قوله تعالى : { ويقولون } ، يعني : أهل مكة ، { لولا أنزل عليه } ، أي : عمل محمد صلى الله عليه وسلم { آية من ربه } ، على ما تقترحه ، { فقل إنما الغيب لله } ، يعني : قل إنما سألتموني الغيب وإنما الغيب لله ، لا يعلم أحد لم لم يفعل ذلك ولا يعلمه إلا هو . وقيل : الغيب نزول الآية لا يعلم متى ينزل أحد غيره ، { فانتظروا } نزولها { إني معكم من المنتظرين } ، وقيل : فانتظروا قضاء الله بيننا بالحق بإظهار المحق على المبطل .
وبعد هذا التعقيب يمضي في الاستعراض لما يقول المستخلفون :
( ويقولون : لولا أنزل عليه آية من ربه ! فقل : إنما الغيب لله ، فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) .
فكل الآيات التي يحتويها هذا الكتاب العظيم المعجز لا تكفيهم . وكل آيات الله المبثوثة في تضاعيف الكون لا تكفيهم . وهم يقترحون خارقة كخوارق الرسل في الأمم قبلهم . غير مدركين طبيعة الرسالة المحمدية . وطبيعة معجزتها . فهي ليست معجزة وقتية تنتهي بمشاهدة جيل ، إنما هي المعجزة الدائمة التي تخاطب القلب والعقل في جيل بعد جيل .
ويوجه الله رسوله أن يحيلهم على الله الذي يعلم ما في غيبه ، ويقدر إن كان سيبرز لهم خارقة أو لا يبرز :
( فقل : إنما الغيب لله . فانتظروا إني معكم من المنتظرين ) . .
وهو جواب في طيه الإمهال وفي طيه التهديد . . وفي طيه بعد ذلك بيان حدود العبودية في جانب الألوهية . فإن محمدا [ ص ] وهو أعظم الأنبياء المرسلين ، لا يملك من أمر الغيب شيئا ، فالغيب كله لله . ولا يملك من أمر الناس شيئا ، فأمرهم موكول إلى الله . . وهكذا يتحدد مقام العبودية في جانب مقام الألوهية ، ويخط خط بارز فاصل بين الحقيقتين لا شبهة بعده ولا ريبة
أي : ويقول هؤلاء الكفرة [ الملحدون ]{[14136]} المكذبون المعاندون : " لولا أنزل على محمد آية من ربه " ، يعنون كما أعطى الله ثمود الناقة ، أو أن{[14137]} يحول لهم الصفا ذهبا ، أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهارا ، ونحو ذلك مما الله عليه قادر{[14138]} ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله ، كما قال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } [ الفرقان : 10 ، 11 ] وقال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا } [ الإسراء : 59 ] ، يقول تعالى : إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا ، فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة . ولهذا لما خيَّر رسول الله ، عليه الصلاة والسلام ، بين أن يُعطى ما سألوا ، فإن أجابوا وإلا عُوجلوا ، وبين أن يتركهم ويُنْظرهم ، اختار إنظارهم ، كما حلم عنهم غير مرة ، صلوات الله عليه ؛ ولهذا قال تعالى إرشادا لنبيه إلى الجواب عما سألوا : { فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ } أي : الأمر كله لله ، وهو يعلم العواقب في الأمور ، { فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ } أي : إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله فيَّ وفيكم . هذا مع أنهم قد شاهدوا من معجزاته ، عليه السلام{[14139]} أعظم مما سألوا حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره ، فانشق باثنتين{[14140]} فرقة من وراء الجبل ، وفرقة من دونه . وهذا أعظم من سائر الآيات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا ، ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشادا وتثبّتا لأجابهم ، ولكن علم أنهم إنما يسألون عنادا وتعنتا ، فتركهم فيما رابهم ، وعلم أنهم لا يؤمن{[14141]} منهم أحد ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111 ] ولما فيهم من المكابرة ، كما قال تعالى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [ الحجر : 14 ، 15 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } [ الأنعام : 7 ] ، فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا إلى ما سألوه ؛ لأنه لا فائدة في جواب هؤلاء ؛ لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم ، لكثرة فجورهم وفسادهم ؛ ولهذا قال : { فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ }
وقوله تعالى { ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه } الآية ، يريدون بقولهم { آية من ربه } آية تضطر الناس إلى الإيمان وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط ولا هي المعجزات اضطرارية وإنما هي معرضة للنظر ليهتدي قوم ويضل آخرون ، وقوله { فقل إنما الغيب لله } إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل لا يطلع على غيبه أحد ، وقوله { فانتظروا } وعيد ما قد صدقه الله تعالى بنصرته محمداً صلى الله عليه وسلم ، قال الطبري : في بدر وغيره .
عطف على جملة : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } [ يونس : 18 ] ، فبعد أن ذكر افتراءهم في جانب الإلهية نفى بهتانهم في جانب النبوءة .
والضمير في { عليه } عائد للنبيء صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قبل ذلك في الآية ، فإن معرفة المراد من الضمير مغنية عن ذكر المعاد . وقد كان ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بينهم في نواديهم ومناجاتهم في أيام مُقامه بينهم بعد البعثة هو شغلهم الشاغل لهم ، قد أجرى في كلامهم ضمير الغيبة بدون سبق معاد ، علم المتخاطبون أنه المقصود . ونظير هذا كثير في القرآن .
و ( لولا ) في قوله : { لولا أنزل عليه آية من ربه } حرف تحْضيض ، وشأن التحْضيض أن يواجه به المحضض لأن التحضيضَ من الطلب وشأنُ الطلب أن يواجَه به المطلوب ، ولذلك كان تعلق فعل الإنزال بضمير الغائب في هذه الآية مُؤولاً بأحد وجهين :
إما أن يكون التفاتاً ، وأصل الكلام : لولا أنزل عليكَ ، وهو من حكاية القول بالمعنى كقوله تعالى : { قل لعبادي الذين آمنوا يُقيموا الصلاة } [ إبراهيم : 31 ] أي قل لهم أقيموا ، ونكتة ذلك نكتة الالتفات لتجديد نشاط السامع .
وإما أن يكون هذا القول صدر منهم فيما بينهم ليبين بعضُهم لبعض شبهة على انتفاء رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو صدر منهم للمسلمين طمعاً في أن يردوهم إلى الكفر .
والآيةُ : علامة الصدق . وأرادوا خارقاً للعادة على حسب اقتراحهم مثل قولهم : { أو ترقى في السماء } [ الإسراء : 93 ] وقولهم : { لولا أوتي مثلَ ما أوتي موسى } [ القصص : 48 ] وهذا من جهلهم بحقائق الأشياء وتحكيمهم الخيال والوهَم في حقائق الأشياء ، فهم يفرضون أن الله حريص على إظهار صدق رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه يستفزّه تكذيبهم إياه فيغضب ويسرع في مجاراة عنادهم ليكفوا عنه ، فإن لم يفعل فقد أفحموه وأعجزوه وهو القادر ، فتوهموا أن مدعي الرسالة عنه غير صادق في دعواه وما دَرَوا أن الله قَدر نظام الأمور تقديراً ، ووضع الحقائق وأسبابها ، وأجرى الحوادث على النظام الذي قدره ، وجعل الأمور بالغة مواقيتها التي حدد لها ، ولا يضره أن يُكذّب المكذّبون أو يعاند الجاهلون وقد وضع لهم ما يليق بهم من الزواجر في الآخرة لا محالة ، وفي الدنيا تارات ، كل ذلك يجري على نُظم اقتضتها الحكمةُ لا يحمله على تبديلها سُؤال سائل ولا تسفيه سفيه . وهو الحكيم العليم .
فهم جعلوا استمرار الرسول صلى الله عليه وسلم على دعوتهم بالأدلة التي أمره الله أن يدعوهم بها وعدم تبديله ذلك بآيات أخرى على حسب رغبتهم جعلوا كل ذلك دليلاً على أنه غير مؤيد من الله فاستدلوا بذلك على انتفاء أن يكون الله أرسله ، لأنه لو أرسله لأيَّده بما يوجب له القبول عند المرسَل إليهم .
وما درى المساكين أن الله إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة بهم وطلباً لصلاحهم ، وأنه لا يضره عدم قبولهم رحمته وهدايته . ولذلك أتَى في حكاية كلامهم العدولُ عن اسم الجلالة إلى لفظ الرب المضاف إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله : { من ربه } إيماء إلى الربوبية الخاصة بالتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي ربوبية المصطفي ( بصيغة اسم الفاعل ) للمصطفى ( بصيغة المفعول ) من بين بقية الخلق المقتضية الغضب لغضبه لتوهمهم أن غضب الله مثل غضب الخلائق يستدعي الإسراع إلى الانتقام وما علموا أسرار الحكمة الإلهية والحكم الإلهي والعلم الأعلى .
