليه ، أي قصر الغنى على الله ، وهو قصرٌ ادّعائي باعتبار أنّ غنى غير الله تعالى لمّا كان غنى ناقصاً نُزّل منزلة العدم ، أي ربّك الغنيّ لا غيره ، وغناه تعالى حقيقي . وذكر وصف الغنيّ هنا تمهيد للحكم الوارد عقبه ، وهو : { إن يشأ يذهبكم } فهو من تقديم الدّليل بين يدي الدّعوى ، تذكيراً بتقريب حصول الجزم بالدّعوى .
و { ذو الرحمة } خبر ثان . وعدل عن أن يوصف بوصف الرّحيم إلى وصفه بأنّه : { ذو الرحمة } : لأنّ الغنيّ وصف ذاتي لله لا ينتفع الخلائق إلاّ بلوازم ذلك الوصف ، وهي جوده عليهم ، لأنَّه لا ينقص شيئاً من غناه ، بخلاف صفة الرّحمة فإنّ تعلّقها ينفع الخلائق ، فأوثرت بكلمة { ذو } لأنّ { ذو } كلمة يتوصّل بها إلى الوصف بالأجناس ، ومعناها صاحب ، وهي تشعر بقوّة أو وفرة ما تضاف إليه ، فلا يقال ذو إنصاف إلاّ لمن كان قوي الإنصاف ، ولا يقال ذُو مال لمن عنده مال قليل ، والمقصُود من الوصف بذي الرّحمة ، هنا تمهيد لمعنى الإمهال الّذي في قوله : { إن يشأ يذهبكم } ، أي فلا يقولنّ أحد لماذا لم يُذهب هؤلاء المكذّبين ، أي أنَّه لرحمته أمهلهم إعذاراً لهم .
{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ } .
استئناف لتهديد المشركين الّذين كانوا يكذّبون الإنذار بعذاب الإهلاك ، فيقولون : { متى هذا الفتح إن كنتم صادقين } [ السجدة : 28 ] وذلك ما يؤذن به قوله عقبه : { إنَّ مَا توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين } [ الأنعام : 134 ] .
فالخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه التعريض بمن يغفل عن ذلك من المشركين ، ويجوز أن يكون إقبالاً على خطاب المشركين فيكون تهديداً صريحاً .
والمعنى : إن يشأ الله يعجّل بإفنائكم ويستخلفْ من بعدكم من يشاءُ ممّن يؤمن به كما قال : { وإن تَتَوَلَّوْا يستبدِلْ قوما غيرَكم ثمّ لا يَكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] أي فما إمهاله إيَّاكم إلاّ لأنَّه الغنيّ ذو الرّحمة . وجملة الشّرط وجوابه خبرٌ ثالث عن المبتدأ . ومفعول : { يشأ } محذوف على طريقته المألوفة في حذف مفعول المشيئة .
والإذهاب مجاز في الإعدام كقوله : { وإنَّا على ذهاب به لقادرون } [ المؤمنون : 18 ] .
والاستخلاف : جعل الخَلف عن الشّيء ، والخَلَف : العوض عن شيء فائت ، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد ، و { مَا } موصولة عامّة ، أي : ما يشاء من مؤمنين أو كافرين على ما تقتضيه حكمته ، وهذا تعريض بالاستئصال لأنّ ظاهر الضّمير يفيد العموم .
والتّشبيه في قوله : { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } تشبيه في إنشاء موجودات بعد موجودات أخرى ، لا في كون المنشَئات مُخرجة من بقايا المعدومات ، ويجوز أن يكون التّشبيه في إنشاء موجودات من بقايا معدومات كما أنشأ البشر نشأة ثانية من ذرّية من أنجاهم الله في السّفينة مع نوح عليه السّلام ، فيكون الكلام تعريضاً بإهلاك المشركين ونجاة المؤمنين من العذاب .
وكاف التّشبيه في محلّ نصب نيابة عن المفعول المطلق ، لأنَّها وصف لمحذوف تقديره : استخلافاً كما أنشأكم ، فإنّ الإنشاء يصف كيفية الاستخلاف . و { مِنْ } ابتدائية ، ومعنى الذرّية واشتقاقها تقدّم عند قوله تعالى : { قال ومن ذريتي } في سورة البقرة ( 124 ) .
