قيل : المراد بالخطاب في { اهْبِطُوا } آدم ، وحواء ، وإبليس ، والحية . ومنهم من لم يذكر الحية ، والله أعلم .
والعمدة في العداوة آدم وإبليس ؛ ولهذا قال تعالى في سورة " طه " قال : { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا } [ الآية : 123 ] وحواء تبع لآدم . والحية - إن كان ذكرها صحيحا - فهي تبع لإبليس .
وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم ، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات ، والله أعلم بصحتها . ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم ، أو دنياهم ، لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله{[11628]} صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي : قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة ، قد جرى بها القلم ، وأحصاها القدر ، وسطرت في الكتاب الأول . وقال ابن عباس : { مُسْتَقَرٌّ } القبور . وعنه : وجه الأرض وتحتها . رواهما ابن أبي حاتم .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ وَمَتَاعٌ إِلَىَ حِينٍ } .
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن فعله بإبليس وذرّيته وآدم وولده والحية ، يقول تعالى ذكره لاَدم وحواء وإبليس والحية : اهبطوا من السماء إلى الأرض بعضكم لبعض عدوّ . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن طلحة ، عن أسباط ، عن السديّ : اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدوّ قال : فلعن الحية ، وقطع قوائمها ، وتركها تمشي على بطنها ، وجعل رزقها من التراب ، وأهبطوا إلى الأرض ، آدم وحوّاء وإبليس والحية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي عوانة ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح : اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ قال : آدم وحوّاء والحية .
وقوله : وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ يقول : ولكم يا آدم وحوّاء وإبليس والحية ، في الأرض قرار تستقرّونه وفراش تمتهدونه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال : هو قوله : الّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ فِرَاشا . ورُوي عن ابن عباس في ذلك ما :
حُدثت عن عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السديّ ، عمن حدثه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ قال : القبور .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر آدم وحوّاء وإبليس والحية إذ أهبطوا إلى الأرض ، أنهم عدوّ بعضهم لبعض ، وأنّ لهم فيها مستقرّا يستقرّون فيه ، ولم يخصصها بأن لهم فيها مستقرّا في حال حياتهم دون حال موتهم ، بل عمّ الخبر عنها بأن لهم فيها مستقرّا ، فذلك على عمومه كما عمّ خبر الله ، ولهم فيها مستقرّ في حياتهم على ظهرها وبعد وفاتهم في بطنها ، كما قال جلّ ثناؤه : ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفاتا أحْياءً وأمْواتا .
وأما قوله : وَمَتاعٌ إلى حِينٍ فإنه يقول جلّ ثناؤه : ولكم فيها متاع تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا ، وذلك هو الحين الذي ذكره . كما :
حُدثت عن عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن السديّ ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : وَمَتاعٌ إلى حِينٍ قال : إلى يوم القيامة وإلى انقطاع الدنيا .
والحين نفسه الوقت ، غير أنه مجهول القدر ، يدلّ على ذلك قول الشاعر :
وَما مِرَاحُكَ بَعْدَ الحِلْمِ وَالدّينِ ***وَقَدْ عَلاكَ مَشِيبٌ حَينَ لا حِينِ
طوَى القرآن هنا ذكر التّوبة على آدم : لأنّ المقصود من القصّة في هذه السّورة التّذكير بعداوة الشّيطان وتحذير النّاس من اتّباع وسوسته ، وإظهار ما يُعقبه اتّباعه من الخسران والفساد ، ومقام هذه الموعظة يقتضي الإعراض عن ذكر التّوبة للاقتصار على أسباب الخسارة ، وقد ذكرت التّوبة في آية البقرة المقصودِ منها بيان فضل آدم وكرامته عند ربّه ، ولكلّ مقامً مَقال . والخطابُ لآدم وزوجه وإبليسَ . والأمر تكويني ، وبه صار آدم وزوجه وإبليسُ من سكّان الأرض .
وجملة : { بعضكم لبعض عدو } في موضع الحال من ضمير : { اهبطوا } المرفوععِ بالأمر التّكويني فهذه الحال أيضاً تفيد معنى تكوينياً وهو مقارنة العداوة بينهم لوجودهما في الأرض ، وهذا التّكوين تأكّدت به العداوة الجبلية السّابقة فرسخت وزادت ، والمراد بالبعض البعض المخالف في الجنس ، فأحد البعضين هو آدم وزوجه ، والبعض الآخر هو إبليس ، وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينيّة بين أصلي الجنسين ، كانت موروثة في نسليهما ، والمقصود تذكير بني آدم بعداوة الشّيطان لهم ولأصلهم ليتّهموا كلّ وسوسة تأتيهم من قِبله ، وقد نشأت هذه العداوة عن حَسد إبليس ، ثمّ سَرت وتشجرت فصارت عداوة تامة في سائر نواحي الوجود ، فهي منبثّة في التّفكير والجسد ، ومقتضية تمام التّنافر بين النّوعين .
