{ قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر } فعلمكم شيئا دون شيء ولذلك غلبكم ، أو فواعدكم على ذلك وتواطأتم عليه ، وأراد به التلبيس على قومه كي لا يعتقدوا أنهم أمنوا على بصيرة وظهور حق ، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وروح " أأمنتم " بهمزتين { فلسوف تعلمون } وبال ما فعلتم وقوله : { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين } بيان له .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ف {قال} فرعون للسحرة: {آمنتم له} يقول: صدقتم بموسى {قبل أن آذن لكم} يقول: من قبل أن آمركم بالإيمان به، ثم قال فرعون للسحرة: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} إن هذا لمكر مكرتموه، يقول: إن هذا لقول قلتموه أنتم، يعني به السحرة وموسى في المدينة... لتخرجوا منها أهلها... {فلسوف تعلمون} هذا وعيد، فأخبرهم بالوعيد، فقال: {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف} يعني: اليد اليمنى والرجل اليسرى، {ولأصلبنكم أجمعين} في جذوع النخل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول "لأُقَطّعَنّ أيْديَكُمْ وأرْجُلَكُمْ "مخالفا في قطع ذلك منكم بين قطع الأيدي والأرجل، وذلك أن أقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، ثم اليد اليسرى والرجل اليمنى، ونحو ذلك من قطع اليد من جانب، ثم الرجل من الجانب الآخر، وذلك هو القطع من خلاف.
"وَلأُصَلّبَنّكُمْ أجَمعِينَ" فوكد ذلك بأجمعين إعلاما منه أنه غير مستبقٍ منهم أحدا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم قال فرعون: {آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} إن فرعون قد علم أن ما جاء به موسى هو حجة، لكنه كان يلبس على قومه وأصحابه، ويغويهم عليه:
فقال مرة: {إن هذا لساحر عليم} [الشعراء: 34] وقال: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} [الشعراء: 27] وقال مرة: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون} [الشعراء: 49] وقال: {إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة} الآية [الأعراف: 123].
ثم أوعد لهم بوعائد، فقال: {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أي وبال ما فعلتم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فلما رأى فرعون وملؤه إيمان السحرة وقامت الحجة بإيمان أهل علمهم ومظنة نصرتهم وقع فرعون في الورطة العظمى، فرجع إلى السحرة بهذه الحجة الأخرى، فوقفهم موبخاً على إيمانهم بموسى قبل إذنه، وفي هذه اللفظة مقاربة عظيمة وبعض إذعان لأن محتملاتها أنهم لو طلبوا إذنه في ذلك أذن، ثم توعدهم بقطع الأيدي والأرجل {من خلاف} والصلب في جذوع النخل.
اعلم أنهم لما آمنوا بأجمعهم لم يأمن فرعون أن يقول الناس إن هؤلاء السحرة على كثرتهم وتظاهرهم لم يؤمنوا إلا عن معرفة بصحة أمر موسى عليه السلام فيسلكون مثل طريقهم، فلبس على القوم وبالغ في التنفير عن موسى عليه السلام من وجوه؛
أولها: قوله: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} وهذا فيه إيهام أن مسارعتكم إلى الإيمان به دالة على أنكم كنتم مائلين إليه، وذلك يطرق التهمة إليهم فلعلهم قصروا في السحر حياله.
وثانيها: قوله: {إنه لكبيركم الذي علمكم السحر} وهذا تصريح بما رمز به أولا، وغرضه منه أنهم فعلوا ذلك عن مواطأة بينهم وبين موسى عليه السلام وقصروا في السحر ليظهر أمر موسى عليه السلام، وإلا ففي قوة السحرة أن يفعلوا مثل ما فعل موسى عليه السلام، وهذه شبهة قوية في تنفير من يقبل قوله.
وثالثها: قوله: {فلسوف تعلمون} وهو وعيد مطلق وتهديد شديد.