ووصف قوم } ب { آخرين } للدّلالة على المغايرة ، أي قوم ليسوا من قبائل العرب ، وذلك تنبيه على عظيم قدرة الله تعالى أن ينشيء أقواماً من أقوام يخالفونهم في اللّغة والعوائد والمواطن ، وهذا كناية عن تباعد العصور ، وتسلسل المنشآت لأنّ الاختلاف بين الأصول والفروع لا يحدث إلاّ في أزمنة بعيدة ، فشتّان بين أحوال قوم نوح وبين أحوال العرب المخاطَبين ، وبين ذلك قرون مختلفة متباعدة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: وربك يا محمد الذي أمر عباده بما أمرهم به ونهاهم عما نهاهم عنه وأثابهم على الطاعة وعاقبهم على المعصية، الغنّي عن عباده، الذين أمرهم بما أمر ونهاهم عما نهى، وعن أعمالهم وعبادتهم إياه، وهم المحتاجون إليه، لأنه بيده حياتهم ومماتهم وأرزاقهم وأقواتهم ونفعهم وضرّهم، يقول عز ذكره: فلم أخلقهم يا محمد ولم آمرهم بما أمرتهم به وأنههم عما نهيتهم عنه لحاجة لي إليهم ولا إلى أعمالهم، ولكن لأتفضّل عليهم برحمتي وأثيبهم على إحسانهم إن أحسنوا، فإني ذو الرأفة والرحمة.
وأما قوله:"إنْ يَشأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ" فإنه يقول: إن يشأ ربك يا محمد الذي خلق خلقه لغير حاجة منه إليهم وإلى طاعتهم إياه "يُذْهِبْكُمْ "يقول: يهلك خلقه هؤلاء الذين خلقهم من ولد آدم "وَيْسَتخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشَاءُ" يقول: ويأت بخلق غيركم، وأمم سواكم يخلفونكم في الأرض من بعدكم، يعني: من بعد فنائكم وهلاككم "كمَا أنْشَأكُمْ مِنْ ذُرّيّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ": كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلقٍ آخرين كانوا قبلكم. ومعنى «مِنْ» في هذا الموضع: التعقيب، كما يقال في الكلام أعطيتك من دينارك ثوبا، بمعنى: مكان الدينار ثوبا، لا أن الثوب من الدينار بعض، كذلك الذين خوطبوا بقوله: "كمَا أنْشأَكُمْ" لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين، ولكن معنى ذلك ما ذكرنا من أنهم أنشئوا مكان خَلْقٍ خَلْفَ قوم آخرين قد هلكوا قبلهم. والذرية من قول القائل: ذرأ الله الخلق، بمعنى خلقهم... وأصل الإنشاء: الإحداث، يقال: قد أنشأ فلان يحدّث القوم، بمعنى: ابتدأ وأخذ فيه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَرَبُّكَ الغنى} عن عباده وعن عبادتهم {ذُو الرحمة} يترحم عليهم بالتكليف ليعرّضهم للمنافع الدائمة {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أيها العصاة {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء} من الخلق المطيع {كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ} من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم، وهم أهل سفينة نوح عليه السلام.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الغني} صفة ذات لله عز وجل لأنه تبارك وتعالى لا يفتقر إلى شيء من جهة من الجهات، ثم تليت هذه الصفة بقوله {ذو الرحمة} فأردف الاستغناء بالتفضل وهذا أجمل تناسق، ثم عقب بهذه الألفاظ المضمنة الوعيد المحذرة من بطش الله عز وجل في التعجيل بذلك، وإما مع المهلة ومرور الجديدين، فكذلك عادة الله في الخلق، وأما «الاستخلاف» فكما أوجد الله تعالى هذا العالم الآدمي بالنشأة من ذرية قوم متقدمين أصلهم آدم عليه السلام...