وإذ قد كانت نفوس الشّياطين داعية إلى الشرّ بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير ، ولكنّه معرّض لوسوسة الشّياطين فيقع في شذوذ عن أصل فطرته ، وفي هذا ما يكون مفتاحاً لمعنى كون النّاس يولدون على الفطرة ، وكون الإسلام دين الفطرة ، وكون الأصل في النّاس الخير . أمَّا كون الأصل في النّاس العدالة أو الجرح فذلك منظور فيه إلى خشية الوقوع في الشّذوذ ، من حيث لا يدري الحاكم ولا الراوي ، لأنّ أحوال الوقوع في ذلك الشّذوذ مبهمة فوجب التّبصّر في جميع الأحوال .
وعطفت جملة : { ولكم في الأرض مستقر } على جملة : { بعضكم لبعض عدو } .
والمستقرّ مصدر ميمي والاستقرار هو المكث وقد تقدّم القول فيه عند قوله تعالى : { لكل نبإ مستقر } [ الأنعام : 67 ] وقوله { فمستقر ومستودع } في سورة الأنعام ( 98 ) .
والمراد به الوجود أي وجود نوع الإنسان وبخصائصه وليس المراد به الدفن كما فسر به بعض المفسرين لأنّ قوله ومتاع يُصد عن ذلك ولأنّ الشّياطين والجنّ لا يُدفنون في الأرض .
والمتاع والتّمتّع : نيل الملذّات والمرغوبات غير الدّائمة ، ويطلق المتاع على ما يُتمتّع به وينتفع به من الأشياء ، وتقدّم في قوله تعالى : { لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم } في سورة النّساء ( 102 ) .
والحِين المدّة من الزّمن ، طويلة أو قصيرة ، وقد نكر هنا ولم يحدّد لاختلاف مقداره باختلاف الأجناس والأفراد ، والمراد به زمن الحياة التي تخول صاحبها إدراك اللّذّات ، وفيه يحصل بقاء الذّات غير متفرّقة ولا متلاشية ولا معدومة ، وهذا الزّمن المقارن لحالة الحياة والإدراك هو المسمّى بالأجل ، أي المدّة التي يبلغ إليها الحيّ بحياته في علم الله تعالى وتكوينِه ، فإذا انتهى الأجل وانعدمت الحياة انقطع المستقَر والمتاع ، وهذا إعلام من الله بما قدّره للنّوعين ، وليس فيه امتنان ولا تنكيل بهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله تعالى ذكره عن فعله بإبليس وذرّيته وآدم وولده... يقول تعالى ذكره لآدم وحواء وإبليس...: اهبطوا من السماء إلى الأرض بعضكم لبعض عدوّ...
وقوله:"وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ" يقول: ولكم يا آدم وحوّاء وإبليس...، في الأرض قرار تستقرّونه وفراش تمتهدونه... عن أبي العالية، في قوله: "وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ "قال: هو قوله: "الّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ فِرَاشا". ورُوي عن ابن عباس... قوله: "وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرّ" قال: القبور.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر آدم وحوّاء وإبليس... إذ أهبطوا إلى الأرض، أنهم عدوّ بعضهم لبعض، وأنّ لهم فيها مستقرّا يستقرّون فيه، ولم يخصصها بأن لهم فيها مستقرّا في حال حياتهم دون حال موتهم، بل عمّ الخبر عنها بأن لهم فيها مستقرّا، فذلك على عمومه كما عمّ خبر الله، ولهم فيها مستقرّ في حياتهم على ظهرها وبعد وفاتهم في بطنها، كما قال جلّ ثناؤه: "ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفاتا أحْياءً وأمْواتا".
