( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) .
والذي يريد الآخرة لا بد أن يسعى لها سعيها ، فيؤدي تكاليفها ، وينهض بتبعاتها ، ويقيم سعيه لها على الإيمان . وليس الإيمان بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل . والسعي للآخرة لا يحرم المرء من لذائذ الدنيا الطيبة ، إنما يمد بالبصر إلى آفاق أعلى فلا يكون المتاع في الأرض هو الهدف والغاية . ولا ضير بعد ذلك من المتاع حين يملك إنسان نفسه ، فلا يكون عبدا لهذا المتاع .
وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموما مدحورا ، فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ينتهي إليها مشكورا يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم ، وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء .
إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام . فأما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله ، الذي خلقه فسواه ، وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه .
{ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها } حقها من السعي وهو الإتيان بما أمر به ، والانتهاء عما نهى عنه لا التقرب بما يخترعون بآرائهم . وفائدة اللام اعتبار النية والإخلاص . { وهو مؤمن } إيمانا صحيحا لا شرك معه ولا تكذيب فإنه العمدة . { فأولئك } الجامعون للشروط الثلاثة . { كان سعيهم مشكورا } من الله تعالى أي مقبولا عنده مثابا عليه ، فإن شكر الله الثواب على الطاعة .
وقوله { ومن أراد الآخرة } الآية ، المعنى ومن أراد الآخرة إرادة يقين بها وإيمان بها وبالله ورسالاته .
قال القاضي أبو محمد : وذلك كله مرتبط متلازم ثم شرط في مريد الآخرة أن يسعى لها سعيها وهو ملازمة أعمال الخير وأقواله على حكم الشرع وطرقه ، فأولئك يشكر الله سعيهم ولا يشكر الله عملاً ولا سعياً إلا أثاب عليه وغفر بسببه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي سقى الكلب العاطش فشكر الله له فغفر له{[7513]} .
حقيقة السعي المشي دون العَدْوِ ، فسعي الآخرة هو الأعمال الصالحة لأنها سبب الحصول على نعيم الآخرة ، فالعامل للصالحات كأنه يسير سيراً سريعاً إلى الآخرة ليصل إلى مرغوبه منها . وإضافته إلى ضمير الآخرة من إضافة المصدر إلى مفعوله في المعنى ، أي السعي لها ، وهو مفعول مطلق لبيان النوع .
وفي الآية تنبيه على أن إرادة خير الآخرة من غير سعي غرور وأن إرادة كل شيء لا بد لنجاحِها من السعي في أسباب حصوله . قال عبد الله بن المبارك :
تَرجو النجاة ولم تَسلُك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليَبَس
وجملة { وهو مؤمن } حال من ضمير { وسعى } . وجيء بجملة { وهو مؤمن } اسمية لدلالتها على الثبات والدوام ، أي وقد كان راسخ الإيمان ، وهو في معنى قوله : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] لما في ( كان ) من الدلالة على كون الإيمان ملكة له .
والإتيان باسم الإشارة في { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما سيخبر به عنهم لأجل ما وُصفوا به قبل ذِكر اسم الإشارة .
والسعي المشكور هو المشكور ساعيه ، فوصفه به مجاز عقلي ، إذ المشكور المرضي عنه ، وإذ المقصود الإخبار عن جزاء عمل من أراد الآخرة وسعى لها سعيها لا عن حسن عمله لأنه قسيم لجزاء من أراد العاجلة وأعرض عن الآخرة ، ولكن جعل الوصف للعمل لأنه أبلغ في الإخبار عن عامله بأنه مرضي عنه لأنه في معنى الكناية الراجعة إلى إثبات الشيء بواسطة إثبات ملزومه .
والتعبير ب { كان } في { كان سعيهم مشكوراً } للدلالة على أن الوصف تحقق فيه من قبل ، أي من الدنيا لأن الطاعة تقتضي ترتب الشكر عاجلاً والثواب آجلاً . وقد جمع كونه مشكوراً خيرات كثيرة يطول تفصيلها لو أريد تفصيله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن أراد الآخرة} من الأبرار بعمله الحسن، وهو مؤمن...
