9- اذكروا - أيها المؤمنون ، وأنتم تتقاسمون الغنائم وتختلفون - الوقت الذي كنتم تتجهون فيه إلى الله تعالى ، طالبين منه الغوث والمعونة ، إذ كتب عليكم أنه لا خلاص من القتال ، فأجاب الله دعاءكم ، وأمدَّكم بملائكة كثيرة تبلغ الألف متتابعة ، يجئ بعضها وراء بعض{[72]} .
قوله تعالى : { إذ تستغيثون ربكم } ، تستجيرون به من عدوكم ، وتطلبون منه الغوث والنصر . روي عن ابن عباس قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، وهم ألف ، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، دخل العريش هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ، واستقبل القبلة ، ومد يده ، فجعل يهتف بربه عز وجل : ( اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض ) ، فما زال يهتف بربه عز وجل ماداً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأخذ أبو بكر رداءه فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك . فأنزل الله عز وجل { إذ تستغيثون ربكم } .
قوله تعالى : { فاستجاب لكم أني ممدكم } ، مرسل إليكم مدداً وردءاً لكم .
قوله تعالى : { بألف من الملائكة مردفين } ، قرأ أهل المدينة ويعقوب ( مردفين ) مفتح الدال ، أي : أردف الله المسلمين ، وجاء بهم مدداً ، وقرأ الآخرون بكسر الدال ، أي : متتابعين بعضهم في أثر بعض ، يقال : أردفته بمعنى تبعته . يروى أنه نزل جبريل في خمسمائة ، وميكائيل في خمسمائة في صورة الرجال ، على خيل بلق ، عليهم ثياب بيض ، وعلى رؤوسهم عمائم بيض ، قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ناشد ربه عز وجل ، وقال أبو بكر : إن الله منجز لك ما وعدك ، خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه ، فقال : يا أبا بكر أتاك نصر الله ، هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا إبراهيم بن موسى ، ثنا عبد الوهاب ، ثنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : ( هذا جبريل آخذ برأس فرسه ، عليه أداة الحرب ) .
وقال عبد الله بن عباس : كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض ، ويوم حنين عمائم خضر ، ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام ، وكانوا يكونون فيما سواه عدداً ومدداً .
وروي عن أبي أسيد بن مالك بن ربيعة قد شهد بدراً أنه قال بعدما ذهب بصره : لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة .
ثم يمضي السياق في استحضار جو المعركة وملابساتها ومواقفها ، حيث يتجلى كيف كانت حالهم ، وكيف دبر الله لهم ، وكيف كان النصر كله وليد تدبير الله أصلاً . . . والتعبير القرآني الفريد يعيد تمثيل الموقف بمشاهده وحوادثه وانفعالاته وخفقاته ، ليعيشوه مرة أخرى ، ولكن في ضوء التوجيه القرآني ، فيروا أبعاده الحقيقية التي تتجاوز بدراً ، والجزيرة العربية ، والأرض كلها ؛ وتمتد عبر السماوات وتتناول الملأ الأعلى ؛ كما أنها تتجاوز يوم بدر ، وتاريخ الجزيرة العربية ، وتاريخ البشرية في الأرض ، وتمتد وراء الحياة الدنيا ، حيث الحساب الختامي في الآخرة والجزاء الأوفى ، وحيث تشعر العصبة المسلمة بقيمتها في ميزان الله ، وقيمة أقدارها وأعمالها وحركتها بهذا الدين ومقامها الأعلى : ( إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى ، ولتطمئن به قلوبكم ، وما النصر إلا من عند الله ، إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام . إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، فاضربوافوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب . ذلكم فذوقوه ، وأن للكافرين عذاب النار ) . .
إنها المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته ، وتدبيره وقدره ؛ وتسير بجند الله وتوجيهه . . وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان ، كأنه يكون الآن !
فأما قصة الاستغاثة فقد روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي [ ص ] إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة . فاستقبل النبي [ ص ] القبلة ، وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : " اللهم أنجز لي ما وعدتني . اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً " قال : فما زال يستغيث ربه ويدعوه ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) . .
وتروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر : عددهم . وطريقة مشاركتهم في المعركة . وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين . . . ونحن - على طريقتنا في الظلال - نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المستيقنة من قرآن أو سنة . والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) . . فهذا عددهم . . ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) . . فهذا عملهم . . ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية . . وبحسبنا أن نعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم ، وهي قلة والأعداء كثرة . وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيه الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله - سبحانه - في كلماته . .
قال البخاري : باب شهود الملائكة بدراً : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال : جاء جبريل إلى النبي [ ص ] فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ? قال : " من أفضل المسلمين " - أو كلمة نحوها - قال : " وكذلك من شهد بدراً من الملائكة " . . . [ انفرد بإخراجه البخاري ] . . .
( إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح قُرَاد ، حدثنا عكرمة بن عَمَّار ، حدثنا سماك الحَنَفي أبو زُميل ، حدثني ابن عباس{[12681]} حدثني عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : لما كان يوم بدر نظر النبي{[12682]} صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ، وهم ثلاثمائة ونَيّف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ، ثم مد يديه ، وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : " اللهم أين ما وعدتني ، اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا " ، قال : فما زال يستغيث ربه [ عز وجل ]{[12683]} ويدعوه حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا رسول الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله ، عز وجل : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } فلما كان يومئذ والتقوا ، فهزم الله المشركين ، فقُتِل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليًّا وعمر{[12684]} فقال أبو بكر : يا رسول الله ، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان ، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذناه منهم قُوَّةً لنا على الكفار ، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عَضُدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ترى يا ابن الخطاب ؟ " قال : قلت : والله ما أرى ما رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تُمْكنَني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه ، وتُمكن عليًّا من عقيل فيضربَ عنقه ، وتُمكن حمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس{[12685]} في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ، فَهَوَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت ، وأخذ منهم الفداء ، فلما كان من الغد - قال عمر - غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ، [ أخبرني ]{[12686]} ما{[12687]} يبكيك أنت وصاحبك ، فإن وجدتُ بكاء بَكَيتُ ، وإن لم أجد بكاء تَبَاكيتُ لبكائكما ! قال النبي صلى الله عليه وسلم : " للذي عَرض على أصحابك من أخذهم الفداء ، قد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة " ، وأنزل الله [ عز وجل ]{[12688]} { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ }
إلى قوله : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } [ الأنفال : 67 ، 68 ] من الفداء ، ثم أحل لهم الغنائم ، فلما كان يوم أحد من العام المقبل ، عوقبوا مما صنعوا يوم بدر ، من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون ، وفَرَّ أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكسرت ربَاعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[12689]} { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 165 ] بأخذكم الفداء . .
ورواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن مَرْدُويه ، من طرق عن عكرمة بن عمار ، به . وصححه علي بن المديني والترمذي ، وقالا لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني{[12690]}
وهكذا رَوَى علي بن أبي طلحة والعَوْفي ، عن ابن عباس : أن هذه الآية الكريمة قوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ] }{[12691]} أنها في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال يزيد{[12692]} بن يُثيَع ، والسُّدِّي ، وابن جريج .
وقال أبو بكر بن عياش ، عن أبي حُصَين ، عن أبي صالح قال : لما كان يوم بدر ، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد النِّشدة يدعو ، فأتاه عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، بعض{[12693]} نِشْدَتِك ، فوالله ليفيَن الله لك بما وعدك{[12694]}
وقال البخاري في " كتاب المغازي " ، باب قول الله عز وجل : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } إلى قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا إسرائيل ، عن مُخَارق ، عن طارق بن شهاب قال : سمعت ابن مسعود يقول : شهدت من المقداد بن الأسود مَشْهدًا لأن أكون صاحبه أحبَّ إلي مما عدل به : أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين ، فقال : لا نقول{[12695]} كما قال قوم موسى لموسى : { اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } [ المائدة : 24 ]ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ، وبين يديك وخلفك ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره - يعني قوله{[12696]}
وحدثنا محمد بن عبد الله بن حَوْشَب ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا خالد الحَذَّاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : " اللهم أنشدك عَهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تُعْبَد " ، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال : حسبك ! فخرج وهو يقول : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] .
ورواه النسائي عن بُندار عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي{[12697]}
وقوله تعالى : { بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } أي : يُرْدفُ بعضُهم بعضًا ، كما قال هارون بن عنترة{[12698]} عن ابن عباس : { مُرْدِفِينَ } متتابعين .
ويحتمل أن [ يكون ]{[12699]} المراد { مُرْدِفِينَ } لكم ، أي : نجدة لكم ، كما قال العوفي ، عن ابن عباس : { مُرْدِفيِنَ } يقول : المدَدَ ، كما تقول : ائت الرجل فزده كذا وكذا .
وهكذا قال مجاهد ، وابن كثير القارئ ، وابن زيد : { مُرْدِفِينَ } ممدين .
وقال أبو كُدَيْنة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } قال : وراء كل ملك ملك .
وفي رواية بهذا الإسناد : { مُرْدِفِينَ } قال : بعضهم على أثر بعض . وكذا قال أبو ظِبْيَان ، والضحاك ، وقتادة .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، حدثني عبد العزيز بن عمران ، عن الزَّمْعِي ، عن أبي الحويرث ، عن محمد بن جُبَيْر ، عن علي رضي الله عنه ، قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا في الميسرة .
وهذا يقتضي - لو صح إسناده - أن الألف مردفة بمثلها ؛ ولهذا قرأ بعضهم : " مُرْدَفِين " بفتح الدال ، فالله أعلم .
والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مُجَنِّبة ، وميكائيل في خمسمائة مُجَنِّبة .