وقد أمر الله رسوله بأن يجيب عن اقتراحهم بما هو الحقيقة المرشدة وإن كانت أعلى من مداركهم جواباً فيه تعريض بالتهديد لهم وهو قوله : { فقل إنما الغيبُ لله } ، فجاء بفاء التفريع هنا دون بعض نظائره للإشارة إلى تعقيب كلامهم بالجواب شأن المتمكن من حاله المتثبت في أمره .
والغيب : ما غاب عن حواس الناس من الأشياء ، والمراد به هنا ما يتكون من مخلوقات غير معتادة في العالم الدنيوي من المعجزات . وتفسير هذا قوله : { قل إنما الآيات عند الله } [ الأنعام : 109 ] .
واللام للملك ، أي الأمور المغيبة لا يقدر عليها إلا الله . وجاء الكلام بصيغة القصر للرد عليهم في اعتقادهم أن في مكنة الرسول الحق أن يأتي بما يسأله قومُه من الخوارق ، فجعلوا عدم وقوع مقترحهم علامة على أنه ليس برسول من الله ، فلذلك رد عليهم بصيغة القصر الدالة على أن الرسول ليس له تصرف في إيقاع ما سألوه ليعلموا أنهم يرمون بسُؤالهم إلى الجراءة على الله تعالى بالإفحام .
وجملة : { فانتظروا إني معكم من المنتظرين } تفريع على جملة : { إنما الغيب لله } أي ليس دأبي ودأبكم إلاّ انتظار ما يأتي به الله إن شاء ، كقول نوح لقومه : { إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين } [ هود : 33 ] .
وهذا تعريض بالتهديد لهم أن ما يأتي به الله لا يترقبون منه إلا شراً لهم ، كقوله تعالى : { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقُضي الأمر ثم لا ينظرون } [ الأنعام : 8 ] .
والمعية في قوله : { معكم } مجازية مستعملة في الإشراك في مطلق الانتظار .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون: هلا أنزل على محمد "آية من ربه "يقول: علَم ودليل نعلم به أن محمدا محقّ فيما يقول. قال الله له: فقل يا محمد "إنما الغيب لله"، أي لا يعلم أحد بفعل ذلك إلا هو جلّ ثناؤه، لأنه لا يعلم الغيب وهو السرّ والخفيّ من الأمور إلا الله، "فانتظروا" أيها القوم قضاء الله بيننا بتعجيل عقوبته للمبطل منا وإظهاره المحقّ عليه، "إني معكم" ممن ينتظر ذلك. ففعل ذلك جلّ ثناؤه فقضى بينهم وبينه بأن قتلهم يوم بدر بالسيف.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
حكى الله تعالى عن هؤلاء الكفار أنهم قالوا: هلا أنزل على محمد آية وأرادوا بذلك أنه يضطرهم إلى المعرفة ولا يحتاجون معها إلى النظر والاستدلال، ولم يطلبوا معجزة يستدل بها على صدقه، لأنه قد كان أتاهم بالمعجزات التي تدل على صدقه فلم يجبهم الله على ما التمسوه، لأن التكليف يمنع من الاضطرار إلى المعرفة، لأن الغرض بالتكليف التعريض للثواب، ولو عرفوا الله تعالى ضرورة لما استحقوا ثوابا فكان ذلك ينقض غرضهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فانتظروا إني معكم من المنتظرين}: أخبر أنه -عليه السلام- في سَتْرِ الغَيْبَة وخفاء الأمر عليه في الجملة لتقاصُرِ علمه عما سيحدث، فهو في ذلك بمنزلتهم، إلا في مواطن التخصيص بأنوار التعريف، فكما أنهم في الانتظار لما يحدث في المستأنف فهو أيضاً في انتظار ما يوجِدُ- سبحانه-من المقادير. والفَرْقُ بينه- عليه السلام- وبينهم أنه يشهد ما يحصل به-سبحانه- ومنه، وهم مُتَطَوُحون في أودية الجهالة؛ يُحيلُون الأمرَ مرةً على الدَّهْرِ، ومرةً على النجم، ومرة على الطبع... وكلُّ ذلك حَيْرَةٌ وعَمى.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات، وجعلوا نزولها كلا نزول، وكأنه لم ينزل آية قط، حتى قالوا: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ رَبَّهُ}، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرّد وانهماكهم في الغيّ {فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ} أي هو المختصّ بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به، يعني أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلاّ هو {فانتظروا} نزول ما اقترحتموه {إِنّي مَعَكُم مّنَ المنتظرين} لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.
