السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَـٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا} (19)

ثم ذكر تعالى القسم الثاني وشرط فيه ثلاثة شروط : الأوّل : قوله تعالى : { ومن أراد الآخرة } أي : أراد بعمله ثواب الآخرة فإنه إن لم ينو ذلك لم ينتفع بذلك العمل لقوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } [ النجم ، 39 ] . وقوله صلى الله عليه وسلم : «إنما الأعمال بالنيات » . الثاني : قوله تعالى : { وسعى لها سعيها } وذلك يقتضي أن يكون ذلك العمل من باب القرب والطاعات وكثير من الضلال يتقرّبون بعبادة الأوثان ولهم فيها تأويلات ، أحدها أنهم يقولون إله العالم أجل وأعظم من أن يقدر الواحد منا على إظهار عبوديته وخدمته ولكن غاية قدرتنا أن نشتغل بعبادة بعض المقرّبين من عباد الله بأن يشتغل بعبادة كوكب أو ملك من الملائكة ثم إن الملك أو الكوكب يشتغل بعبادة الله تعالى فهؤلاء يتقرّبون إلى الله تعالى بهذا الطريق وهذه طريقة فاسدة فلا جرم أنه لم ينتفع بها . ثانيها أنهم قالوا اتخذنا هذه التماثيل على صورة الأنبياء والأولياء والمراد من عبادتها أن تصير تلك الأنبياء والأولياء شفعاء لنا عند الله وهذا الطريق أيضاً فاسد فلا جرم لم ينتفع بها . ثالثها : أنه نقل عن أهل الهند أنهم يتقرّبون إلى الله بقتل أنفسهم تارة أخرى أنفسهم أخرى وهذه الطريقة أيضاً فاسدة فلا جرم لم ينتفع بها . وكذا القول في جميع الفرق المبطلين الذين يتقرّبون إلى الله تعالى بمذاهبهم الباطلة .

الثالث : قوله تعالى : { وهو مؤمن } لأنّ الشرط في كون أعمال البرّ مقتضية للثواب هو الإيمان فإن لم يوجد لم يحصل المشروط ، وعن بعض المتقدّمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب ، وتلا هذه الآية .

ثم إنه تعالى أخبر عند وجود هذه الشروط بقوله تعالى : { فأولئك } أي : العالو الرتبة لجمعهم الشرائط الثلاثة { كان سعيهم مشكوراً } أي : مقبولاً مثاباً عليه بالتضعيف وبعضهم يفتح له أبواب الدنيا مع ذلك كداود وسليمان عليهما السلام ويستعمله فيها بما فيه مرضاة الله تعالى وبعضهم يزويها عنه كرامة له لا هواناً به فربما كان الفقر خيراً له وأعون على مراده ، فالحاصل أنها إن وجدت عند الولي لم تشرفه وإن عدمت عنه لم تحقره ، وإنما التشريف وغيره عند الله تعالى بالأعمال .

تنبيه : كل من أتى بفعل إما أن يقصد به تحصيل خيرات الدنيا ، وإمّا أن يقصد به خيرات الآخرة ، وإمّا أن يقصد به مجموعهما ، وإمّا أن لا يقصد به واحداً منهما . فإن قصد به تحصيل الدنيا فقط أو تحصيل الآخرة فقط فالله ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية . وأمّا القسم الثالث فيقسم إلى ثلاثة أقسام : إمّا أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً أو يكون الطلبان متعادلين ، فإن كان طلب الآخرة راجحاً فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى ؟ فيه رأيان :

أحدهما أنه غير مقبول لقوله صلى الله عليه وسلم حاكياً عن الله تعالى أنه قال : «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه » . وأيضاً طلب رضوان الله إمّا أن يكون سبباً مستقلاً لكونه باعثاً لهم على ذلك الفعل وداعياً إليه ، وإمّا أن لا يكون ، فإن كان الأوّل امتنع أن يكون لغيره مدخل في ذلك البعث والدعاء لأنّ الحكم إذا أسند لسبب تام كامل امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه ، وإن كان الثاني فيكون الداعي إلى ذلك الفعل هو المجموع ، وذلك المجموع ليس هو طلب رضوان الله لأنّ المجموع الحاصل من الشيء ومن غيره يجب أن يكون مغايراً لطلب رضوان الله فوجب أن لا يكون مقبولاً .

الرأي الثاني : أنه مقبول لأنّ طلب الآخرة لما كان راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثل بالمثل فبقي القدر الزائد داعية خالصة لطلب الآخرة فوجب كونه مقبولاً ، وأمّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين أو كان طلب الدنيا راجحاً فقد اتفقوا على أنه غير مقبول إلا أنه على كل حال خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكلية عن طلب الآخرة .

وأمّا القسم الرابع وهو الإقدام على الفعل من غير داع فهذا مبنّي على أنّ صدور الفعل من القادر هل يتوقف على حصول الداعي أم لا فالذين يقولون إنه يتوقف على حصول الداعي قالوا هذا القسم ممتنع الحصول والذين قالوا لا يتوقف قالوا هذا الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث .