اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا} (19)

وأما القسم الثاني : وهو قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } فشرط تعالى فيه ثلاثة شروطٍ "

أحدها : أن يريد بعمله الآخرة أي : ثواب الآخرة ، فإنه إن لم ينو ذلك ، لم ينتفع بذلك العمل ؛ لقوله تعالى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 37 ] وقوله - صلوات الله وسلامه عليه- : " إنَّما الأعمَالُ بالنِّيَّاتِ " .

والثاني : قوله جلَّ ذكره : { وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، وذلك يقتضي أن يكون ذلك العمل من باب القرب والطَّاعات ، وكثير من الضُّلال يتقرَّبون بعبادة الأوثان ، ولهم فيها تأويلان :

أحدهما : أنهم يقولون : إله العالم أجلُّ وأعظم من أن يقدر الواحد منَّا على إظهار عبوديته ، وخدمته ، ولكن غاية قدرتنا أن نشتغل بعبوديَّة بعض المقربين من عباد الله ، مثل أن نشتغل بعبادة الكواكب ، أو ملكٍ من الملائكةِ ، ثمَّ إنَّ الملك أو الكواكب يشتغلون بعبادة الله - تعالى- .

فهؤلاء يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بهذا الطريق ، وهذه طريق فاسدة ، فلا جرم لم ينتفع بها .

والتأويل الثاني : أنَّهم قالوا : اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء ، والمراد من عبادتها أن يصير أولئك الأنبياء والأولياء شفعاءنا عند الله - تعالى- ، وهذا الطريق أيضاً فاسد ؛ فلا جرم لم ينتفع بها .

وأيضاً : نقل عن الجنيد أنَّهم يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بقتل أنفسهم تارة ، وبإحراق أنفسهم أخرى ، وهذا الطريق أيضاً فاسد ، فلا جرم لم ينتفع بها ، وكذا القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بمذاهبهم الباطلة .

والشرط الثالث : قوله تعالى : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } .

وهذا الشرط معتبرٌ ؛ لأنَّ الشرط في كون أعمال البرِّ موجبة للثواب هو الإيمان ، فإذا لم يوجد ، لم يحصل المشروط ، ثمَّ إنه - تعالى - أخبر أنَّ عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً ، والعمل مبروراً .

واعلم أن الشُّكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة :

اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال ، والثناء عليه بالقول ، والإتيان بأفعال تدلُّ على كونه معظماً عند ذلك الشَّاكر ، والله - تعالى - يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة ، فإنَّه تعالى عالمٌ بكونهم محسنين في تلك الأعمال ، وإنه تعالى يثني عليهم بكلامه ؛ وإنَّه تعالى يعاملهم بمعاملة دالَّة على كونهم مطيعين عند الله - تعالى - .

وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً ، كانوا مشكورين على طاعتهم من قبل الله - تعالى- .

يروى في كتب المعتزلة : أنَّ جعفر من حربٍ حضر عنده رجل{[3]} من أهل السنَّة ، وقال : الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى : أنا نشكر على الإيمان ، ولو لم يكن الإيمان حاصلاً بإيجاده ، لامتنع أن نشكره عليه ؛ لأنَّ مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله{[4]} قبيحٌ . قال الله - تعالى- : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [ آل عمران : 188 ] .

فعجز الحاضرون على الجواب ، فدخل ثمامة بن الأشرسِ ، وقال : إنَّا نمدحُ الله - تعالى - ونشكره على ما أعطانا من القدرة ، والعقل ، وإنزال الكتب ، وإيضاح الدلائل ، والله - تعالى - يشكرنا على فعل الإيمان ، قال الله - تعالى- : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } قالوا : فضحك جعفر بن حربٍ{[5]} وقال : صعبت{[6]} المسألة ، فسهلت .

واعلم أن قولنا : مجموع القدرة مع الداعي يوجبُ الفعل كلامٌ واضح ؛ لأنه " تعالى " هو الذي أعطى الموجب التَّام لحصول الإيمان ، فكان هو المستحقَّ للشُّكر ، ولما حصل الإيمان للعبد ، وكان الإيمان موجباً للسَّعادة التَّامَّة ، صار العبدُ أيضاً مشكوراً ، ولا منافاة بين الأمرين .

فصل

اعلم أنَّ كلَّ من أتى بفعلٍ ، فإمَّا أن يقصد به تحصيل خيراتِ الدنيا ، أو تحصيل الآخِرة ، أو يقصد به مجموعهما ، أو لم يقصد به واحد منهما .

فإن قصد به تحصيل خيراتِ الدنيا فقط ، أو تحصيل الآخرة فقط ، فالله - تعالى - ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية ، وأما القسمُ الثالث فينقسمُ ثلاثة أقسامٍ : إمَّا أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً ، أو يكون الطلبان متعادلين .

فإن كان طلب الآخرة راجحا ، فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى بحيث يحتمل أن يقال : إنه غير مقبولٍ ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله - تعالى - أنه قال : " أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عَملَ عَملاً أشْركَ فِيهِ غَيْرِي تَركْتهُ وشَريكَهُ{[7]} . " وأيضاً : طلب رضوان الله - تعالى - إما أن يكون سبباً مستقلاً بكونه باعثاً على ذلك الفعل ، وداعياً إليه ، وإمَّا ألا يكون . فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخلٌ في ذلك البعث والدعاء ؛ لأنَّ الحكم إذا أسند إلى سبب كامل تامٍّ ، امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه ، وإن كان الثاني ، فيكون الدَّاعي إلى ذلك الفعل هو المجموع ، وذلك المجموع ليس هو طلب الرضوان من الله - تعالى- ؛ لأنَّ المجموع الحاصل من الشَّيء ومن غيره يجب أن يكون مغايراً لطلب رضوان الله ؛ فوجب ألا يكون مقبولاً ، ويحتمل أن يقال : لما كان طلب الآخرة راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثلُ بالمثلِ ، فيبقى القدر الزائدُ داعية خالصة لطلب الآخرة ؛ فوجب كونه مقبولاً .

وأمَّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين ، أو كان طلبُ الدنيا راجحاً ، فقد اتفقوا على أنه غيرُ مقبولٍ ، إلاَّ أنه على كلِّ حالٍ خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكليَّة عن طلب الآخرة .

وأما القسم الرَّابع ، وهو الإقدام على الفعل من غير داع ، فهو مبنيٌّ على أنَّ صدور الفعل من القادر ، هل يتوقَّف على حصول الدَّاعي أم لا ؟ .

فالذين يقولون : إنَّه متوقِّف على حصول الداعي ، قالوا : هذا القسم ممتنع الحصول ، والَّذين قالوا : إنَّه لا يتوقَّف ، قالوا : هذا الفعل لا أثر له في الباطن ، وهو محرَّم في الظاهر ؛ لأنه عبثٌ .


[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.
[7]:تقدم.