اعلم أن هذا الكلام هو النوع الرابع من شبهات القوم في إنكارهم نبوته، وذلك أنهم. قالوا: إن القرآن الذي جئتنا به كتاب مشتمل على أنواع من الكلمات، والكتاب لا يكون معجزا، ألا ترى أن كتاب موسى وعيسى ما كان معجزة لهما، بل كان لهما أنواع من المعجزات دلت على نبوتهما سوى الكتاب. وأيضا فقد كان فيهم من يدعي إمكان المعارضة، كما أخبر الله تعالى أنهم قالوا: {لو شئنا لقلنا مثل هذا} وإذا كان الأمر كذلك لا جرم طلبوا منه شيئا آخر سوى القرآن، ليكون معجزة له، فحكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله: {ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه} فأمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يقول عند هذا السؤال {إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين}.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}... ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشادا وتثبّتا لأجابهم، ولكن علم أنهم إنما يسألون عنادا وتعنتا، فتركهم فيما رابهم، وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111] ولما فيهم من المكابرة، كما قال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14، 15]، وقال تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: 44]، وقال تعالى: {وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام: 7]، فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا إلى ما سألوه؛ لأنه لا فائدة في جواب هؤلاء؛ لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم، لكثرة فجورهم وفسادهم؛ ولهذا قال: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الكلام في منكري الوحي من المشركين المنكرين للبعث، حكى عنهم عجبهم من الوحي إلى بشر مثلهم، ورد عليهم بأنواع الحجج المتقدمة المتضمنة لبطلان شركهم وإنكارهم للبعث، ثم حكى عنهم مطالبة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإتيان بقرآن غير هذا القرآن الدال- بأسلوبه ونظمه وعلومه وهدايته -على أنه وحي من كلام الله عز وجل أو تبديله، ورد عليهم بما علمت. ثم حكى عنهم في هذه الآية الاحتجاج على إنكار نبوته بعدم إنزال ربه عليه آية كونية غير هذا القرآن، وما فيه من الآيات العلمية والعقلية على النبوة والرسالة، مع الرد عليها. والجملة معطوفة على جملة ما قبلها من حكايات أقوال المشركين وأعمالهم في جحود الرسالة، ومن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد والإيمان بالبعث، لا على آخر ما حكاه عنهم في قوله: {ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ ولاَ يَنفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا} [يونس: 18] خاصة لقربه، وكون كل منهما بلفظ المضارع، فإن المحكي هنا غير مشارك للمحكي قبله في خاصة موضوعه أو ما يناسبه، ولا على ما حكاه عنهم من طلب الإتيان بقرآن غير هذا أو تبديله خاصة إن كانا في موضوع واحد، لبعده، وللاختلاف بينهما في حكاية ذاك بالماضي وهو {قال الذين لا يرجون لقاءنا} وحكاية هذا بالمضارع الخ.
وقال الزمخشري في الكشاف في ترجيحه: إن المضارع هنا بمعنى الماضي هناك، وإنما آثر المضارع على الماضي ليدل على استمرار هذه المقالة، وأنها من دأبهم وعادتهم، مع ما في ذلك من استحضار صورتها الشنيعة اه، وقد أخطأ في الترجيح وباعد، وإن سدد في التعليل وقارب، والتحقيق أن المعنى الجامع بين الجمل المتعاطفة في هذا السياق حكاية أنواع جحودهم في جملتها، وأن التعبير بالمضارع في هذه وما قبلها وفيما سيأتي من قوله: {أم يقولون افتراه} [يونس: 38] وقوله: {ويَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48] إنما هو لما يتكرر من أقوالهم في الجحود، فإن اقتراح نزول آية كونية عليه قد تكرر منهم، وذكر في سور منها ما نزل قبل هذه السورة (يونس)، ومنها ما نزل بعدها، كما سنوضحه بشواهده، فمعنى الآية هكذا:
{ويَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} أي قد قالوا ولا يزالون يقولون: هلا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آية كونية -كآيات الأنبياء- يحدثنا عنهم، حكى سبحانه عنهم هذا الاقتراح هنا مجملا، وأجاب عنه جوابا مجملا؛ لأن كلا منهما قد سبق مفصلا في سور أخرى، وقد جهل هذا كفار الإفرنج وتلاميذهم من ملاحدة مصر، فقالوا في مثله: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يفر من مناظرة المشركين.
{فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ} والآيات من عالم الغيب عند الله تعالى وبيده وحده؛ لأنها خوارق فوق قدرة البشر، وإنما أنا بشر والغيب لله لا يعلمه غيره، فإن كان قدر إنزال آية علي فهو يعلم وقتها وينزلها فيه، وأنا لا أعلم إلا ما أوحاه إلي.
{فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} لما يفعله بي وبكم، كما قال تعالى بعد حكاية رميه صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ ومَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي ولَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الأحقاف: 9]، ويفسر ما ينتظره وينتظرونه منه قوله في أواخر هذه السورة {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} [يونس: 102]، وفيه إنذار لهم بالعذاب وهو قسمان: عذاب الاستئصال لمن أوتوا ما اقترحوا على رسلهم من الآيات، فأصروا على الجحود والعناد، وعذاب من لم يؤتوا ذلك، وهو خذلانهم ونصر الرسل عليهم في الدنيا وما وراءه من عذاب الآخرة.
حكى الله تعالى عنهم اقتراح آية أو آيات مبهمة في بعض السور، واقتراح آيات معينة في سور أخرى، منها ما نزل بعد هذه السورة وهي الحجر (6 8)، فالأنعام (8 و 9 و 39 و 41 و 109 و 111)، فالأنبياء (5)، فالعنكبوت (5)، فالرعد (8 و 28)، وفيها أجوبة: فأما الأنعام ففيها تفصيل لكون الآيات لا تزيدهم إلا عنادا وإصرارا على الجحود، فتحق عليهم كلمة عذاب الاستئصال، وتنافي مراد الله تعالى من بعثة خاتم النبيين، وتقدم تفسيرها في الجزأين 7 و 8 من تفسيرنا هذا فيراجع، ثم أجمل ذلك في سورة الأنبياء فقال: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 6]، ثم أجاب عنها في سورة العنكبوت بقوله: {أَولَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51].
لكنه كان قد فصل مقترحاتهم مع الرد عليها في السور التي قبل ذلك كله، كقوله تعالى: {وقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ويَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان: 7، 8]، ثم حكى عنهم في سورة بني إسرائيل (17) أنهم طالبوه صلى الله عليه وسلم بواحدة من بضع آيات، وعلقوا إيمانهم على إجابة طلبهم، فقال بعد بيان عجز الإنس والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن، وما صرفه فيه للناس من جميع ضروب الأمثال: {وقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً} [الإسراء: 90] الخ الآيات الأربع، ثم لقن رسوله صلى الله عليه وسلم الرد عليهم بقوله: {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رَّسُولاً} [الإسراء: 93، 94]، أي سبح ربك في جوابهم، تسبيح التعجب من قولهم، وذكِّرهم بأنك بشر مثلهم، وليس في قدرة البشر أن يأتوا بالآيات الخارقة لسنن الكون، وأن آفتهم هي آفة من كان قبلهم من الأقوام الذين لم يعقلوا ما جاء به الرسل من الهدى، وأنه متى تبين وجب على العاقل اتباعه لذاته، فاحتقروا الرسل الذين جاءوهم به لأنهم بشر مثلهم، واقترحوا أن تجيئهم به الملائكة، وأنه لو كان في الأرض ملائكة يمشون كالبشر يمكنهم التلقي عنهم لنزل عليهم ملكا، ثم بين لهم أنه إذا نزل الملك فهو لا ينزل إلا بالعذاب، إلا أن يجعل بشرا، وإذا لاحتجوا عليهم بأنه مثلهم، كما قال في سورة الحجر حكاية لخطابهم للذي نزل عليه الذكر {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ ومَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} [الحجر: 7،8]، وقال في الأنعام: {وقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ولَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ولَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8،9].