{وسعى لها سعيها}، يقول: عمل للآخرة عملها،
{وهو مؤمن}، يعني: مصدق بتوحيد الله عز وجل،
{فأولئك كان سعيهم مشكورا}، فشكر الله عز وجل سعيهم، فجزاهم بعملهم الجنة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: من أراد الآخرة وإياها طلب، ولها عمل عملها، الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه. وأضاف السعي إلى الهاء والألف، وهي كناية عن الآخرة، فقال: وسعى للآخرة سعي الآخرة، ومعناه: وعمل لها عملها لمعرفة السامعين بمعنى ذلك، وأن معناه: وسعى لها سعيه لها وهو مؤمن، يقول: هو مؤمن مصدّق بثواب الله، وعظيم جزائه على سعيه لها، غير مكذّب به تكذيب من أراد العاجلة، يقول الله جلّ ثناؤه:"فَأوُلئِكَ" يعني: فمن فعل ذلك "كانَ سَعْيُهُمْ "يعني عملهم بطاعة الله "مَشْكُورا" وشكر الله إياهم على سعيهم ذلك حسن جزائه لهم على أعمالهم الصالحة، وتجاوزه لهم عن سيئها برحمته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فأولئك كان سعيهم مشكورا} أي: مجزيا مقبولا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم قال "ومن أراد الآخرة "أي: خير الآخرة، ثواب الجنة "وسعى لها سعيها" بأن فعل الطاعات وتجنب المعاصي، وهو مع ذلك مؤمن مصدق بتوحيد الله ومقر بأنبيائه، فإن أولئك يكون "سعيهم مشكورا" أي: تكون طاعاتهم مقبولة... والمعنى أحلهم محلا يشكر عليه في حسن الجزاء...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
علامة مَنْ أراد الآخرةَ -على الحقيقة- أن يسعى لها سَعْيها؛ فإرادةُ الآخرة إذا تجرَّدَتْ عن العمل لها كانت مجرَّد إرادة، ولا يكون السعيُ مشكوراً.
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ}: أي من المآلِ كما أنه مؤمِنٌ في الحال. ويقال وهو مؤمن أنَّ نجاته بفضله لا بسببه.
{فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} أي مقبولاً، ومع القبول يكون التضعيف والتكثير؛ فكما أن الصدقة يُرْبِيها كذلك طاعةُ العبدِ يُكْثِّرُها ويُنَمِّيها...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
ويقال: إن الشكر من الله هو قبول الحسنات، والتجاوز عن السيئات، وقيل معنى الآية: أنه وضع أعمالهم الموضع الذي يشكر عليها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{سَعْيَهَا} حقها من السعي وكفاءها من الأعمال الصالحة. اشترط ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً: إرادة الآخرة بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور، والسعي فيما كلف من الفعل والترك. والإيمان الصحيح الثابت. وعن بعض المتقدّمين: من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب. وتلا هذه الآية. وشكر الله: الثواب على الطاعة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ومن أراد الآخرة...}، المعنى ومن أراد الآخرة إرادة يقين بها وإيمان بها وبالله ورسالاته. قال القاضي أبو محمد: وذلك كله مرتبط متلازم ثم شرط في مريد الآخرة أن يسعى لها سعيها وهو ملازمة أعمال الخير وأقواله على حكم الشرع وطرقه، فأولئك يشكر الله سعيهم ولا يشكر الله عملاً ولا سعياً إلا أثاب عليه وغفر بسببه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرجل الذي سقى الكلب العاطش (فشكر الله له فغفر له).
{ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} فشرط تعالى فيه شروطا ثلاثة:
الشرط الأول: أن يريد بعمله الآخرة أي ثواب الآخرة، فإنه إن لم تحصل هذه الإرادة، وهذه النية لم ينتفع بذلك العمل...
والشرط الثاني: قوله: {وسعى لها سعيها} وذلك هو أن يكون العمل الذي يتوصل به إلى الفوز بثواب الآخرة من الأعمال التي بها ينال ثواب الآخرة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان من باب القرب والطاعات...