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بين ثواب أصحاب الطاعات وعقاب أصحاب المعاصي والمحرمات وذكر أن لكل قوم درجة مخصوصة ومرتبة معينة، بين أن تخصيص المطيعين بالثواب، والمذنبين بالعذاب، ليس لأجل أنه محتاج إلى طاعة المطيعين أو ينتقص بمعصية المذنبين فإنه تعالى غني لذاته عن جميع العالمين، ومع كونه غنيا فإن رحمته عامة كاملة، ولا سبيل إلى ترتيب هذه الأرواح البشرية والنفوس الإنسانية وإيصالها إلى درجات السعداء الأبرار، إلا بترتيب الترغيب في الطاعات والترهيب عن المحظورات فقال: {وربك الغني ذو الرحمة} ومن رحمته على الخلق ترتيب الثواب والعقاب على الطاعة والمعصية... ثم قال تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء} والمعنى أنه تعالى لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة فقد كان يجوز أن يظن ظان أنه وإن كان ذا الرحمة إلا أن لرحمته معدنا مخصوصا وموضعا معينا فبين تعالى أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق، وقادر على أن يخلق قوما آخرين ويضع رحمته فيهم وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم والمقصود التنبيه على أن تخصيص الرحمة بهؤلاء ليس لأجل أنه لا يمكنه إظهار رحمته إلا بخلق هؤلاء. أما قوله: {إن يشأ يذهبكم} فالأقرب أن المراد به الإهلاك ويحتمل الإماتة أيضا ويحتمل أن لا يبلغهم مبلغ التكليف...
وأما قوله: {ما يشاء} فالمراد منه خلق ثالث ورابع...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ختم الآيات السابقة بقوله تعالى: {وما ربك بغافل عما يعملون} أي بل هو محيط بها ومجاز عليها، وبدأ هذه بقوله {وربك الغني ذو الرحمة} لإثبات غناه تعالى عن تلك الأعمال والعاملين لها وعن كل شيء، ورحمته في التكليف والجزاء وغيرهما. والجملة تفيد الحصر أو القصر كما قالوا. أي وربك غير الغافل عن تلك الأعمال هو الغني وذو الرحمة الكاملة الشاملة التي وسعت كل شيء، أما الأول فبيانه أن الغنى هو عدم الحاجة وإنما يكون على إطلاقه وكمال معناه بل هو أصل معناه لواجب الوجود والصفات الكمالية بذاته وهو الرب الخالق، إذ كل ما عداه فهو محتاج إليه في وجوده وبقائه ومحتاج بالتبع لذلك إلى الأسباب التي جعلها تعالى قوام وجوده. وإنما يقال في الخلق هذا غني إذا كان واجدا لأهم هذه الأسباب، فغنى الناس مثلا إضافي عرفي لا حقيقي مطلق فإن ذا المال الكثير الذي يسمى غنيا كثير الحاجات فقير إلى كثير من الناس كالزوج والخادم والعامل والطبيب والحاكم دع حاجته إلى خالقه وخالق كل شيء التي قال تعالى فيها {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} (فاطر 15) وقد "كان الله تعالى ولا شيء معه "غنيا عن كل شيء "وهو الآن على ما عليه كان "غير محتاج إلى عمل الطائعين لأنه ينفعه بل ينفعهم، ولا إلى دفع عمل العاصين لأنه لا يضره بل يضرهم، فالتكليف والجزاء عليه رحمة منه سبحانه بهم يكمل له نقص المستعد للكمال...
وأما كونه تعالى ذو الرحمة الكاملة وحده فجلي ظاهر عقلا وفعلا ونقلا فنحن نعلم من أنفسنا أنه ما من أحد منا إلا ويقسو ويظلم نفسه وغيره أحيانا حتى أحب الناس إليه وأقربهم منه كالزوج والولد والوالد فما القول بمن دونهم، على أن كل ذي رحمة فرحمته من فيض رحمة الله تعالى خالق الأحياء وواهب الغرائز والصفات. روى الشيخان في صحيحيهما من حديث عمر بن الخطاب (رض) قال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها بسقي إذا وجدت صبيا في السبي أخذته وأرضعته فوجدت صبيا فأخذته فالتزمته وفي وراية فألصقته ببطنها فأرضعته فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أترون هذه طارحة ولدها في النار؟" قلنا لا وهي قادرة على ألا تطرحه فقال الله أرحم بعباده من هذه بولدها "ورويا أيضا من حديث أبي هريرة قال سمعت ر سول الله صلى الله عليه و سلم يقول:"جعل الله الرحمة في مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه "روياه من عدة طرق منها" إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأرسل في الخلق كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولم يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار "وقد ذكر بعض العلماء في شرح الحديث أن الرحمة رحمتان صفة ذات قائمة بذات الله تعالى وهي لا تتعدد وصفة فعل وهي التي جعلت مائة قسم، والمتبادر أن الحديث في نسبة رحمة جميع الخلق إلى رحمة الله تعالى لبيان تعظيم قدرها، فيا حسرة على من لم يقدرها قدرها ويا حسرة على من اغتر بها ففسق عن أمر ربه ونسي حكمته في الجزاء، وهذه الرواية في الحديث لبيان وجوب الجمع بين الخوف والرجاء. وقد سبق فيما نقلناه عن حادي الأرواح كلام حافل في رحمة الله تعالى في التكليف والجزاء ثوابا وعقابا يغني عن إعادة القول فيها هنا...