ورابعها: قوله: {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين} وهذا هو الوعيد المفصل، وقطع اليد والرجل من خلاف هو قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والصلب معلوم، وليس في الإهلاك أقوى من ذلك، وليس في الآية أنه فعل ذلك أو لم يفعل.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
تهددهم فلم يقطع ذلك فيهم، وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما. وذلك أنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر، وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم، من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر، إلا أن يكون الله قد أيده به، وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه؛ ولهذا لما قال لهم فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ}؟ أي: كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم، ولا تفتاتوا عليَّ في ذلك، فإن أذنت لكم فعلتم، وإن منعتكم امتنعتم، فإني أنا الحاكم المطاع؛ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}. وهذه مكابرة يعلم كل أحد بُطلانها، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل. ثم توعَّدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب، فقالوا: {لا ضَيْرَ}
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما خاف فرعون اتباع الناس لهم، لما يرون مما هالهم من أمرهم، وكان قد تقدم ما يعرف أن المنكر عليهم فرعون نفسه، قال تعالى مخبراً عنه: {قال} من غير ذكر الفاعل -أي فرعون- لعدم اللبس، ومقصود السورة غير مقتض للتصريح كما في الأعراف بل ملائم للإعراض عنه والإراحة منه، منكراً مبادراً موهماً لأنه إنما يعاقب على المبادرة بغير إذن، لا على نفس الفعل، وأنه ما غرضه إلا التثبت ليؤخر بهذا التخييل الناس عن المبادرة بالإيمان إلى وقت ما {آمنتم له} أي لموسى عليه السلام، أفرده بالضمير لأنه الأصل في هذه الرسالة، وحقيقة الكلام: أوقعتم التصديق بما أخبر به عن الله لأجله إعظاماً له بذلك {قبل أن ءاذن لكم} أي في الإيمان؛ ثم علل فعلهم بما يقتضي أنه عن مكر وخداع، لا عن حسن اتباع، فقال: {إنه} أي موسى عليه السلام {لكبيركم}. ولما كان هذا مشعراً بنسبته له إلى السحر، وأنه أعلم منهم به، فلذلك غلبهم، أوضحه بقوله: {الذي علمكم السحر} فتواعدتم معه على هذا الفعل، لتنزعوا الملك من أربابه، هذا وكل من سمعه يعلم كذبة قطعاً، فإن موسى عليه السلام ما ربي إلا في بيته، واستمرّ حتى فر منهم إلى مدين، لا يعلم سحراً، ولا ألم بساحر، ولا سافر إلا إلى مدين، ثم لم يرجع إلا داعياً إلى الله، ولكن الكذب غالب على قطر مصر، وأهلها أسرع شيء سماعاً له وانقياداً به. ولما أوقف السامعين بما خيلهم به من هذا الباطل المعلوم البطلان لكل ذي بصيرة، أكد المنع بالتهديد فقال: {فلسوف تعلمون} أي ما أفعل بكم، أي فتسبب عما فعلتم أني أعاقبكم عقوبة محققة عظيمة، وأتى بأداة التنفيس خشية من أن لا يقدر عليهم فيعلم الجميع عجزه فيؤمنوا، مع ما فيها في الحقيقة على السحرة من التأكيد في الوعيد الذي لم يؤثر عندهم في جنب ما أشهدهم الله من الآية التي مكنتهم في مقام الخضوع؛ ثم فسر ما أبهم بقوله: {لأقطعن} بصيغة التفعيل لكثرة القطع والمقطوعين {أيديكم وأرجلكم} ثم بين كيفية تقطيعها فقال: {من خلاف} وزاد في التهويل فقال: {ولأُصلبنكم أجمعين}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
عندئذ جن جنون فرعون، فلجأ إلى التهديد البغيض بالعذاب والنكال. بعد أن حاول أن يتهم السحرة بالتآمر عليه وعلى الشعب مع موسى! قال: آمنتم له قبل أن آذن لكم! إنه لكبيركم الذى علمكم السحر. فلسوف تعلمون. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم أجمعين..
(آمنتم له قبل أن آذن لكم).. لم يقل آمنتم به. إنما عده استسلاما له قبل إذنه. على طريقة المناورات التي يدبرها صاحبها وهو مالك لإرادته، عارف بهدفه، مقدر لعاقبته. ولم يشعر قلبه بتلك اللمسة التي مست قلوبهم. ومتى كان للطغاة قلوب تشعر بمثل هذه اللماسات الوضيئة؟ ثم سارع في اتهامهم لتبرير ذلك الانقلاب الخطير: (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) وهي تهمة عجيبة لا تفسير لها إلا أن بعض هؤلاء السحرة -وهم من الكهنة- كانوا يتولون تربية موسى في قصر فرعون أيام أن تبناه، أو كان يختلف إليهم في المعابد. فارتكن فرعون إلى هذه الصلة البعيدة، وقلب الأمر فبدلا من أن يقول: إنه لتلميذكم قال: إنه لكبيركم. ليزيد الأمر ضخامة وتهويلا في أعين الجماهير! ثم جعل يهدد بالعذاب الغليظ بعد التهويل فيما ينتظر المؤمنين: (فلسوف تعلمون. لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين)..
إنها الحماقة التي يرتكبها كل طاغية، حينما يحس بالخطر على عرشه أو شخصه، يرتكبها في عنف وغلظة وبشاعة، بلا تحرج من قلب أو ضمير.. وإنها لكلمة فرعون الطاغية المتجبر الذي يملك تنفيذ ما يقول.. فما تكون كلمة الفئة المؤمنة التي رأت النور!.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
طغى طغيان فرعون، وظهر حمقه، فبدل أن يذعن للحكم الذي اختاره ثار عليهم وقال:
{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}.
