قوله تعالى : { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } ، أي : لأسمعهم سماع التفهم والقبول . قوله تعالى : { ولو أسمعهم } بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك .
قوله تعالى : { لتولوا وهم معرضون } ، لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره ، وقيل : إنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : أحيي لنا قصياً فإنه كان شيخاً مباركاً حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك ، فقال الله عز وجل : { ولو أسمعهم } كلام قصي { لتولوا وهم معرضون } .
( ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ) . .
أي لأسمع قلوبهم وشرحها لما تسمعه آذانهم . . ولكنه - سبحانه - لم يعلم فيهم خيرا ولا رغبة في الهدى فقد أفسدوا استعداداتهم الفطرية للتلقي والاستجابة ؛ فلم يفتح الله عليهم ما أغلقوا هم من قلوبهم ، وما أفسدوا هم من فطرتهم . ولو جعلهم الله يدركون بعقولهم حقيقة ما يدعون إليه ، ما فتحوا قلوبهم له ولا استجابوا لما فهموا . . ( ولو اسمعهم لتولوا وهم معرضون ) . . .
لأن العقل قد يدرك ، ولكن القلب المطموس لا يستجيب . فحتى لو أسمعهم الله سماع الفهم لتولوا هم عن الاستجابة . والاستجابة هي السماع الصحيح . وكم من ناس تفهم عقولهم ولكن قلوبهم مطموسة لا تستجيب !
ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح ، ولا قصد لهم صحيح ، لو فرض أن لهم فهما ، فقال : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ } أي : لأفهمهم ، وتقدير الكلام : ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم ؛ لأنه يعلم أنه { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ } أي : أفهمهم { لَتَوَلَّوْا } عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك ، { وَهُمْ مُعْرِضُونَ } عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّواْ وّهُمْ مّعْرِضُونَ } . .
اختلف أهل التأويل ، فيمن عني بهذه الاَية وفي معناها ، فقال بعضهم : عني بها المشركون ، وقال : معناه أنهم لو رزقهم الله الفهم لِما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم لم يؤمنوا به ، لأن الله قد حكم عليهم أنهم لا يؤمنون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قوله : وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أسْمَعَهُمْ لقالُوا ائْتِ بقُرآنٍ غيرِ هَذَا ولقالوا : لولا اجْتَبَيْتَهَا . ولو جاءهم بقرآن غيره لتولّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَوْ أسْمَعْهُمْ لَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ قال : لو أسمعهم بعد أن يعلم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك ، ولتولوا وهم معرضون .
وحدثني به مرّة أخرى ، فقال : لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ، ولو أسمعهم بعد أن يعلم أن لا خير فيهم ما نفعهم بعد أن نفذ علمه بأنهم لا ينتفعون به .
وقال آخرون : بل عني بها المنافقون . قالوا : ومعناه : ما :
حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرا لأَسْمَعَهُمْ لأنفذ لهم قولهم الذي قالوه بألسنتهم ، ولكن القلوب خالفت ذلك منهم ، ولو خرجوا معكم لتولوا وهم معرضون ، فأوفوا لكم بشرّ مما خرجوا عليه .
وأولى القول في تأويل ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن جريج وابن زيد لما قد ذكرنا قبل من العلة ، وأن ذلك ليس من صفة المنافقين .
فتأويل الاَية إذن : ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرا لأسمعهم مواعظ القرآن وعبره ، حتى يعقلوا عن الله حججه منه ، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم وأنهم ممن كتب لهم الشقاء فهم لا يؤمنون . ولو أفهمهم ذلك حتى يعلموا ويفهموا لتولوا عن الله وعن رسوله ، وهم معرضون عن الإيمان بما دلهم على حقيقته مواعظ الله وعبره وحججه معاندون للحقّ بعد العلم به .
{ ولو علم الله فيهم خيرا } سعادة كتبت لهم أو انتفاعا بالآيات . { لأسمعهم } سماع تفهم . { ولو أسمعهم } وقد علم أن لا خير فيهم . { لتولّوا } ولم ينتفعوا به ، أو ارتدوا بعد التصديق والقبول . { وهم معرضون } لعنادهم . وقيل كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : أحيي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن بك . والمعنى لأسمعهم كلام قصي .