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} أي إن يشأ إذهابكم أيها الكافرون برسوله المعاندون له واستخلاف غيركم بعدكم يذهبكم بعذاب يهلككم به كما أهلك أمثالكم من معاندي رسله كعاد وثمود وقوم لوط ويستخلف من بعدكم ما يشاء من الأفراد أو الأقوام فإنه غني عنكم وقادر على إهلاككم وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم أحق برحمته منكم كما قدر على إنشائكم من ذرية قوم آخرين. ولكن هؤلاء الخلفاء يكونون خيرا منكم يؤمنون بالله ورسوله ويقيمون الحق والعدل في الأرض.
وقد أهلك تعالى أولئك الذين عادوا خاتم رسله كبرا وعنادا وجحدوا بما جاء به مع استيقانهم صدقة، واستخلف في الأرض غيرهم ممن كان كفرهم عن جهل أو تقليد لمن قبلهم لم يلبث أن ذهبت به آيات الله في كتابه وفي الأنفس والآفاق بإرشاده فكانوا أكمل الناس إيمانا وإسلاما وإحسانا وهم المهاجرون والأنصار وذرياتهم الذين كانوا أعظم مظهر لرحمة الله للبشر بالإسلام... وشذ بعض المفسرين فقالوا: إن المراد بهؤلاء المستخلفين: الجن. وقال بعضهم: إنهم ليسوا من الإنس ولا الجن لأنه أبلغ في الدلالة على القدرة، وهو تصور باطل إذ ليس المقام مقام بيان عجائب آثار القدرة ولا الإبهام لأجل ذهاب الخيال كل مذهب فيه، بل مقام الإنذار بالسنن الإلهية المؤيدة بمحفوظ التاريخ وبقايا العاديات والآثار، فهذه الآية الواردة بعد وصفه تعالى بالغنى والرحمة على وجه الكمال الذي لا يشاركه فيه غيره هي كقوله تعالى بعد وصفه الناس بالفقر ووصف نفسه بالغني الحميد بصيغة الحصر {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} (إبراهيم 19) وقوله تعالى في آخر سورة القتال {والله الغني وأنتم الفقراء وإن تولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} (محمد 38).
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
على أن الله -سبحانه- إنما يرسل رسله رحمة بالعباد؛ فهو غني عنهم؛ وعن إيمانهم به وعبادتهم له. وإذا أحسنوا فإنما يحسنون لأنفسهم في الدنيا والآخرة. كذلك تتجلى رحمته في الإبقاء على الجيل العاصي الظالم المشرك، وهو القادر على أن يهلكه، وينشئ جيلا آخر يستخلفه: (وربك الغني ذو الرحمة. إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء. كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين). فلا ينس الناس أنهم باقون برحمة الله؛ وأن بقاءهم معلق بمشيئة الله؛ وأن ما في أيديهم من سلطان إنما خولهم الله إياه. فليس هو سلطاناً أصيلاً، ولا وجودا مختارا. فما لأحد في نشأته ووجوده من يد؛ وما لأحد فيما أعطيه من السلطان من قدرة. وذهابهم واستخلاف غيرهم هين على الله. كما أنه أنشأهم من ذرية جيل غبر. واستخلفوا هم من بعده بقدر من الله. إنها طرقات قوية وإيقاعات عنيفة على قلوب الظالمين من شياطين الإنس والجن الذين يمكرون ويتطاولون، ويحرمون ويحللون، ويجادلون في شرع الله بما يشرعون.. وهم هكذا في قبضة الله يبقيهم كيف شاء، ويذهب بهم أنى شاء، ويستخلف من بعدهم ما يشاء.. كما أنها ايقاعات من التثبيت والطمأنينة والثقة في قلوب العصبة المسلمة، التي تلقى العنت من كيد الشياطين ومكرهم؛ ومن أذى المجرمين وعدائهم.. فهؤلاء هم في قبضة الله ضعافا حتى وهم يتجبرون في الأرض ويمكرون!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عُطفْت جملة: {وربك الغني} على جملة: {وما ربُّك بغافل عمّا يعملون} [الأنعام: 132] إخباراً عن علمه ورحمته على الخبر عن عمله، وفي كلتا الجملتين وعيد ووعد، وفي الجملة الثّانية كناية عن غناه تعالى عن إيمان المشركين وموالاتهم كما في قوله: {إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم} [الزمر: 7]، وكناية عن رحمته إذْ أمهل المشركين ولم يعجّل لهم العذاب، كما قال: {وربُّك الغفور ذو الرّحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب} في سورة الكهف (58).
