قوله تعالى : { وإذا قيل لهم } . يعني للمنافقين ، وقيل لليهود أي قال لهم المؤمنون .
قوله تعالى : { لا تفسدوا في الأرض } . بالكفر وتعويق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل معناه لا تكفروا ، والكفر أشد فساداً في الدين .
قوله تعالى : { قالوا إنما نحن مصلحون } . يقولون هذا القول كذباً كقولهم آمنا وهم كاذبون .
وصفة أخرى من صفاتهم - وبخاصة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام في قومهم ورياسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول - صفة العناد وتبرير ما يأتون من الفساد ، والتبجح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون :
( وإذا قيل لهم : لا تفسدوا في الأرض ، قالوا : إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ، ولكن لا يشعرون ) . .
إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع ، بل يضيفون اليهما السفه والادعاء : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) . . لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد ، بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير : ( قالوا : إنما نحن مصلحون ) . .
والذين يفسدون أشنع الفساد ، ويقولون : إنهم مصلحون ، كثيرون جدا في كل زمان . يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم . ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم . والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم ، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية ، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية . .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرّة الطيب الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس{[1270]} من أصحاب رسول الله{[1271]} صلى الله عليه وسلم : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أما لا تفسدوا في الأرض ، قال : الفساد هو الكفر ، والعمل بالمعصية .
وقال أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } قال : يعني : لا تعصُوا في الأرض ، وكان فسادهم ذلك معصية الله ؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله ، فقد أفسد في الأرض ؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطَّاعة .
وهكذا قال الربيع بن أنس ، وقتادة .
وقال ابن جُرَيْج ، عن مجاهد : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ } قال : إذا ركبوا معصية الله ، فقيل لهم : لا تفعلوا كذا وكذا ، قالوا : إنما نحن على الهدى ، مصلحون .
وقد قال وَكِيع ، وعيسى بن يونس ، وعثَّام بن علي ، عن الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن عباد بن عبد الله الأسدي ، عن سلمان الفارسي : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } قال سلمان : لم يجئ أهل هذه الآية بعد .
وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم ، حدثنا عبد الرحمن بن شَريك ، حدثني أبي ، عن الأعمش ، عن زيد بن وهب وغيره ، عن سلمان ، في هذه الآية ، قال : ما جاء هؤلاء بَعْدُ{[1272]} .
قال ابن جرير : يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادًا من الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد{[1273]} .
قال ابن جرير : فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم ، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه ، وشكّهم في دينه الذي لا يُقْبَلُ من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته ، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله ، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا . فذلك إفساد المنافقين في الأرض ، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها{[1274]} .
وهذا الذي قاله حسن ، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [ الأنفال : 73 ] فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } [ النساء : 144 ] ثم قال : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } [ النساء : 145 ] فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين ، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل ؛ لأنه هو الذي غَرّ المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له ، ووالى الكافرين على المؤمنين ، ولو أنه استمر على حالته{[1275]} الأولى لكان شرّه أخف ، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح وأنجح ؛ ولهذا قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي : نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين ، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض}، يعني لا تعملوا في الأرض بالمعاصي، {قالوا إنما نحن مصلحون}، يعني مطيعين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية، فروي عن سلمان الفارسي أنه كان يقول: لم يجئ هؤلاء بعد... [و] عن ابن عباس، [و] ابن مسعود، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأرْض قالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ" هم المنافقون. أما لا تفسدوا في الأرض فإن الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية... لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض، لأن إصلاح الأرض والسماء بالطاعة...
وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: إن قول الله تبارك اسمه: "وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأرْضِ قالُوا إنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ "نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان معنيا بها كل من كان بمثل صفتهم من المنافقين بعدهم إلى يوم القيامة... وإنما قلنا أولى التأويلين بالآية ما ذكرنا، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك صفة من كان بين ظهراني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، وأن هذه الآيات فيهم نزلت. والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن من قول لا دلالة على صحته من أصل ولا نظير.
والإفساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه. فذلك جملة الإفساد، كما قال جل ثناؤه في كتابه مخبرا عن قيل ملائكته: {قالُوا أَتَجْعَلَ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدّماءَ} يعنون بذلك: أتجعل في الأرض من يعصيك ويخالف أمرك؟ فكذلك صفة أهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصِيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا بالتصديق به والإيقان بحقّيته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً. فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. فلم يسقط الله جل ثناؤه عنهم عقوبته، ولا خفف عنهم أليم ما أعدّ من عقابه لأهل معصيته بحسبانهم أنهم فيما أتوا من معاصي الله مصلحون، بل أوجب لهم الدرك الأسفل من ناره والأليمَ من عذابه والعارَ العاجل بسبّ الله إياهم وشتمه لهم، فقال تعالى:"أَلاّ إنّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ" وذلك من حكم الله جل ثناؤه فيهم أدلّ الدليل على تكذيبه تعالى قول القائلين: إن عقوبات الله لا يستحقها إلا المعاند ربه فيما لزمه من حقوقه وفروضه بعد علمه وثبوت الحجة عليه بمعرفته بلزوم ذلك إياه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) بالمخادعة للمؤمنين وإظهار الموافقة لهم بالقول، وإضمار الخلاف لهم والاستهزاء بهم عند الخلوة، والقول فيهم بما لا يليق بهم وعبادة غير الله. وأي فساد أكبر من هذا؟ وقوله تعالى: (قالوا إنما نحن مصلحون) بإظهار الموافقة بالقول.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به، ونقيضه؛ الصلاح: وهو الحصول على الحال المستقيمة النافعة.