ثم أخبر تعالى بأن عدم سمعهم وهداهم إنما هو بما علمه الله منهم وسبق من قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمهم في قوله { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } والمراد لأسمعهم إسماع تفهيم وهدى ، ثم ابتدأ عز وجل الخبر عنهم بما هم عليه من حتمه عليهم بالكفر فقال { ولو أسمعهم } أي ولو أفهمهم { لتولوا } بحكم القضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : المعنيّ بهذه الآية المنافقون ، وضعفه الطبري وكذلك هو ضعيف .
جملة : { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } يجوز أن تكون معطوفة على جملة : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم } الخ باعتبار أن الدواب مشبه به الذين قالوا { سمعنا وهم لا يسمعون } ويجوز أن تكون معطوفة على شبه الجملة في قوله : { كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } وقد سكت المفسرون عن موقع إعراب هذه الجملة وهو دقيق والمعنى أن جبلتهم لا تقبل دعوة الخير والهداية والكمال ، فلذلك انتفى عنهم الانتفاع بما يسمعون من الحكمة والموعظة والإرشاد ، فكانوا كالصم ، وانتفى عنهم أن تصدر منهم الدعوة إلى الخير والكلام بما يفيد كمالاً نفسانياً فكانوا كالبكم ، فالمعنى : لو علم الله في نفوسهم قابلية لتلقي الخير لتعلقت إرادته بخلق نفوذ الحق في نفوسهم لأن تعلق الإرادة يجري على وَفق التعلم ، ولكنهم انتفت قابلية الخير عن جبلتهم التي جبلوا عليها فلم تنفذ دعوة الخير من أسماعهم إلى تعقلهم ، أي بحيث لا يدخل الهدى إلى نفوسهم إلاّ بما يُقلب قلوبهم من لطف إلاّ هي بنحو اختراق أنوار نبوية إلى قلوبهم .
و { لو } حرف شرط يقتضي انتفاء مضمون جملة الشرط وانتفاء مضمون جملة الجزاء لأجل انتفاء مضمون الشرط والاستدلالَ بانتفاء الجزاء على تحقق انتفاء الشرط .
و ( في ) للظرفية المجازية التي هي في معنى الملابسة ، ومن لطائفها هنا أنها تعبر عن ملابسه باطنية .
ولما كان ( لو ) حرفاً يفيد امْتناع حصول جوابه بسبب حصول شرطه ، كان أصل معنى { لوْ علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } ولو كان في إدراكهم خير يعلمه الله لقبِلوا هديه ولكنهم لا خير في جبلة مداركهم فلا يعلم الله فيهم خيراً ، فلذلك لم ينتفعوا بكلام الله فهُم كمن لا يسمع .
فوقعت الكناية عن عدم استعداد مداركهم للخير ، بعلم الله عدمَ الخير فيهم . ووقع تشبيه عدم انتفاعهم بفهم آيات القرآن بعدم إسماع الله إياهم ، لأن الآيات كلام الله فإذا لم يقبلوها فكأن الله لم يُسمعهم كلامه فالمراد انتفاء الخير الجبلي عنهم ، وهو القابلية للخير ، ومعلوم أن انتفاء علم الله بشيء يساوي علمَه بعدمه لأن علم الله لا يختلف عن شيء .
فصار معنى { لو علم الله فيهم خيراً } لو كان في نفوسهم خير ، وعُبر عن قبولهم الخير المسموع وانفعالِ نفوسهم به بإسماع الله إياهم ما يُبلغهم الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن والمواعظ ، فالمراد انتفاء الخير الانفعالي عنهم وهو التخلّق والامتثال لِما يسمعونه من الخير .
وحاصل المعنى : لو جبلهم الله على قبول الخير لَجَعَلَهم يسمعون أي يعملون بما يدخل أصماخهم من الدعوة إلى الخير . فالكلام استدلال بانتفاء فرد من أفراد جنس الخير . وذلك هو فرد الانتفاع بالمسموع الحق ، على انتفاء جنس الخير من نفوسهم ، فمناط الاستدلال هو إجراء أمرهم على المألوف من حكمة الله في خلق أجناسسِ الصفات وأشخاصها ، وإن كان ذلك لا يخرج عن قدرة الله تعالى لو شاء أن يُجري أمرهم على غير المعتاد من أمثالهم .