والشرط الثالث: قوله تعالى: {وهو مؤمن} وهذا الشرط معتبر، لأن الشرط في كون أعمال البر موجبة للثواب تقدم الإيمان، فإذا لم يوجد الشرط لم يحصل المشروط، ثم إنه تعالى أخبر أن عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكورا والعمل مبرورا...
واعلم أن الشكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة: اعتقاد كونه محسنا في تلك الأعمال، والثناء عليه بالقول، والإتيان بأفعال تدل على كونه معظما عن ذلك الشاكر، والله تعالى يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة، فإنه تعالى عالم بكونهم محسنين في تلك الأعمال، وأنه تعالى يثني عليهم بكلامه وأنه تعالى يعاملهم بمعاملات دالة على كونهم معظمين عند الله تعالى، وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلا كانوا مشكورين على طاعاتهم من قبل الله تعالى...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" فأولئك كان سعيهم مشكورا "أي مقبولا غير مردود. وقيل: مضاعفا، أي تضاعف لهم الحسنات إلى عشر، وإلى سبعين وإلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر الجاهل ذكر العالم العامل فقال تعالى: {ومن أراد الآخرة} أي مطلق إرادة -بما أشار إليه التجريد {من كان} {وسعى} أي وضم إلى نيته العمل بأن سعى {لها سعيها} أي الذي هو لها، وهو ما كانت جديرة به من العمل بما يرضي الله بما شرعه في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا أي سعي كان بما لم يشهد ظاهر الكتاب والسنة، إعلاماً بأن النية لا تنفع إلا مع العمل، إما بالفعل عند التمكن، وإما بالقوة عند عدمه؛ ثم ذكر شرط السعي الذي لا يقبل إلا به...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وسعى لَهَا سَعْيَهَا} أي السعْيَ اللائقَ بها وهو الإتيانُ بما أُمر والانتهاءُ عما نُهيَ لا التقرّبُ بما يخترعون بآرائهم، وفائدةُ اللام اعتبارُ النيةِ والإخلاص... {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} إيماناً صحيحاً لا يخالطه شيءٌ قادحٌ فيه، وإيرادُ الإيمانِ بالجملة الحالية للدِلالة على اشتراط مقارنتِه لما ذُكر في حيِّز الصلة {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى الموصولِ بعنوان اتصافِه بما في حيز الصلةِ، وما في ذلك من معنى البعدِ للإشعار بعلو درجتِهم وبُعد منزلتِهم، والجمعيةُ لمراعاة جانب المعنى إيماءً إلى أن الإثابة المفهومةَ من الخبر تقع على وجه الاجتماعِ أي أولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدةِ، أعني إرادةَ الآخرةِ والسعيَ الجميلَ لها والإيمانَ... كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} مقبولاً عند الله تعالى أحسنَ القَبول مُثاباً عليه، وفي تعليق المشكوريّةِ بالسعْي دون قرينَيْهِ إشعارٌ بأنه العمدةُ فيها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإذا كان الذي يريد العاجلة ينتهي إلى جهنم مذموما مدحورا، فالذي يريد الآخرة ويسعى لها سعيها ينتهي إليها مشكورا يتلقى التكريم في الملأ الأعلى جزاء السعي الكريم لهدف كريم، وجزاء التطلع إلى الأفق البعيد الوضيء. إن الحياة للأرض حياة تليق بالديدان والزواحف والحشرات والهوام والوحوش والأنعام. فأما الحياة للآخرة فهي الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله، الذي خلقه فسواه، وأودع روحه ذلك السر الذي ينزع به إلى السماء وإن استقرت على الأرض قدماه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
حقيقة السعي: المشي دون العَدْوِ، فسعي الآخرة هو الأعمال الصالحة لأنها سبب الحصول على نعيم الآخرة، فالعامل للصالحات كأنه يسير سيراً سريعاً إلى الآخرة ليصل إلى مرغوبه منها. وإضافته إلى ضمير الآخرة من إضافة المصدر إلى مفعوله في المعنى، أي السعي لها، وهو مفعول مطلق لبيان النوع... وفي الآية تنبيه على أن إرادة خير الآخرة من غير سعي غرور وأن إرادة كل شيء لا بد لنجاحِها من السعي في أسباب حصوله. قال عبد الله بن المبارك:
تَرجو النجاة ولم تَسلُك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليَبَس.