ولقنه في هذه السورة (بني إسرائيل) حجة أخرى في حكمة عدم نزول الآيات الكونية عليه أو سببه، وهي قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَولُونَ} [الإسراء: 59]، أي وما صرفنا عن إرسال الآيات اللاتي اقترحتها قريش إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم في الطبع والعادة، كعاد وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك، واستوجبوا عذاب الاستئصال على ما مضت به سنتنا. وقد قضينا أن لا نستأصلهم؛ لأنهم أمة خاتم النبيين الباقية، وأنه هو رحمته العامة الشاملة، ولأن فيهم من يؤمن أو يولد لهم من يؤمن. ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة، فنذكره مع عبارة البيضاوي الوجيزة في تفسيره وهو {وآتينا ثمود الناقة} [الإسراء: 59] لسؤالهم، "مبصرة "بينة ذات إبصار أو بصائر أو جاعلتهم ذوي بصائر، "فظلموا بها "أي فكفروا وظلموا أنفسهم بسبب عقرها، "وما نرسل بالآيات" أي المقترحة، "إلا تخويفا" من نزول العذاب المستأصل فإن لم يخافوا نزل "اه.
وفي سورة القصص -وقد نزلت بعد الفرقان قبل بني إسرائيل- تفصيل لقصة موسى في مولده ونشأته، وفراره من فرعون إلى مدين، وبعثته في طور سيناء الخ، وقد صرح في آخرها أنها تدل على رسالته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن يعلم من أمرها شيئا، فهي من علم الغيب، كما تراه في الآيات (44 و45) منها، وقد تقدم نصها (في مباحث الوحي ج 11 تفسير)، ثم قال: {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ ونَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَولَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص: 47 48] الخ.
فجملة ما ورد في اقتراح الآيات الكونية من مجمل ومفصل يفسر بعضه بعضا، وهو مقرر لما علم بالقطع من دين الإسلام أن الله تعالى جعل حجته على رسالة خاتم النبيين هذا القرآن -المشتمل على كثير من الآيات العقلية والعملية والإصلاحية وإخبار الغيب وإعجاز الأسلوب والنظم والتأثير في الهداية الخ- ما فصلناه في الفصل الاستطرادي الذي عقدناه لإثبات الوحي في أول تفسير السورة (ج 11)، وقد آتى الله رسوله خاتم النبيين آيات أخرى علمية وكونية، ولكنه لم يجعلها حجة على رسالته، ولا أمره بالتحدي بها، وإنما كانت تكون لضرورات اشتدت حاجة الأمة إليها كاستجابة بعض أدعيته صلى الله عليه وسلم وتقدم بيانه.
ويؤيد هذه القاعدة المأخوذة من هذه الآيات كلها ما رواه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا:"ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"، وقد يعارضه آية انشقاق القمر مع ما ورد في أحاديث الصحيحين وغيرهما من أن قريشا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم آية على نبوته فانشق القمر، فكان فرقتين، ولكن في الأحاديث الواردة في انشقاقه عللا في متنها وأسانيدها وإشكالات علمية وعقلية وتاريخية فصلناها في المجلد الثلاثين من المنار، وبينا أن ما تدل عليه الآيات القرآنية المؤيدة بحديث الصحيحين الصريح في حصر معجزة نبوته صلى الله عليه وسلم في القرآن، وكون الآيات المقترحة تقتضي إجابة مقترحيها عذاب الاستئصال، هو الحق الذي لا ينهض لمعارضته شيء، وسنعود إليها في تفسير سورة القمر إن أحيانا الله تعالى، ووفقنا لإتمام التفسير بفضله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فقل: إنما الغيب لله. فانتظروا إني معكم من المنتظرين).. وهو جواب في طيه الإمهال وفي طيه التهديد.. وفي طيه بعد ذلك بيان حدود العبودية في جانب الألوهية. فإن محمدا [ص] وهو أعظم الأنبياء المرسلين، لا يملك من أمر الغيب شيئا، فالغيب كله لله. ولا يملك من أمر الناس شيئا، فأمرهم موكول إلى الله.. وهكذا يتحدد مقام العبودية في جانب مقام الألوهية، ويخط خط بارز فاصل بين الحقيقتين لا شبهة بعده ولا ريبة..