وبعد هذه الإشارة يأخذ السياق المكذبين في جولة مع مصارع الغابرين :
أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ? إن في ذلك لآيات . أفلا يسمعون ? .
ومصارع الغابرين من القرون تنطق بسنة الله في المكذبين ، وسنة الله ماضية لا تتخلف ولا تحابي . وهذه البشرية تخضع لقوانين ثابتة في نشوئها ودثورها ، وضعفها وقوتها . والقرآن الكريم ينبه إلى ثبات هذه القوانين ، واطراد تلك السنن ، ويتخذ من مصارع القرون ، وآثار الماضين ، الدارسة الخربة ، أو الباقية بعد سكانها موحشة . يتخذ منها معارض للعبرة ، وإيقاظ القلوب ، وإثارة الحساسية ، والخوف من بطش الله وأخذه للجبارين . كما يتخذ منها معارض لثبات السنن والنواميس . ويرفع بهذا مدارك البشر ومقاييسهم ، فلا ينعزل شعب أو جيل في حدود الزمان والمكان ؛ وينسى النظام الثابت في حياة البشر ، المطرد على توالي القرون . وإن كان الكثيرون ينسون العبرة حتى يلاقوا نفس المصير !
وإن للآثار الخاوية لحديثا رهيبا عميقا ، للقلب الشاعر ، والحس المبصر ، وإن له لرجفة في الأوصال ، ورعشة في الضمائر ، وهزة في القلوب . ولقد كان العرب المخاطبون بهذه الآية ابتداء يمشون في مساكن عاد وثمود ويرون الآثار الباقية من قرى قوم لوط . والقرآن يستنكر أن تكون مصارع هذه القرون معروضة لهم ؛ وأن تكون مساكن القوم أمامهم ، يمرون عليها ويمشون فيها ؛ ثم لا يستجيش هذا قلوبهم ، ولا يهز مشاعرهم ، ولا يستثير حساسيتهم بخشية الله ، وتوقي مثل هذا المصير ؛ ولا يهدي لهم ويبصرهم بالتصرف المنجي من استحقاق كلمة الله بالأخذ والتدمير :
( إن في ذلك لآيات . أفلا يسمعون ? ) . .
يسمعون قصص الغابرين الذين يمشون في مساكنهم ، أو يسمعون هذا التحذير ، قبل أن يصدق بهم النذير ، ويأخذهم النكير !
{ يهد } معناه يبين قاله ابن عباس ، وقرأ جمهور الناس «يهد » بالياء فالفاعل الله تعالى في قول فرقة والرسول في قول فرقة ، كأنه قال «أو لم يبين لهم الهدى » ، وجوز الكوفيون أن يكون الفاعل { كم } ، ولا يجوز ذلك عند البصريين لأنها في الخبر على حكمها في الاستفهام في أنها لا يعمل فيها ما قبلها ، وقرأ أبو عبد الرحمن «نهد » بالنون وهي قراءة الحسن وقتادة ، فالفاعل الله تعالى ، و { كم } في موضع نصب ، فعند الكوفيين ب «نهد » وعند البصريين ب { أهلكنا } ، على القراءتين جميعاً ، وقرأ جمهور الناس «يَمشون » بفتح الياء وتخفيف الشين ، وقرأ ابن السميفع اليماني «يُمَشّون » بضم الياء وفتح الميم وشد الشين ، وقرأ عيسى بن عمر «يُمْشُون » بضم الياء وسكون الميم وشين مضمومة مخففة ، والضمير في { يمشون } يحتمل أن يكون للمخاطبين بالتنبيه المحتج عليهم ، ويحتمل أن يكون للمهلكين ف { يمشون } في موضع الحال ، أي أهلكوا وهم ماشون في مساكنهم ، والضمير في { يسمعون } للمنبهين ، ومعنى هذه الآية إقامة الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا .
عطف على جملة { ومَن أظلم ممّن ذُكِّر بآيات ربه ثم أعرض عنها } [ السجدة : 22 ] ، ولما كان ذلك التذكير متصلاً كقوله { وقالوا أإذا ضَللنا إنّا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون } [ السجدة : 10 ] كان الهدي ، أي العلم المستفهم عنه بهذا الاستفهام شاملاً للهدي إلى دليل البعث وإلى دليل العقاب على الإعراض عن التذكير فأفاد قوله { كم أهلكنا من قبلهم من القرون } معنين : أحدهما : إهلاك أمم كانوا قبلهم فجاء هؤلاء المشركون بعدهم ، وذلك تمثيل للبعث وتقريب لإمكانه . وثانيهما : إهلاك أمم كذبوا رسلهم ففيهم عبرة لهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم .
والاستفهام إنكاري ، أي هم لم يهتدوا بدلائل النظر والاستدلال التي جاءهم بها القرآن فأعرضوا عنها ولا اتعظوا بمصَارع الأمم الذين كذبوا أنبياءهم وفي مهلكهم آيات تزجر أمثالهم عن السلوك فيما سلكوه . فضمير { لهم } عائد إلى المجرمين أو إلى من ذُكِّر بآيات ربه . و { يَهْدِ } من الهداية وهي الدلالة والإرشاد ، يقال : هداه إلى كذا .
وضمن فعل { يَهْدِ } معنى يبيّن ، فعدي باللام فأفاد هداية واضحة بينة . وقد تقدم نظيره في قوله تعالى { أو لم يَهْدِ للذين يرثون الأرض } في سورة [ الأعراف : 100 ] . واختير فعل الهداية في هذه الآية لإرادة الدلالة الجامعة للمشاهدة ولسماع أخبار تلك الأمم تمهيداً لقوله في آخرها { أفلا يسمعون } ، ولأن كثرة ذلك المستفادة من { كَم } الخبرية إنما تحصل بترتيب الاستدلال في تواتر الأخبار ولا تحصل دفعة كما تحصل دلالة المشاهدات .
وفاعل { يَهْدِ } ما دلت عليه { كم } الخبرية من معنى الكثرة . ولا يجوز عند الجمهور جعل كم فاعل يَهْدِ } لأن { كم } الخبرية اسم له الصدارة في الاستعمال إذ أصله استفهام فتوسع فيه .
ويجوز جعل كم فاعلاً عند من لم يشترطوا أن تكون كم الخبرية في صدر الكلام . وجوز في « الكشاف » أن يكون الفاعل جملة { كم أهلكنا } على معنى الحكاية لهذا القول ، كما يقال : تَعصمُ ( لا إله إلا الله ) الدماءَ والأموالَ ، أي هذه الكلمة أي النطق بها لتقلد الإسلام . ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الجلالة دالاً عليه المقام ، أي ألم يهدِ الله لهم فإن الله بَين لهم ذلك وذكّرهم بمصَارع المكذبين ، وتكون جملة { كم أهلكنا } على هذا استئنافاً ، وتقدم { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } في أول الأنعام ( 6 ) .
ونيط الاستدلال هنا بالكثرة التي أفادتها كم الخبرية لأن تكرر حدوث القرون وزوالها أقوى دلالة من مشاهدة آثار أمة واحدة .
و{ يمشون في مساكنهم } حال من فاعل { أو لم يروا } [ السجدة : 27 ] والمعنى : أنهم يمرون على المواضع التي فيها بقايا مساكنهم مثل حِجر ثمود وديار مدين فتعضد مشاهدةُ مساكنهم الأخبار الواردة عن استئصالهم وهي دلائل إمكان البعث كما قال تعالى : { وما نحن بِمَسْبُوقِين على أن نبدل أمثالكم ونُنْشِئَكم فيما لا تعلمون } [ الواقعة : 60 ، 61 ] ، ودلائل ما يحيق بالمكذبين للرسل ؛ وفي كل أمة وموطن دلائل كثيرة متماثلة أو متخالفة .
ولما كان الذي يؤثر من أخبار تلك الأمم وتقلبات أحوالها وزوال قوتها ورفاهيتها أشدّ دلالة وموعظة للمشركين فرع عليه { أفلا يسمعون } استفهاماً تقريرياً مشوباً بتوبيخ لأن اجتلاب المضارع وهو { يسمعون } مؤذن بأن استماع أخبار تلك الأمم متكرر متجدد فيكون التوبيخ على الإقرار المستفهَم عنه أوقعَ بخلاف ما بعده من قوله { أفلا يبصرون } [ السجدة : 27 ] . وقد شاع توجيه الاستفهام التقريري إلى المنفي ، وتقدم عند قوله تعالى { ألم يأتكم رسل منكم } في سورة الأنعام ( 130 ) ، وقوله : { ألم يروا أنه لا يكلمهم } في سورة الأعراف ( 148 ) .