والفساد في الأرض: هيج الحروب والفتن، لأن في ذلك فساد ما في الأرض وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس والزروع والمنافع الدينية والدنيوية. قال الله تعالى: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} [البقرة: 205] {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء} [البقرة: 30]. ومنه قيل لحرب كانت بين طيء: حرب الفساد.
وكان فساد المنافقين في الأرض. أنهم كانوا يمايلون الكفار ويمالئونهم على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم وإغرائهم عليهم، وذلك مما يؤدّي إلى هيج الفتن بينهم، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدياً إلى الفساد قيل لهم: {لا تفسدوا}، كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك بيدك، ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته.
و {إِنَّمَا} لقصر الحكم على شيء، كقولك: إنما ينطق زيد، أو لقصر الشيء على حكم كقولك: إنما زيد كاتب. ومعنى {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت من غير شائبة قادح فيها من وجه من وجوه الفساد...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لقول المنافقين: {إنما نحن مصلحون} ثلاث تأويلات:
أحدها: جحد أنهم مفسدون وهذا استمرار منهم على النفاق.
والثاني: أن يقروا بموالاة الكفار ويدعون أنها صلاح من حيث هم قرابة توصل.
والثالث: أنهم مصلحون بن الكفار والمؤمنين، فلذلك يداخلون الكفار.
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين، والكلام فيه من وجوه. أحدها: أن يقال: من القائل {لا تفسدوا في الأرض}؟ وثانيها: ما الفساد في الأرض؟ وثالثها: من القائل: {إنما نحن مصلحون}؟ ورابعها: ما الصلاح؟
أما المسألة الأولى: فمنهم من قال: ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال: هو الرسول عليه السلام، ومنهم من قال بعض المؤمنين، وكل ذلك محتمل، ولا يجوز أن يكون القائل بذلك من لا يختص بالدين والنصيحة، وإن كان الأقرب هو أن القائل لهم ذلك من شافههم بذلك، فإما أن يكون الرسول عليه السلام بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك فنصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح بمنزلة سائر المؤمنين، وإما أن يقال: إن بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبله منهم وكان ينقلب واعظا لهم قائلا لهم {لا تفسدوا} فإن قيل: أفما كانوا يخبرون الرسول عليه السلام بذلك؟ قلنا: نعم، إلا أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا عادوا إلى إظهار الإسلام والندم وكذبوا الناقلين عنهم وحلفوا بالله عليه كما أخبر تعالى عنهم في قوله {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر} وقال {يحلفون لكم لترضوا عنهم}.
المسألة الثانية: الفساد خروج الشيء عن كونه منتفعا به، ونقيضه الصلاح فأما كونه فسادا في الأرض فإنه يفيد أمرا زائدا، وفيه ثلاثة أقوال. أحدها: قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: أن المراد بالفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى، وتقريره ما ذكره القفال رحمه الله وهو أن إظهار معصية الله تعالى إنما كان إفسادا في الأرض، لأن الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه، فحقنت الدماء وسكنت الفتن، وكان فيه صلاح الأرض وصلاح أهلها، أما إذا تركوا التمسك بالشرائع وأقدم كل أحد على ما يهواه لزم الهرج والمرج والاضطراب، ولذلك قال تعالى {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض} نبههم على أنهم إذا أعرضوا عن الطاعة لم يحصلوا إلا على الإفساد في الأرض به، وثانيها: أن يقال ذلك الفساد هو مداراة المنافقين للكافرين ومخالطتهم معهم، لأنهم لما مالوا إلى الكفر مع أنهم في الظاهر مؤمنون أوهم ذلك ضعف الرسول صلى الله عليه وسلم، وضعف أنصاره، فكان ذلك يجرئ الكفرة على إظهار عداوة الرسول ونصب الحرب له وطمعهم في الغلبة، وفيه فساد عظيم في الأرض. وثالثها: قال الأصم: كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه، وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه.