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... فبعد أن ذكر افتراءهم في جانب الإلهية نفى بهتانهم في جانب النبوءة. والضمير في {عليه} عائد للنبيء صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قبل ذلك في الآية، فإن معرفة المراد من الضمير مغنية عن ذكر المعاد. وقد كان ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بينهم في نواديهم ومناجاتهم في أيام مُقامه بينهم بعد البعثة هو شغلهم الشاغل لهم، قد أجرى في كلامهم ضمير الغيبة بدون سبق معاد، علم المتخاطبون أنه المقصود. ونظير هذا كثير في القرآن. و (لولا) في قوله: {لولا أنزل عليه آية من ربه} حرف تحْضيض، وشأن التحْضيض أن يواجه به المحضض لأن التحضيضَ من الطلب وشأنُ الطلب أن يواجَه به المطلوب، ولذلك كان تعلق فعل الإنزال بضمير الغائب في هذه الآية مُؤولاً بأحد وجهين: إما أن يكون التفاتاً، وأصل الكلام: لولا أنزل عليكَ، وهو من حكاية القول بالمعنى كقوله تعالى: {قل لعبادي الذين آمنوا يُقيموا الصلاة} [إبراهيم: 31] أي قل لهم أقيموا، ونكتة ذلك نكتة الالتفات لتجديد نشاط السامع. وإما أن يكون هذا القول صدر منهم فيما بينهم ليبين بعضُهم لبعض شبهة على انتفاء رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أو صدر منهم للمسلمين طمعاً في أن يردوهم إلى الكفر.
{من ربه} إيماء إلى الربوبية الخاصة بالتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي ربوبية المصطفي (بصيغة اسم الفاعل) للمصطفى (بصيغة المفعول) من بين بقية الخلق المقتضية الغضب لغضبه لتوهمهم أن غضب الله مثل غضب الخلائق يستدعي الإسراع إلى الانتقام وما علموا أسرار الحكمة الإلهية والحكم الإلهي والعلم الأعلى.
... {فقل إنما الغيبُ لله}، فجاء بفاء التفريع هنا دون بعض نظائره للإشارة إلى تعقيب كلامهم بالجواب شأن المتمكن من حاله المتثبت في أمره.
وجملة: {فانتظروا إني معكم من المنتظرين} تفريع على جملة: {إنما الغيب لله}...والمعية في قوله: {معكم} مجازية مستعملة في الإشراك في مطلق الانتظار.
...إن استقبال القرآن فرع تصديق للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد حدث اللبس عندهم؛ لأنهم ظنوا أن الآية هي الآيات المحسة الكونية المشهودة، وما علموا أن الآيات التي سبق بها الرسل إنما جاءت لتناسب أزمان رسالاتهم، ولتناسب مواقعهم من المرسل إليهم...
ثم يقول الحق سبحانه ردا على طلبهم للآية الحسية: {فقل إنما الغيب لله} وهكذا يعلم الحق سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم جوابا احتياطيا، فمن الممكن أن ينزل الحق سبحانه الآية الحسية، ومن الممكن ألا ينزلها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم على ربه؛ لأن الغيب أمر يخصه سبحانه، وإن شاء جعل ما في الغيب مشهدا، وإن شاء جعل الغيب غيبا مطلقا، وليس عليكم إلا الانتظار، ويعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه معهم من المنتظرين {فانتظروا إني معكم من المنتظرين (20)} [يونس].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
مرّة أُخرى يتطرق القرآن الكريم إِلى اختلاق المشركين للحجج عند امتناعهم عن الإِيمان والإِسلام (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربّه).
من الطبيعي، وبدليل القرائن التي سنشير إِليها بعد حين، أنّ هؤلاء لم يقصدوا أي معجزة، لأنّ من المسلّم أنّه كان للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إِضافةً إِلى القرآن معاجز أُخرى، وتاريخ الإِسلام وبعض الآيات القرآنية شاهدة على هذه الحقيقة.
إِنّ هؤلاء كانوا يظنون أنّ الإِعجاز أمر بيد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يستطيع أن يقوم به في أي وقت وبأية كيفية يريد، مضافاً الى أنّه مأمور أن يستفيد من هذه القوّة مقابل كل مُدّع لجوج معاند والعمل حسب ميله لإقناعه وإِقامة الحجة عليه، ولهذا فإِنّ القرآن الكريم يأمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة: (فقل إِنّما الغيب لله) وبناء على هذا، فإِنّ المعجزة ليست بيدي لآتيكم كل يوم بمعجزة جديدة إِرضاءً لأهوائكم وحسب ميولكم ورغباتكم، ثمّ لا تؤمنون بعد ذلك بأعذار واهية وحجج ضعيفة.