وقوله: {وربك} إظهار، في مقام الإضمار، ومقتضى الظاهر أن يقال: وهو الغنيّ ذو الرّحمة، فخولف مقتضى الظاهر لما في اسم الربّ من دلالة على العناية بصلاح المربوب، ولتكون الجملة مستقلّة بنفسها فتسير مسرى الأمثال والحِكَم، وللتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم.
والغنيّ: هو الّذي لا يحتاج إلى غيره، والغنيّ الحقيقي هو الله تعالى لأنَّه لا يحتاج إلى غيره بحال، وقد قال علماء الكلام: إنّ صفة الغِنَى الثّابتة لله تعالى يَشمل معناها وجوب الوجود، لأنّ افتقار الممكن إلى الموجد المختارِ، الّذي يرجح طَرف وجوده على طرف عدمه، هو أشدّ الافتقار، وأحسب أنّ معنى الغِنى لا يثبت في اللّغة للشّيء إلاّ باعتبار أنّه موجود فلا يشمل معْنى الغنى صفة الوجود في متعارف اللّغة. إلاّ أن يكون ذلك اصطلاحاً للمتكلّمين خاصّاً بمعنى الغِنى المطلق. وممّا يدلّ على ما قُلتهُ أنّ من أسمائه تعالى المغني، ولم يُعتبر في معناه أنَّه موجد الموجودات. وتقدّم الكلام على معنى الغنيّ عند قوله تعالى: {إن يكن غنياً أو فقيراً} في سورة النّساء (135).
وتعريف المسند باللاّم مقتض تخصيصه بالمسند إليه، أي قصر الغنى على الله، وهو قصرٌ ادّعائي باعتبار أنّ غنى غير الله تعالى لمّا كان غنى ناقصاً نُزّل منزلة العدم، أي ربّك الغنيّ لا غيره، وغناه تعالى حقيقي. وذكر وصف الغنيّ هنا تمهيد للحكم الوارد عقبه، وهو: {إن يشأ يذهبكم} فهو من تقديم الدّليل بين يدي الدّعوى، تذكيراً بتقريب حصول الجزم بالدّعوى.
و {ذو الرحمة} خبر ثان. وعدل عن أن يوصف بوصف الرّحيم إلى وصفه بأنّه: {ذو الرحمة}: لأنّ الغنيّ وصف ذاتي لله لا ينتفع الخلائق إلاّ بلوازم ذلك الوصف، وهي جوده عليهم، لأنَّه لا ينقص شيئاً من غناه، بخلاف صفة الرّحمة فإنّ تعلّقها ينفع الخلائق، فأوثرت بكلمة {ذو} لأنّ {ذو} كلمة يتوصّل بها إلى الوصف بالأجناس، ومعناها صاحب، وهي تشعر بقوّة أو وفرة ما تضاف إليه، فلا يقال ذو إنصاف إلاّ لمن كان قوي الإنصاف، ولا يقال ذُو مال لمن عنده مال قليل، والمقصُود من الوصف بذي الرّحمة، هنا تمهيد لمعنى الإمهال الّذي في قوله: {إن يشأ يذهبكم}، أي فلا يقولنّ أحد لماذا لم يُذهب هؤلاء المكذّبين، أي أنَّه لرحمته أمهلهم إعذاراً لهم.