وأما قوله: "وَمَتاعٌ إلى حِينٍ" فإنه يقول جلّ ثناؤه: ولكم فيها متاع تستمتعون به إلى انقطاع الدنيا، وذلك هو الحين الذي ذكره... والحين نفسه: الوقت، غير أنه مجهول القدر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أهْبَطَهم، ولكنه أهبط إبليسَ عن رتبته فوقع في اللعنة، وأهبط آدم عن بقعته فتداركتْه الرحمة. ويقال لم يُخْرَج آدم عليه السلام من رتبة الفضيلة وإنْ أُخرِجَ عن دار الكرامة، فلذلك قال الله تعالى: {ثُمَّ اجتَبَاهُ رَبُّهُ} [طه: 122] وأما إبليس -لعنةُ الله عليه- فإنه أُخْرِجَ من الحالة والرتبة؛ فلم ينتعش قط عن تلك السَّقْطة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{اهبطوا} الخطاب لآدم وحواء وإبليس. و {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي متعادين يعاديهما إبليس ويعاديانه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «المتاع» التمتع والنيل من الفوائد، و {إلى حين} هو بحسب الجملة قيام الساعة، وبحسب مفرد بلوغ الأجل والموت.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
...والعمدة في العداوة آدم وإبليس؛ ولهذا قال تعالى في سورة "طه "قال: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} [الآية: 123] وحواء تبع لآدم... وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات، والله أعلم بصحتها. ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم، أو دنياهم، لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تشوفت النفس إلى جواب العلي الكبير سبحانه، أجيبت بقوله {قال اهبطوا} أي إلى دار المجاهدة والمقارعة والمناكدة حال كونكم {بعضكم لبعض عدو} أي أنتما ومن ولدتماه أعداء إبليس ومن ولد، وبعض أولادكم أعداء لبعض، ولا خلاص إلا باتباع ما منحتكم من هدى العقل وما أنزلت إليكم من تأييده بالنقل، وفي ذلك تهديد صادع لمن له أدنى مسكة بالإشارة إلى قبح مغبة المخالفة ولو مع التوبة، وحث على دوام المراقبة خوفاً من سوء المعاقبة {ولكم في الأرض} أي جنسها {مستقر} أي موضع استقرار كالسهول وما شابهها {ومتاع إلى حين} أي انقضاء آجالكم ثم انقضاء أجل الدنيا.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ} الخطاب لآدم وحواء عليهما السلام وللشيطان عليه اللعنة والملام، أي اهبطوا من هذه الجنة أو من هذه المكانة على ما تقدم مثله في قصة إبليس، بعضكم وهو الشيطان عدو لبعض وهو الإنسان، وأما الإنسان فليس عدو للشيطان لأنه ليس مندفعا إلى إغوائه وإيذائه، وإنما يجب عليه أن يتخذه عدوا بأن لا يغفل عن عداوته له ولا يأمن وسوسته وإغوائه وإيذائه كما قال تعالى: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} (فاطر 6)...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا تكون التجربة الأولى قد تمت. وتكشفت خصائص الإنسان الكبرى. وعرفها هو وذاقها. واستعد -بهذا التنبيه لخصائصه الكامنة- لمزاولة اختصاصه في الخلافة؛ وللدخول في المعركة التي لا تهدأ أبداً مع عدوه.. (قال: اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. قال: فيها تحيون، وفيها تموتون، ومنها تخرجون).. وهبطوا جميعا.. هبطوا إلى هذه الأرض.. ولكن أين كانوا؟ أين هي الجنة؟.. هذا من الغيب الذي ليس عندنا من نبأ عنه إلا ما أخبرنا به من عنده مفاتح الغيب وحده.. وكل محاولة لمعرفة هذا الغيب بعد انقطاع الوحي هي محاولة فاشلة. وكل تكذيب كذلك يعتمد على مألوفات البشر اليوم وعلمهم الظني هو تبجح. فهذا "العلم "يتجاوز مجاله حين يحاول الخوض في هذا الغيب بغير أداة عنده ولا وسيلة. ويتبجح حين ينفي الغيب كله، والغيب محيط به في كل جانب، والمجهول في "المادة" التي هي مجاله أكثر كثيراً من المعلومات! لقد هبطوا جميعاً إلى الأرض.. آدم وزوجه، وإبليس وقبيله. هبطوا ليصارع بعضهم بعضاً، وليعادي بعضهم بعضاً؛ ولتدور المعركة بين طبيعتين وخليقتين: إحداهما ممحضة للشر، والأخرى مزدوجة الاستعداد للخير والشر؛ وليتم الابتلاء ويجري قدر الله بما شاء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
طوَى القرآن هنا ذكر التّوبة على آدم: لأنّ المقصود من القصّة في هذه السّورة التّذكير بعداوة الشّيطان وتحذير النّاس من اتّباع وسوسته، وإظهار ما يُعقبه اتّباعه من الخسران والفساد، ومقام هذه الموعظة يقتضي الإعراض عن ذكر التّوبة للاقتصار على أسباب الخسارة، وقد ذكرت التّوبة في آية البقرة المقصودِ منها بيان فضل آدم وكرامته عند ربّه، ولكلّ مقامً مَقال...
والخطابُ لآدم وزوجه وإبليسَ. والأمر تكويني، وبه صار آدم وزوجه وإبليسُ من سكّان الأرض...
وإذ قد كانت هذه العداوة تكوينيّة بين أصلي الجنسين، كانت موروثة في نسليهما، والمقصود تذكير بني آدم بعداوة الشّيطان لهم ولأصلهم ليتّهموا كلّ وسوسة تأتيهم من قِبله، وقد نشأت هذه العداوة عن حَسد إبليس، ثمّ سَرت وتشجرت فصارت عداوة تامة في سائر نواحي الوجود، فهي منبثّة في التّفكير والجسد، ومقتضية تمام التّنافر بين النّوعين...
وإذ قد كانت نفوس الشّياطين داعية إلى الشرّ بالجبلة تعين أن عقل الإنسان منصرف بجبلته إلى الخير، ولكنّه معرّض لوسوسة الشّياطين فيقع في شذوذ عن أصل فطرته، وفي هذا ما يكون مفتاحاً لمعنى كون النّاس يولدون على الفطرة، وكون الإسلام دين الفطرة، وكون الأصل في النّاس الخير.
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -شؤم الخطيئة كان سبب طرد إبليس من الرحمة، وإخراج آدم من الجنة...