وبهذا تعلم أن كل من لم يؤمن من المشركين حتى مات على الشرك فقد انتفت مخالطة الخير نفسَه ، وكل من آمن منهم فهو في وقت عناده وتصميمه على العناد قد انتفت مخالطة الخير نفسه ولكن الخير يلمع عليه ، حتى إذا استولى نور الخير في نفسه على ظلمة كفره ألقى الله في نفسه الخيرَ فأصبح قابلاً للإرشاد والهدى ، فحق عليه أنه قد علم الله فيه خيراً حينئذٍ فأسمعه . فمثَل ذلك مثل أبي سفيان ، إذ كان فيما قبلَ ليلة فتح مكة قائِد أهل الشرك فلما اقترب من جيش الفتح وأُدخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلاّ الله ، قال أبو سفيان : « لقد علمت أن لو كان معه إله آخر لقد أغنى عَني شيئاً » ثم قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : " وأن تشهد أني رسول الله " فقال : أمّا هذه ففي القلب منها شيء » فلم يكمل حينئذٍ إسماع الله إياه ، ثم تمّ في نفسه الخير فلم يلبث أن أسلم فأصبح من خيرة المسلمين .
وجملة : { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } معطوفة على جملة : { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } أي لأفهمهم ما يسمعون وهو ارتقاء في الأخبار عنهم بانتفاء قابلية الاهتداء عن نفوسهم في أصل جبلتهم . فإنهم لما أخبر عنهم بانتفاء تعلمهم الحكمة والهدى فلذلك انتفى عنهم الاهتداء ، ارتقى بالإخبار في هذا المعنى بأنهم لو قبلوا فهم الموعظة والحكمة فيما يسمعونه من القرآن وكلام النبوة لغلب ما في نفوسهم من التخلق بالباطل على ما خالطها من إدراك الخير ، فحال ذلك التخلق بينهم وبين العمل بما علموا ، فتولوا وأعرضوا .
وهذا الحال المستقر في نفوس المشركين متفاوت القوة ، وبمقدار تفاوته وبلوغه نهايته تكون مدة دوامهم على الشرك ، فإذا انتهى إلى أجله الذي وضعه الله في نفوسهم وكان انتهاؤه قبل انتهاء أجل الحياة استطاع الواحد منهم الانتفاع بما يُلقى إليه فاهتدى ، وعلى ذلك حال الذين اهتدوا منهم إلى الإسلام بعد التريّث على الكفر زمناً متفاوت الطول والقصر .
وأعلم أن ليس عطف جملة : { ولو أسمعهم لتولوا } على جملة : { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } بمقصود منه تفرعُ الثانية على الأولى تفرعُ القضايا بعضها على بعض في تركيب القياس ، لأن ذلك لا يجيء في القياس الاستثنائي ولا أنه من تفريع النتيجة على المقدمات لأن تفريع الأقيسة بتلك الطريقة التي تشبه التفريع بالفاء ليس أسلوباً عربياً ، فالجملتان في هذه الآية كل واحدة منهما مستقلة عن الأخرى ، ولا تَجمع بينهما إلاّ مناسبة المعنى والغرض ، فليس اقتران هاتين الجملتين هنا بمنزلة اقتران قولهم لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجوداً ، ولو كان النهار موجوداً لدرجت الدواجن ، فإنه قد ينتج : لو كانت الشمس طالعة لدرجت الدواجن ، بواسطة تدرج اللزُومات في ذهن المحجوج تقريباً لفهمه ، فإن ذلك بمنزلة التصريح بنتيحة ثم جعل تلك النتيجة الحاصلةِ مقدمةَ قياس ثان فتُطوى النتيجة لظهورها اختصاراً ، وهذا ليس بأسلوب عربي إنما الأسلوب العربي في إقامة الدليل بالشرطية أن يقتصر على مقدّم وتال ، ثم يُستدرَك عليه بالاستنتاج بذكر نقيض المقدم كقول أبَي بنِ سُلمى بن ربيعة يصف فرسه :
ولو طار ذُو حافر قبلها *** لطارت ولكنه لم يطر
ولو دامتْ الدولات كانوا كغيرهم *** رعايا ولكنْ ما لهُنّ دوام
أو بذكر مساوي نقيض المقدم كقول عَمرو بن معديكرب :
فلَوْ أن قومي أنطقَتْني رماحُهم *** نَطقْتُ ولكن الرماحَ أجَرتِ
فإن إجرار اللسان يمنع نطقه ، فكان في معنى ولكن الرماح تُنطقني . والأكثر أنهم يستغنون عن هذا الاستدراك لظهور الاستنتاج من مجرد ذكر الشرط والجزاء .