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ}.
استئناف لتهديد المشركين الّذين كانوا يكذّبون الإنذار بعذاب الإهلاك، فيقولون: {متى هذا الفتح إن كنتم صادقين} [السجدة: 28] وذلك ما يؤذن به قوله عقبه: {إنَّ مَا توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين} [الأنعام: 134].
فالخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه التعريض بمن يغفل عن ذلك من المشركين، ويجوز أن يكون إقبالاً على خطاب المشركين فيكون تهديداً صريحاً.
والمعنى: إن يشأ الله يعجّل بإفنائكم ويستخلفْ من بعدكم من يشاءُ ممّن يؤمن به كما قال: {وإن تَتَوَلَّوْا يستبدِلْ قوما غيرَكم ثمّ لا يَكونوا أمثالكم} [محمد: 38] أي فما إمهاله إيَّاكم إلاّ لأنَّه الغنيّ ذو الرّحمة. وجملة الشّرط وجوابه خبرٌ ثالث عن المبتدأ. ومفعول: {يشأ} محذوف على طريقته المألوفة في حذف مفعول المشيئة.
والإذهاب مجاز في الإعدام كقوله: {وإنَّا على ذهاب به لقادرون} [المؤمنون: 18].
والاستخلاف: جعل الخَلف عن الشّيء، والخَلَف: العوض عن شيء فائت، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد، و {مَا} موصولة عامّة، أي: ما يشاء من مؤمنين أو كافرين على ما تقتضيه حكمته، وهذا تعريض بالاستئصال لأنّ ظاهر الضّمير يفيد العموم.
والتّشبيه في قوله: {كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} تشبيه في إنشاء موجودات بعد موجودات أخرى، لا في كون المنشَئات مُخرجة من بقايا المعدومات، ويجوز أن يكون التّشبيه في إنشاء موجودات من بقايا معدومات كما أنشأ البشر نشأة ثانية من ذرّية من أنجاهم الله في السّفينة مع نوح عليه السّلام، فيكون الكلام تعريضاً بإهلاك المشركين ونجاة المؤمنين من العذاب.
وكاف التّشبيه في محلّ نصب نيابة عن المفعول المطلق، لأنَّها وصف لمحذوف تقديره: استخلافاً كما أنشأكم، فإنّ الإنشاء يصف كيفية الاستخلاف. و {مِنْ} ابتدائية، ومعنى الذرّية واشتقاقها تقدّم عند قوله تعالى: {قال ومن ذريتي} في سورة البقرة (124).
ووصف قوم} ب {آخرين} للدّلالة على المغايرة، أي قوم ليسوا من قبائل العرب، وذلك تنبيه على عظيم قدرة الله تعالى أن ينشئ أقواماً من أقوام يخالفونهم في اللّغة والعوائد والمواطن، وهذا كناية عن تباعد العصور، وتسلسل المنشآت لأنّ الاختلاف بين الأصول والفروع لا يحدث إلاّ في أزمنة بعيدة، فشتّان بين أحوال قوم نوح وبين أحوال العرب المخاطَبين، وبين ذلك قرون مختلفة متباعدة.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ومنها آية تنذر المتمردين على الله والمتعدين لحدوده، بالقضاء عليهم وإبادتهم، واستخلاف غيرهم بدلا منهم، متى فقدوا مؤهلات الخلافة عن الله في الأرض، وأخلوا بشروطها الجوهرية، وأول هذه الشروط الإصلاح دون الإفساد، وثانيها التعمير دون التدمير، وثالثها حفظ التوازن التام، وضمان الانسجام الكامل، بين نواميس الطبيعة وقوانين الشريعة. وما دامت قدرة الله هي التي يدين لها الإنسان بدءا وختاما بإيجاده وإمداده، فإن هذه القدرة لا يعجزها إبادة أمة أو أمم متعددة متى كانت فاسدة، وتعويضها بغيرها من الأمم الصالحة لعمارة الأرض والاستخلاف فيها، وذلك قوله تعالى {وربك الغني ذو الرحمة، إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين، وإنما توعدون لآت، وما أنتم بمعجزين} على غرار قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}...