وفي النهاية تقول الآية بلهجة التهديد: (فانتظروا إِنّي معكم من المنتظرين) فانتظروا العقاب الإِلهي، وأنا أنتظر النصر!
أو كونوا بانتظار ظهور مثل هذه المعجزات، وأكون بانتظار عقابكم أيّها المعاندون!
وهنا ملاحظتان ينبغي الالتفات إِليهما:
كما أشرنا أعلاه فإِنّ كلمة (آية) أي المعجزة وإِن كانت مطلقة وتشمل كل أنواع المعاجز إلاّ أنّ القرائن تبيّن أنّ هؤلاء لم يطلبوا المعجزة لمعرفة صدق النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل كانوا طلاب معاجز اقتراحية، أي إِنّهم كانوا كل يوم يقترحون على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معجزة جديدة ويأملون أن يطيعهم في ذلك، فكأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إِنسان لا عمل له سوى صنع المعجزات، وهو منتظر لكل من هبّ ودبّ ليقترح عليه شيئاً فيحقق له اقتراحه، غافلين عن أن المعجزة هي من فعل الله سبحانه أوّلا، ولا تتم إِلاّ بأمره وإِرادته، وهي ثانياً معجزة لمعرفة أحقّية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والاهتداء به، ووقوعها مرّة واحدة كاف لهذا الغرض، وعلاوة على ذلك فإِنّ نبيّ الإِسلام قد أظهر من المعجزات القدر الكافي، فطلب المزيد لا يكون إلاّ بدافع الاقتراحات الأهوائية والشهوانية.
والشاهد على أنّ المقصود من (الآية) هنا المعجزات الاقتراحية، هو:
أوّلا: إِنّ نهاية الآية تهدد هؤلاء، ولو كانوا يطلبون المعجزة لاكتشاف الحقيقة، فلا وجه لهذا التهديد.
ثانياً: رأينا قبل عدّة آيات أن هؤلاء كانوا عنودين ولجوجين إِلى الحد الذي اقترحوا فيه على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبدل كتابه السماوي، أو يغير على الأقل الآيات التي تشير إِلى نفي عبادة الأصنام.
ثالثاً: حسب القاعدة المسلمة لدينا بأنّ «القرآن يفسر بعضه بعضاً» فإِنّا نستطيع أن نفهم جيداً من خلال بعض الآيات كالآيات (90) و (94) من سورة الإِسراء أن عبدة الأصنام اللجوجين هؤلاء، لم يكونوا طلاب معجزة لأجل الهداية، ولهذا نراهم كانوا يقولون أحياناً: نحن لن نؤمن لك حتى تفجر العيون من هذه الأرض اليابسة، ويقول الآخر: إِنّ هذا ليس بكاف، بل يجب أن يكون لك بيت من ذهب، وثالث يقول: وهذا أيضاً لا يقنعنا حتى ترقى في السماء أمام أعيننا، ويضيف رابع أنّ هذا الرقي في السماء ليس كافياً أيضاً إلاّ إذا أتيتنا بكتاب من الله لنا!! وأمثال ذلك من السفاسف والخزعبلات.
إِذن، فقد اتّضح ممّا قلنا أعلاه أنّ الاستدلال بهذه الآية على نفي أية معجزة، أو كل المعجزات غير القرآن الكريم زيف يجانب الحقيقة، (وستطالعون إِن شاء الله مزيداً من التوضيح حول هذا الموضوع في ذيل الآية (59) من سورة الإِسراء).
يمكن أن تكون كلمة «الغيب» في جملة: (إِنّما الغيب لله) إِشارة إِلى أنّ المعجزة أمر مربوط بعالم الغيب، وليست من اختيارات الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هي مختصة بالله تعالى.
أو أن تكون إِشارة إِلى أن مصالح الأُمور والوقت المناسب لنزول المعجزة هي جزء من أسرار الغيب ومختصات الله سبحانه، فمتى رأى أن الوقت مناسب لنزول المعجزة، وأنّ طالب المعجزة باحث عن الحقيقة، أنزل المعجزة، لأنّ الغيب والأسرار الخفية من مختصات ذاته المقدسة.