داهية نزلت بألوهية فرعون، وتأثيره في قومه، وبطلان حجته في رد موسى أمام حشد مجتمع، من مدائن مصر كلها ليشهدوا نصرته، فشهدوا بطلان حجته، وهزيمته، فاستخدم الطغيان ليحول الأذهان، ولتكون رهبته محل حجته {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} إذا جعلنا همزة استفهام، في القول، وإذا لم يكن استفهام يكون ذكر الإيمان قبل الإذن منه، هو الاستنكار، كأنه ملك قلوبهم وأجسادهم وخواطرهم ونوازع نفوسهم، وهذا شأن كل جبار متحكم، كأنه ملك الأفئدة والعقول والنفوس، لأن الذين حوله يوزعون له بذلك، وبأن هذا حق الله فرضته الطاعة، ثم الألوهية الباطلة، وقوله تعالى له أي مذعنين خاضعين له.
ولم يفرض أنه الحق بموجب علمهم، وتفريقهم بين باطل السحر، ومعجزة الحق، بل فرض أنه كبيرهم الذي علمهم السحر وليموه على الناس، فقال إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فأنتم تتبعون معلمكم ولا تتبعوني.
ثم انتقل من التضليل إلى التهديد كشأن الطغاة دائما إذا ما حل بهم الدليل يسترون عجزهم بالتهديد، فيقول: {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، واللام تفيد توكيد التهديد، وسوف لبيان تأكيد العلم في المستقبل، وهو علم معاينة لا علم إخبار، ولذا ذكر ما هدد به نافذا واقعا {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ} أي: يد من جانب، ورجل من جانب، {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} إن التصليب يكون مقارنا للقتل، فكأنه هددهم بأمور ثلاثة أولها التعذيب بقطع الأيدي والأرجل من خلاف، وثانيها القتل، وثالثها التصليب، ليكونوا عبرة لغيرهم، إذ هم أول من شقوا عصا الطاعة، ونبذوا ألوهيته وراء ظهورهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أمّا فرعون، فحيث وجد نفسه مهزوماً معنوياً ويرى من جانب آخر أن وجوده وسلطانه في خطر، وخاصّة أنه كان يعرف أيّ تأثير عميق لإيمان السحرة في قلوب سائر الناس، ومن الممكن أن يسجد جماعة آخرون كما سجد السحرة، فقد تذرع بوسيلة جديدة وابتكار ماكر، فالتفت إلى السحرة و (قال آمنتم به قبل أن آذن لكم). لقد تربع على عرش الاستبداد سنين طوالا، ولم يكن يترقب من الناس أن لا يسجدوا أو يقوموا بعمل دون إذنه فحسب، بل كان ترقُّبه أن تكون قلوب الناس وأفكارهم مرهونةً به وبأمره، فليس لهم أن يفكّروا دون إذنه!! وهكذا هي سنة الجبابرة والمستكبرين!. هذا المغرور الطائش لم يكن مستعدّاً لأن يذكر اسم الله ولا اسم موسى، بل اكتفى بالقول (آمنتم له)! والمراد من هذا التعبير هو التحقير!! إلاّ أن فرعون لم يقنع بهذا المقدار، بل أضاف جملتين أُخريين ليُثّبت موقعه كما يتصوّر أوّلا، وليحول بين أفكار الناس اليقظين فيعيدهم غفلةً نياماً. فاتهم السحرة أوّلا بأنّهم تواطؤوا مع موسى (عليه السلام) وتآمروا على أهل مصر جميعاً، فقال: (إنّه لكبيركم الذي علمكم السحر). وقد اتفقتم مع موسى من قبل أن تردوا هذه الساحة، فتضلوا أهل مصر وتجرّوهم إلى الخضوع تحت سيطرة حكومتكم؛ وتريدون أن تطردوا أصحاب هذا البلد وتخرجوهم من ديارهم وتُحلّوا العبيد محلهم... إلاّ أنني لا أدعكم تنتصرون في هذه المؤامرة، وسأخنق المؤامرة في مهدها (فلسوف تعلمون لأُقطعنّ أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين). أي: لا أكتفي بإعدامكم فحسب، بل أقتلكم قتلاً بالتعذيب والزجر بين الملأ العام، وعلى جذوع النخل، (لأن قطع الأيدي والأرجل من خلاف يؤدي إلى الموت البطيء، فيذوق معه الإنسان التعذيب أكثر). وهذه هي طريقة الجبابرة والحكّام الظلمة في كل عصر وزمان، ففي البدء يتهمون الرجال المصلحين بالتآمر ضد الناس، وبعد الاستفادة من حربة التهمة يعملون السيف في الرقاب ليضعف موقع المطالبين بالحق ولا يجدوا معاضداً لهم، فيزيحوهم من طريقهم. إلاّ أن فرعون لم يحقق هدفه هنا، لأن السحرة قبل لحظة والمؤمنين في هذه اللحظة قد غمر قلوبهم الإيمان، وأضرمهم عشق الله؛ بحيث لم يهزّهم تهديد فرعون، فأجابوه بضرس قاطع وأحبطوا خطته و (قالوا لا ضير إنا إلى ربّنا منقلبون)