وفي ظل هذه الإيقاعات المثيرة الخطيرة يعلن تبعة كل نفس لذاتها وعلى ذاتها ؛ ويدع للنفوس أن تختار طريقها ومصيرها ؛ ويعلن لها أنها مأخوذة بما تكسبه باختيارها ، مرهونة بأعمالها وأوزارها :
( لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر . كل نفس بما كسبت رهينة ) . .
فكل فرد يحمل هم نفسه وتبعتها ، ويضع نفسه حيث شاء أن يضعها ، يتقدم بها أو يتأخر ، ويكرمها أو يهينها . فهي رهينة بما تكسب ، مقيدة بما تفعل . وقد بين الله للنفوس طريقة لتسلك إليه على بصيرة ، وهو إعلان في مواجهة المشاهد الكونية الموحية ، ومشاهد سقر التي لا تبقي ولا تذر . . له وقعه وله قيمته !
القول في تأويل قوله تعالى : { كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ } .
يقول تعالى ذكره : كلّ نفس مأمورة منهية بما عملت من معصية الله في الدنيا ، رهينة في جهنم إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ فإنهم غير مرتهنين ، ولكنهم فِي جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ عن المجرمين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ يقول : مأخوذة بعملها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ قال : غَلِقَ الناس كلهم إلا أصحاب اليمين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ قال : لا يحاسبون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : كلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ : أصحابُ اليمين لا يرتهنون بذنوبهم ، ولكن يغفرها الله لهم وقرأ قول الله : إلاّ عِبَادَ اللّهِ المُخْلَصِينَ قال : لا يؤاخذهم الله بسيىء أعمالهم ، ولكن يغفرها الله لهم ، ويتجاوز عنهم كما وعدهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : كلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ قال : كل نفس سبقت له كلمة العذاب يرتهنه الله في النار ، لا يرتهن الله أحدا من أهل الجنة ، ألم تسمع أنه قال : كلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ يقول : ليسوا رهينة فِي جَنّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله إلاّ أصحَابَ اليَمينِ قال : إن كان أحدهم سبقت له كلمة العذاب جُعلَ منزله في النار يكون فيها رهنا ، وليس يرتهن أحد من أهل الجنة هم في جنات يتساءلون .
واختلف أهل التأويل في أصحاب اليمين الذين ذكرهم الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هم أطفال المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن الأعمش ، عن عثمان ، عن زاذان ، عن عليّ رضي الله عنه في هذه الاَية : كلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ قال : هم الولدان .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عثمان أبي اليقظان ، عن زاذان أبي عمر عن عليّ رضي الله عنه في قوله كلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاّ أصحَابَ اليَمِينِ قال : أطفال المسلمين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن عثمان بن عمير أبي اليقظان ، عن زاذان أبي عمر ، عن عليّ رضي الله عنه إلاّ أصحَابَ اليَمِين قال : أولاد المسلمين .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي اليقظان ، عن زاذان ، عن عليّ رضي الله عنه إلاّ أصحَابَ اليَمِين قال : هم الولدان .
وقال آخرون : هم الملائكة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : هم الملائكة .
وإنما قال من قال : أصحاب اليمين في هذا الموضع : هم الولدان وأطفال المسلمين ومن قال : هم الملائكة ، لأن هؤلاء لم يكن لهم ذنوب ، وقالوا : لم يكونوا ليسألوا المجرمين ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إلا أنهم لم يقترفوا في الدنيا مآثم ، ولو كانوا اقترفوها وعرفوها لم يكونوا ليسألوهم عما سلكهم في سقر ، لأن كلّ من دخل من بني آدم ممن بلغ حدّ التكليف ، ولزِمه فرض الأمر والنهي ، قد علم أن أحدا لا يعاقب إلا على المعصية .
استئناف بياني يبين للسامع عقبى الاختيار الذي في قوله : { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } [ المدثر : 37 ] أي كل إنسان رَهْن بما كسب من التقدم أو التأخر أو غير ذلك فهو على نفسه بصيرة ليكسب ما يفضي به إلى النعيم أو إلى الجحيم .
و { رهينة } : خبر عن { كل نفس } وهو بمعنى مرهونة .
والرهن : الوثاق والحبس ومنه الرهن في الدَيْن ، وقد يطلق على الملازمة والمقارنة ، ومنه : فَرَسا رِهَاننٍ ، وكِلا المعنيين يصح الحمل عليه هنا على اختلاف الحال ، وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت منه المحْقوق به ، فالرهن مشعر بالأخذ بالشدة ومنه رهائن الحرب الذين يأخذهم الغالب من القوم المغلوبين ضماناً لئلا يخيس القومُ بشروط الصلح وحتى يعطوا ديات القتلى فيكون الانتقام من الرهائن .
وبهذا يكون قوله : { كل نفس } مراداً به خصوص أنفس المنذَرين من البشر فهو من العام المراد به الخصوص بالقرينة ، أي قرينة ما تعطيه مادة رَهينة من معنى الحَبس والأسر .
وظاهر هذا أنه كلام منصف وليس بخصوص تهديدِ أهل الشر .
و { رهينة } : مصدر بوزن فَعِيلة كالشَّتيمة فهو من المصادر المقترنة بهاء كهاء التأنيث مثل الفُعولة والفعالة ، وليس هو من باب فعيل الذي هو وصف بمعنى المفعول مثيل قتيلة ، إذ لو قصد الوصف لقيل رعين لأن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا جرى على موصوفه كما هنا ، والإِخبار بالمصدر للمبالغة على حد قول مِسْوَر بن زيادة الحارثي :
أبَعْدَ الذي بالنَّعْفِ نَعْفِ كُوَيكِبٍ *** رهينةِ رَمْس ذي تراب وجندل
ألا تراه أثبت الهاء في صفة المذكر وإلاّ لما كان موجب للتأنيث .