وجملة {وهو مؤمن} حال من ضمير {وسعى}. وجيء بجملة {وهو مؤمن} اسمية لدلالتها على الثبات والدوام، أي وقد كان راسخ الإيمان، وهو في معنى قوله: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17] لما في (كان) من الدلالة على كون الإيمان ملكة له... والإتيان باسم الإشارة في {فأولئك كان سعيهم مشكوراً} للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما سيخبر به عنهم لأجل ما وُصفوا به قبل ذِكر اسم الإشارة...
والسعي المشكور هو المشكور ساعيه، فوصفه به مجاز عقلي، إذ المشكور المرضي عنه، وإذ المقصود الإخبار عن جزاء عمل من أراد الآخرة وسعى لها سعيها لا عن حسن عمله لأنه قسيم لجزاء من أراد العاجلة وأعرض عن الآخرة، ولكن جعل الوصف للعمل لأنه أبلغ في الإخبار عن عامله بأنه مرضي عنه لأنه في معنى الكناية الراجعة إلى إثبات الشيء بواسطة إثبات ملزومه...
والتعبير ب {كان} في {كان سعيهم مشكوراً} للدلالة على أن الوصف تحقق فيه من قبل، أي من الدنيا لأن الطاعة تقتضي ترتب الشكر عاجلاً والثواب آجلاً. وقد جمع كونه مشكوراً خيرات كثيرة يطول تفصيلها لو أريد تفصيله...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
من أراد الآخرة، وكان التعبير بالآخرة في مقابل التعبير بالعاجلة لفرق ما بين الاثنين؛ ذلك يريد أمرا عاجلا لا يصبر ولا يضبط نفسه، وهذا يريد الآخر، ولو كان مؤجلا، فينال فضيلة الصبر والعمل، ويترقب الآجل ترقب المدرك العامل...
ولم يكتف بالترقب والانتظار، بل سعى لها سعيها، أي عمل لها العمل المقرب لنعيمها والمبعد عن جحيمها، وفي التعبير ب {وسعى لها سعيها}، إشارة إلى أنه يسير لها، ويعمل ما يطلبه من بر وصدق وأمانة، وحسن معاملة، واستقامة نفس، وسير على صراط مستقيم...
{وهو مؤمن} فالإيمان أصل الأعمال الصالحة ولبها وذروتها وسنام الحق... وقد بين الله تعالى جزاءهم فقال: {فأولئك كان سعيهم مشكورا} الفاء في جواب الشرط، والإشارة في أولئك إلى السابقين الموصوفين بإرادة الآخرة بالسعي بالعمل الصالح، وبالإيمان الذاعن الصادق، والإشارة إلى الأوصاف بيان أنها سبب الجزاء، والجزاء هو ذلك السعي الظاهر الفاضل، وشكره من الله تعالى بالجزاء عنه، وهو النعيم المقيم، وبالرضا، وهو أعظم ما يثاب به العبد، وعبر سبحانه بأنه شكور، أي أنه في ذاته يستحق الشكر...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمَنْ أَرَادَ الآخرةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وهو الذي فهم الحياة الدنيا فهماً عميقاً خاصاً، ينطلق من فهمه لمسألة الإيمان الذي يرى في الدنيا مزرعة الآخرة، فليس المطلوب منه أن يترك طيباتها وشهواتها ولذائذها أو يبتعد عن قضاياها، بل المطلوب منه أن لا يستغرق فيها من خلال هواه، ولكن ينطلق فيها من خلال خوفه مقام ربّه، وملاحظته العلاقة بين الممارسة العملية في الدنيا وبين النتائج السلبية والإيجابية في الآخرة، ليظل في عملية اتصالٍ دائمٍ وثيق بالخط المتوازن من خلال ما يوحي به العقل ويتحرك به المنطق، ما يجعل من الآخرة، التي يتمثل فيها رضوان الله ونعيم الجنة، هدفاً لكل أعمال الدنيا، لتكون دنيا الإنسان الحسيّة، آخرةً بمعنى انطلاقها من رضوان الله... ولكن المسألة ليست إرادةً تعيش في الأعماق، بل هي الإرادة التي تدفع نحو العمل، وتقود إلى الهدف، لتعيش الحركة الفاعلة المتصلة بالخط الذي يربط الدنيا بالآخرة، حيث يتركز الإيمان في عمق الشخصية، لأن السعي إلى الآخرة من خلال طبيعة العمل الصالح الذي ينسجم مع الخط الإيماني، هو الذي يحقق الغاية التي حددها الله، إذ لا بد من أن يكون الساعي إلى الآخرة مؤمناً، لأن المسألة في المفهوم القرآني هي أن يكون الخط العملي منطلقاً من الخط الروحي والخط الفكري الإيماني، ليكون له جذوره الضاربة في أعماق النفس الإنسانية...
{فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} فإن الله يشكر للمؤمن الذي يريد الحصول على رضاه في الدنيا والآخرة، ويعمل في سبيل ذلك بكل ما يملكه من جهد وطاقة وإيمان، ويعطيه من فضله ما يريد دون تحديد، لأن الجزاء هنا يلتقي بالعمل، فلا ينقص حجمه عنه، بل قد يزيد عليه، إذ يمنح الله الإنسان فضلاً يضاعف له فيه الثواب العظيم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هناك ثلاثة شروط أساسية للوصول إلى السعادة الأبدية، هي:
أوّلاً: إِرادة الإِنسان: وهي الإِرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية، ولا تكون مرتبطة باللذات الزائلة والنعم غير الثابتة، والأهداف المادية؛ فالإِرادة القوية والروحية العالية تجعلان من الإِنسان حرّاً طليقاً غير مرتبط بالدنيا...
ثانياً: هذه الإِرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري والروحي للإِنسان، بل إنّها يجب أن تشمل جميع ذرات الوجود الإِنساني، وتدفعهُ للحركة، وببذل كل ما يستطيع مِن السعي في هذا المجال (يجب الملاحظة، بأنَّ كلمة «سعيها» قد جاءت في الآية الكريمة للتأكيد. وهي تعني أنَّ على الإِنسان أن يبذل أقصى ما يستطيع مِن السعي في سبيل الآخرة)... ثالثاً: إِنَّ كل ما سبق مِن حديث عن الإِرادة في النقطتين السابقتين، ينبغي أن يقترن بالإِيمان؛ الإِيمان الثابت القوي. لأنَّ أي تصميم وجهد، إِذا أريد لهُ أن يُثمر يجب أن تكون أهدافه صحيحة، ومصدر هذه الأهداف هو الإِيمان باللّه لا غير... والملاحظ هنا، أنَّ الآية تخاطب عبيد الدنيا بالقول: (جعلنا لهُ جهنَّم) بينما عندما تنتقل إلى طُلاّب الآخرة وعشّاقها ومريدها، فهي تخاطبهم بالقول: (فأُولئكَ كانَ سعيهم مشكوراً). إِنَّ استخدام هذا التعبير أشمل وأجمل مِن استخدام أي تعبير آخر، مثل (جزاءهم الجنّة) لأنَّ الشكر من أي شخص هو بمقدار شخصيته ومكانته لا بمقدار العمل الذي تمَّ، لذا فإِنَّ شكر اللّه لسعي عباده يتناسب مع ذاته اللامتناهية، ونعمه المادية والمعنوية وما نتصوره وما نعجز عن تصوّره... وبالرغم من أنَّ بعض المفسّرين قد فسّروا كلمة «مشكوراً» في هذه الآية بمعنى «الأجر المضاعف». أو بمعنى «قبول العمل»، إِلاّ أنَّهُ مِن الواضح أن كلمة «مشكوراً» لها معنى أوسع مِن هذه المعاني جميعاً...