واعلم أن ( لو ) الواقعة في هذه الجملة الثانية من قبيل ( لو ) المشتهرة بين النحاة بلو الصهَيْبية ( بسبب وقوع التمثيل بها بينهم بقول عمر بن الخطاب{[242]} : « نعْم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه » وذلك أن تستعمل ( لو ) لقصد الدلالة على أن مضمون الجزاء مستمر الوجود في جميع الأزمنة والأحوال عند المتكلم ، فيأتي بجملة الشرط حينئذٍ متضمنة الحالة التي هي مظنة أن يتخلف مضمونُ عند حصلها الجزاء لو كان ذلك مما يحتمل التخلف ، فقوله : « لو لم يخف الله لم يعصمه » المقصود منه انتفاء العصيان في جميع الأزمنة والأحوال حتى في حال أمنِه من غضب الله ، فليس المراد أنه خاف فعصى ، ولكن المراد أنه لو فرض عدم خوفه لما عصى ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : { ولو أن ما في الأرض من شجرةٍ أقلامٌ والبحرُ يَمُده من بعده سبعة أبحر ما نَفِدت كلماتُ الله } [ لقمان : 27 ] فالمقصود عدم انتهاء كلمات الله حتى في حالة ما لو كُتبت بماء البحر كله وجعلت لها أعوادُ الشجر كله أقلاماً ، لا أن كلمات الله تنفدْ إن لم تكن الأشجار أقلاماً والأبحر مداداً ، وكذا قوله تعالى : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيءٍ قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلاّ أن يشاء الله } [ الأنعام : 111 ] ليس المعنى لكن لم ننزل عليهم الملائكة ولا كلمهم الموتى ولا حشرنا عليهم كل شيء فآمنوا بل المعنى أن إيمانهم منتف في جميع الأحوال حتى في هذه الحالة التي شأنها أن لا ينتفي عندها الإيمان .
وفي هذا الاستعمال يضعف معنى الامتناع الموضوعة له ( لو ) وتصير ( لو ) في مجرد الاستلزام على طريقة مستعملة المجاز المرسل وستجيء زيادة في استعمال ( لو ) الصهيبية عند قوله تعالى : { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } في هذه السورة [ 42 ] .
فهكذا تقرير التلازم في قوله تعالى هنا : { ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } ليس المعنى على أنه لم يسمعهم فلم يتَولوا ، لأن توليهم ثابت ، بل المعنى على أنهم يتولون حتى في حالة ما لو سمعهم الله الإسماع المخصوص ، وهو إسماع الإفهام ، فكيف إذا لم يسمعوه .
وجملة : { وهم معرضون } حال من ضمير تولوا وهي مبينة للمراد من التولي وهو معناه المجازي وصوغ هذه الجملة بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على تمكن إعراضهم أي إعراضاً لا قبول بعده ، وهذا يفيد أن من التولي ما يعقبه إقبال ، وهو تولي الذين تولوا ثم أسلموا بعد ذلك مثل مصعب بن عمير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل، فيمن عني بهذه الآية وفي معناها؛ فقال بعضهم: عني بها المشركون، وقال: معناه أنهم لو رزقهم الله الفهم لِما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم لم يؤمنوا به، لأن الله قد حكم عليهم أنهم لا يؤمنون... قال ابن زيد، في قوله:"وَلَوْ أسْمَعْهُمْ لَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ": لو أسمعهم بعد أن يعلم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك، ولتولوا وهم معرضون...
وقال آخرون: بل عني بها المنافقون...
وأولى القول في تأويل ذلك بالصواب عندي ما قاله...ابن زيد لما قد ذكرنا قبل من العلة، وأن ذلك ليس من صفة المنافقين.
فتأويل الآية إذن: ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرا لأسمعهم مواعظ القرآن وعبره، حتى يعقلوا عن الله حججه منه، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم وأنهم ممن كتب لهم الشقاء فهم لا يؤمنون. ولو أفهمهم ذلك حتى يعلموا ويفهموا لتولوا عن الله وعن رسوله، وهم معرضون عن الإيمان بما دلهم على حقيقته مواعظ الله وعبره وحججه معاندون للحقّ بعد العلم به.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ أَقْصتْه سوابقُ القسمة لم تُدْنِه لواحقُ الخدمة، ومنْ عَلِمه اللهُ بنعت الشِّقوة حَرَمَه ما يوجبُ عَفْوَه. ويقال لو كانوا في متناولات الرحمة لألبسهم صدارَ العصمة، ولكن سبَق بالحرمان حكمُهم، فختم بالضلالةِ أمرُهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَوْ عَلِمَ الله} في هؤلاء الصم البكم {خَيْرًا} أي انتفاعاً باللطف {لأسْمَعَهُمْ} للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين، ثم قال: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ} عنه. يعني: ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف، فلذلك منعهم ألطافه. أو، ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبر تعالى بأن عدم سمعهم وهداهم إنما هو بما علمه الله منهم وسبق من قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمهم في قوله {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} والمراد لأسمعهم إسماع تفهيم وهدى، ثم ابتدأ عز وجل الخبر عنهم بما هم عليه من حتمه عليهم بالكفر فقال {ولو أسمعهم} أي ولو أفهمهم {لتولوا} بحكم القضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى..
والمعنى أن كل ما كان حاصلا فإنه يجب أن يعلمه الله فعدم علم الله بوجوده من لوازم عدمه، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده. وتقرير الكلام: لو حصل فيهم خير، لأسمعهم الله الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهيم، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بها، ولتولوا وهم معرضون...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح، ولا قصد لهم صحيح، لو فرض أن لهم فهما، فقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ} أي: لأفهمهم، وتقدير الكلام: ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم؛ لأنه يعلم أنه {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} أي: أفهمهم {لَتَوَلَّوْا} عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك، {وَهُمْ مُعْرِضُونَ} عنه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} أي ولو علم الله فيهم استعدادا للإيمان والهدى ببقية من نور الفطرة، لم تطفئها مفاسد التربية وسوء القدرة، لأسمعهم بتوفيقه وعنايته الكتاب والحكمة سماع تفقه وتدبر، ولكنه علم أنه لا خير فيهم لأنهم ممن أحاطت بهم خطاياهم وختم على قلوبهم {ولو أسمعهم} وقد علم أن لا خير فيهم {لتولّوا} عن القبول والإذعان لما فهموا {وهم معرضون} والحال أنهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به- كما هو مدلول الجملة الحالية- كراهة وعنادا للداعي إليه ولأهله، لا توليا عارضا موقتا، ...
...والآية نص في أنه تعالى لم يسمعهم أي لم يوفقهم للسماع النافع لأن الباعث عليه هو ما في الفطرة من نور الحق المحبب للنفس في الخير، وقد، فقدوا ذلك بإفسادهم لفطرتهم، وإطفائهم لنور الاستعداد للحق والخير الذي يذكيه سماع الحكمة والموعظة الحسنة، فصاروا ممن وصفهم في سورة المطففين المكية بقوله: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14] وقوله في سورة البقرة {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 81]...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
.وهذا دليل على أن اللّه تعالى لا يمنع الإيمان والخير، إلا لمن لا خير فيه، الذي لا يزكو لديه ولا يثمر عنده.. وله الحمد تعالى والحكمة في هذا.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى أن جبلتهم لا تقبل دعوة الخير والهداية والكمال، فلذلك انتفى عنهم الانتفاع بما يسمعون من الحكمة والموعظة والإرشاد، فكانوا كالصم، وانتفى عنهم أن تصدر منهم الدعوة إلى الخير والكلام بما يفيد كمالاً نفسانياً فكانوا كالبكم، فالمعنى: لو علم الله في نفوسهم قابلية لتلقي الخير لتعلقت إرادته بخلق نفوذ الحق في نفوسهم لأن تعلق الإرادة يجري على وَفق التعلم، ولكنهم انتفت قابلية الخير عن جبلتهم التي جبلوا عليها فلم تنفذ دعوة الخير من أسماعهم إلى تعقلهم، أي بحيث لا يدخل الهدى إلى نفوسهم إلاّ بما يُقلب قلوبهم من لطف إلاّ هي بنحو اختراق أنوار نبوية إلى قلوبهم ...