المسألة الثالثة: الذين قالوا {إنما نحن مصلحون} هم المنافقون، والأقرب في مرادهم أن يكون نقيضا لما نهوا عنه، فلما كان الذي نهوا عنه هو الإفساد في الأرض كان قولهم {إنما نحن مصلحون} كالمقابل له، وعند ذلك يظهر احتمالان. أحدهما: أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب، وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين، لا جرم قالوا إنما نحن مصلحون، لأنهم في اعتقادهم ما سعوا إلا لتطهير وجه الأرض عن الفساد. وثانيهما: أنا إذا فسرنا {لا تفسدوا} بمداراة المنافقين للكفار فقولهم {إنما نحن مصلحون} يعني به أن هذه المداراة سعي في الإصلاح بين المسلمين والكفار، ولذلك حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا {إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا} فقولهم {إنما نحن مصلحون} أي نحن نصلح أمور أنفسنا.
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أن من أظهر الإيمان وجب إجراء حكم المؤمنين عليه، وتجويز خلافه لا يطعن فيه، وتوبة الزنديق مقبولة والله أعلم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
النهي عن الإفساد في الأرض من باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب. فمتعلق النهي حقيقة هو مصافاة الكفار وممالأتهم على المؤمنين بإفشاء السر إليهم وتسليطهم عليهم، لإفضاء ذلك إلى هيج الفتن المؤدي إلى الإفساد في الأرض، فجعل ما رتب على المنهي عنه حقيقة منهياً عنه لفظاً. والنهي عن الإفساد في الأرض هنا كالنهي في قوله تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} وليس ذكر الأرض لمجرد التوكيد بل في ذلك تنبيه على أن هذا المحل الذي فيه نشأتكم وتصرفكم، ومنه مادة حياتكم، وهو سترة أمواتكم، جدير أن لا يفسد فيه، إذ محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر تعالى عن بواطنهم أتبعه من الظاهر ما يدل عليه فبين أنهم إذا نهوا عن الفساد العام ادّعوا الصلاح العام بقوله: {وإذا قيل لهم} وبناؤه للمجهول إشارة إلى عصيانهم لكل قائل كائناً من كان {لا تفسدوا في الأرض} أي بما نرى لكم من الأعمال الخبيثة، والفساد انتقاض صورة الشيء. قاله الحرالي، {قالوا} قاصرين فعلهم على الصلاح نافين عنه كل فساد مباهتين غير مكترثين {إنما نحن مصلحون 118} والإصلاح تلافي خلل الشيء. قاله الحرالي.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{(11) وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (12) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (13) وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنومن كما آمن السفهاء؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون}
تنطق هذه الآيات بأن ما عليه هذا الصنف من الغرور بما عنده من التقاليد قد سول له الباطل وزين له سوء عمله فرآه حسنا، وشوه في نظره كل حق لم يأته على لسان رؤسائه ومقلديه بنصه التفصيلي، فهو يراه قبيحا.
وقد صورت الآيات هذا الغرور بما حكته عن بعض أفراده وهو: {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض} بما تصدون عن سبيل الله من آمن وتبغونها عوجاء، وتنفرون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والأخذ بما جاء من الإصلاح، الذي يجتث أصول الفساد، ويصطلم جراثيم الأدواء، ويحيي ما أماتته البدع من إرشاد الدين، ويقيم ما قوضته التقاليد من سنن المرسلين {قالوا إنما نحن مصلحون} بالتمسك بما استنبطه الرؤساء، وما كان عليه الأحبار والعرفاء، من تعاليم الأنبياء، فإنهم أعرف بسنتهم، وأدرى بطريقتهم، فكيف ندع ما تلقيناه منهم، ونذر ما يؤثر آباؤنا وشيوخنا عنهم، ونأخذ بشيء جديد، وطارف ليس له تليد؟
هكذا شأن كل مفسد: يدعي أنه مصلح في نفس إفساده، فإن كان على بينة من إفساده عارفا أنه مضل – وإنما يكون كذلك إذا كان إفساده لغيره لعداوة منه له – فإنما يدعى ذلك لتبرئة نفسه من وصمة الإفساد بالتمويه والمواربة. وإن كان مسوقا إلى الإفساد بسوء التقليد الأعمى الذي لا ميزان فيه لمعرفة الإصلاح من الإفساد إلا الثقة بالرؤساء المقلدين، فهو يدعيه عن اعتقاد ولا يريد أن يفهم غير ما تلقاه عنهم: وإن كان أثر تقليدهم، والسير على طريقتهم، مفسدا للأمة في الواقع ونفس الأمر، لأن الوجود والحقيقة الواقعة لا قيمة لهما ولا اعتبار في نظر المقلدين بل هم لا يعرفون مناشئ الفساد ومصادر الخلل، ولا مزالق الزلل، لأنهم عطلوا نظرهم الذي يميز ذلك، وأرادوا أن يوقعوا غيرهم بهذه المهالك، بصدهم عن سبيل الإسلام، الداعي إلى الوحدة والالتئام. فكان ذلك منهم دعاء إلى الفرقة والانفصام، والثبات على عبادة الملائكة أو البشر أو الأصنام. وأي إفساد في الأرض أعظم من التنفير عن اتباع الحق، وعن الاعتصام بدين فيه سعادة الدارين، والأرض إنما تفسد وتصلح بأهلها؟ ولذلك قال تعالى {ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وصفة أخرى من صفاتهم -[المنافقين] وبخاصة الكبراء منهم الذين كان لهم في أول العهد بالهجرة مقام في قومهم ورياسة وسلطان كعبد الله بن أبي بن سلول- صفة العناد وتبرير ما يأتون من الفساد، والتبجح حين يأمنون أن يؤخذوا بما يفعلون:
(وإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض، قالوا: إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون)..
إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون اليهما السفه والادعاء: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض).. لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد، بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير: (قالوا: إنما نحن مصلحون)..
والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدا في كل زمان. يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم. ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم. والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
القائل لهم {لا تفسدوا في الأرض} بعض من وقف على حالهم من المؤمنين الذين لهم اطلاع على شؤونهم لقرابة أو صحبة، فيخلصون لهم النصيحة والموعظة رجاء إيمانهم ويسترون عليهم خشية عليهم من العقوبة وعلماً بأن النبيء صلى الله عليه وسلم يغضي عن زلاتهم كما أشار إليه ابن عطية. وفي جوابهم بقولهم: {إنما نحن مصلحون} ما يفيد أن الذين قالوا لهم {لا تفسدوا في الأرض} كانوا جازمين بأنهم مفسدون لأن ذلك مقتضى حرف إنما كما سيأتي ويدل لذلك عندي بناء فعل قيل للمجهول بحسب ما يأتي في قوله تعالى: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} [البقرة: 8] ولا يصح أن يكون القائل لهم الله والرسول إذ لو نزل الوحي وبلغ إلى معينين منهم لعلم كفرهم ولو نزل مجملاً كما تنزل مواعظ القرآن لم يستقم جوابهم بقولهم: {إنما نحن مصلحون}. وقد عَنَّ لي في بيان إيقاعهم الفساد أنه مراتب:
أولها: إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التي أشرنا إليها فيما مضى وما يترتب عليها من المذام ويتولد من المفاسد.
الثانية: إفسادهم الناس ببث تلك الصفات والدعوة إليها، وإفسادُهم أبناءهم وعيالهم في اقتدائهم بهم في مساويهم كما قال نوح عليه السلام: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} [نوح: 27].
الثالث: إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الفِتَن وتأليب الأحزاب على المسلمين وإحداث العقبات في طريق المصلحين...
الفساد في الأرض هو أن تعمد إلى الصالح فتفسده، وأقل ما يطلب منك في الدنيا، أن تدع الصالح لصلاحه، ولا تتدخل فيه لتفسده، فإن شئت أن ترتقي إيمانيا، تأت للصالح، وتزد من صلاحه، فإن جئت للصالح وأفسدته فقد أفسدت فسادين، لأن الله سبحانه وتعالى، أصلح لك مقومات حياتك في الكون، فلم تتركها على الصلاح الذي خلقت به، وكان تركها في حد ذاته، بعدا عن الفساد، بل جئت إليها، وهي صالحة بخلق الله لها فأفسدتها، فأنت لم تستقبل النعمة الممنوحة لك من الله، بأن تتركها تؤدي مهمتها في الحياة، ولم تزد في مهمتها صلاحا، ولكنك جئت إلى هذه المهمة فأفسدتها..
وهكذا المنافقون.. أنزل الله تعالى منهجا للحياة الطيبة للإنسان على الأرض، وهؤلاء المنافقون بذلوا كل ما في جهدهم لإفساد هذا المنهج، بأن تآمروا ضده وادعوا أنهم مؤمنون به ليطعنوا الإسلام من داخله.
ولقد تنبه أعداء الإسلام، إلى أن هذا الدين القوي الحق، لا يمكن أن يتأثر بطعنات الكفر، بل يواجهها ويتغلب عليها. فما قامت معركة بين حق وباطل إلا انتصر الحق، ولقد حاول أعداء الإسلام أن يواجهوه سنوات طويلة، ولكنهم عجزوا، ثم تنبهوا إلى أن هذا الدين لا يمكن أن يهزم إلا من داخله، وأن استخدام المنافقين في الإفساد، هو الطريقة الحقيقية لتفريق المسلمين، فانطلقوا إلى المسلمين اسما ليتخذوا منهم الحربة التي يوجهونها ضد الإسلام، وظهرت مذاهب واختلافات، كل هذا قام به المنافقون في الإسلام وغلفوه بغلاف إسلامي، ليفسدوا في الأرض ويحاربوا منهج الله.