ولما كان (لو) حرفاً يفيد امْتناع حصول جوابه بسبب حصول شرطه، كان أصل معنى {لوْ علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} ولو كان في إدراكهم خير يعلمه الله لقبِلوا هديه ولكنهم لا خير في جبلة مداركهم فلا يعلم الله فيهم خيراً، فلذلك لم ينتفعوا بكلام الله فهُم كمن لا يسمع. فوقعت الكناية عن عدم استعداد مداركهم للخير، بعلم الله عدمَ الخير فيهم. ووقع تشبيه عدم انتفاعهم بفهم آيات القرآن بعدم إسماع الله إياهم، لأن الآيات كلام الله فإذا لم يقبلوها فكأن الله لم يُسمعهم كلامه فالمراد انتفاء الخير الجبلي عنهم، وهو القابلية للخير، ومعلوم أن انتفاء علم الله بشيء يساوي علمَه بعدمه لأن علم الله لا يختلف عن شيء. فصار معنى {لو علم الله فيهم خيراً} لو كان في نفوسهم خير، وعُبر عن قبولهم الخير المسموع وانفعالِ نفوسهم به بإسماع الله إياهم ما يُبلغهم الرسول عليه الصلاة والسلام من القرآن والمواعظ، فالمراد انتفاء الخير الانفعالي عنهم وهو التخلّق والامتثال لِما يسمعونه من الخير. وحاصل المعنى: لو جبلهم الله على قبول الخير لَجَعَلَهم يسمعون أي يعملون بما يدخل أصماخهم من الدعوة إلى الخير. فالكلام استدلال بانتفاء فرد من أفراد جنس الخير. وذلك هو فرد الانتفاع بالمسموع الحق، على انتفاء جنس الخير من نفوسهم، ...
... وكل من آمن منهم فهو في وقت عناده وتصميمه على العناد قد انتفت مخالطة الخير نفسه ولكن الخير يلمع عليه، حتى إذا استولى نور الخير في نفسه على ظلمة كفره ألقى الله في نفسه الخيرَ فأصبح قابلاً للإرشاد والهدى، فحق عليه أنه قد علم الله فيه خيراً حينئذٍ فأسمعه ...
وجملة: {ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} معطوفة على جملة: {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} أي لأفهمهم ما يسمعون وهو ارتقاء في الأخبار عنهم بانتفاء قابلية الاهتداء عن نفوسهم في أصل جبلتهم. فإنهم لما أخبر عنهم بانتفاء تعلمهم الحكمة والهدى فلذلك انتفى عنهم الاهتداء، ارتقى بالإخبار في هذا المعنى بأنهم لو قبلوا فهم الموعظة والحكمة فيما يسمعونه من القرآن وكلام النبوة لغلب ما في نفوسهم من التخلق بالباطل على ما خالطها من إدراك الخير، فحال ذلك التخلق بينهم وبين العمل بما علموا، فتولوا وأعرضوا. وهذا الحال المستقر في نفوس المشركين متفاوت القوة، وبمقدار تفاوته وبلوغه نهايته تكون مدة دوامهم على الشرك، فإذا انتهى إلى أجله الذي وضعه الله في نفوسهم وكان انتهاؤه قبل انتهاء أجل الحياة استطاع الواحد منهم الانتفاع بما يُلقى إليه فاهتدى، وعلى ذلك حال الذين اهتدوا منهم إلى الإسلام بعد التريّث على الكفر زمناً متفاوت الطول والقصر...
فهو سبحانه وتعالى قد علم أنه ليس فيهم خير، فلم يسمعهم سماع الاستجابة. والمولى سبحانه وتعالى منزه من أن يبتدئهم بعدم إسماعهم، لأنهم لم يوجد فيهم خير، والخير هنا مقصود به الإيمان الأول بالرسول، وهم لم يؤمنوا. فلم يستمعوا لنداء الهداية منه صلى الله عليه وسلم كمبلغ عن الله تعالى. إذن فعدم وجود الخير بدأ من ناحيتهم، وسبحانه وتعالى القائل: {والله يهدي القوم الكافرين} (من الآية 264 سورة البقرة) وهم – إذن -سبقوا بالكفر فلم يهدهم الله. وسبحانه وتعالى القائل: {والله لا يهدي القوم الظالمين} (من الآية 258 سورة البقرة)، وهم سبقوا بالظلم فلم يهدهم الله. وسبحانه وتعالى القائل: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} (من الآية 108 سورة المائدة)، وهم سبقوا بالفسق فلم يهدهم الله. والله منزه عن الافتئات على بعض عباده، فلم يسمعهم سماع الاستجابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون). وعلم الله تعالى أزلي، لكنه لا يحاكم عباده بما علم عنهم أزلا. بل ينزل لهم حق الاختيار في التجربة الحياتية العملية...
فسبحانه وتعالى العالم أزلا، لكنه شاء أن يعلم أيضا علم الإقرار من العبد نفسه؛ لأن الله لو حكم على العباد بما علم أزلا، لقال العبد: كنت سأفعل ما يطلبه المنهج يا رب. لذلك يترك الحق الاختيار للبشر ليعلموا على ضوء اختياراتهم ويكون العمل إقرارا بما حدث منهم...