وروى الإمام أبو جعفر بن جرير ، ومسلم ، من حديث عكرمة بن عمار ، عن أبي زُمَيل سِمَاك بن وليد الحَنَفي ، عن ابن عباس ، عن عمر ، الحديث المتقدم . ثم قال أبو زُمَيل{[12700]} حدثني{[12701]} ابن عباس قال : بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوتَ الفارس يقول : " أقدم حَيْزُوم{[12702]} إذ نظر إلى المشرك أمامه ، فخر مستلقيا قال : فنظر إليه ، فإذا هو قد خُطِم أنفه ، وشُقَّ وجهه كضربة السوط ، فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " صدقتَ ، ذلك{[12703]} من مَدَد السماء الثالثة " ، فقَتَلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين .
وقال البخاري : " باب شهود الملائكة بدرا " : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رِفاعة بن رافع الزُّرَقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : " من أفضل المسلمين " - أو كلمة نحوها - قال : " وكذلك من شهد بدرا من الملائكة .
انفرد بإخراجه البخاري{[12704]} وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خَدِيج ، وهو خطأ{[12705]} والصواب رواية البخاري ، والله [ تعالى ]{[12706]} أعلم .
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بَلْتَعَة : " إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد{[12707]} غفرت لكم " {[12708]}
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : ويبطل الباطل حين تستغيثون ربكم ، ف «إذا » من صلة «يبطل » ومعنى قوله : تسْتَغيثونَ رَبّكُمْ : تستجيرون به من عدوّكم ، وتدعونه للنصر عليهم . فاسْتَجابَ لَكُمْ يقول : فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من الملائكة يُردف بعضهم بعضا ويتلو بعضهم بعضا .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل وجاءت الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الأخبار بذلك .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عكرمة بن عمار ، قال : ثني سماك الحنفي ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وعدتهم ، ونظر إلى أصحابه نيفا على ثلاث مئة ، فاستقبل القبلة ، فجعل يدعو ويقول : «اللهمّ أنْجِزْ لي ما وَعَدَتْني اللّهُمّ إنْ تَهْلِكَ هَذهِ العِصَابَةُ مِنْ أهْلِ الإسْلامِ ، لا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ » فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ، وأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فوضع رداءه عليه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : كفاك يا نبيّ الله بأبي وأمي مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله : إذْ تَسْتَغِثُونَ رَبّكُمْ فاسْتَجابَ لَكُمْ أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : لما اصطفّ القوم ، قال أبو جهل : اللهمّ أولانا بالحقّ فانصره ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، فقال : «يا رَبّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الأرْضِ أبَدا » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «اللّهُمّ رَبّنا أنْزَلْتَ عَليّ الكِتابَ ، وأمَرْتَنِي بالقِتالِ ، وَوَعَدْتَنِي بالنّصْرِ ، وَلا تُخْلِفُ المِيعادَ » فأتاهُ جِبرِيل عليه السلام ، فأنزل الله : ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا وَيأتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن ابن إسحاق ، عن زيد بن يُثَيْع قال : كان أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو ، يقول : «اللّهُمّ انْصُرْ هَذِهِ العِصَابَةَ ، فإنّكَ إنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنْ تُعْبَدَ في الأرْض » قال : فقال أبو بكر : بَعْضَ مناشدتك منجزك ما وعدك .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويستغيثه ويستنصره ، فأنزل الله عليه الملائكة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ قال : دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ : أي بدعائكم حين نظروا إلى كثرة عدوّهم وقلة عددهم ، فاستجاب لكم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائكم معه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، قال : لما كان يوم بدر ، جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشدّ النشدة ، يدعو فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا رسول الله بعض نشدتك ، فوالله ليفينّ الله لك بما وعدك .
وأما قوله : أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ فقد بينا معناه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ يقول : المزيد ، كما تقول : ائت الرجل فزده كذا وكذا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أحمد بن بشير ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس : مُرْدِفِينَ قال : متتابعين .
قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن هارون بن عنترة ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ قال : وراء كلّ ملك ملك .
حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : مُرْدِفِينَ قال : متتابعين .
قال : حدثنا هانىء بن سعيد ، عن حجاج بن أرطأة ، عن قابوس ، قال : سمعت أبا ظبيان يقول : مُرْدِفِينَ قال : الملائكة بعضهم على إثر بعض .
قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : مُرْدِفِينَ قال : بعضهم على إثر بعض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : مُرْدِفِينَ قال : ممدين . قال ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير قال : مُرْدِفِينَ الإرداف : الإمداد بهم .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي متتابعين .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ يتبع بعضهم بعضا .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مُرْدِفِينَ قال : المردفين بعضهم على إثر بعض ، يتبع بعضهم بعضا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ يقول : متتابعين يوم بدر .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة : «مُرْدَفِينَ » بنصب الدال . وقرأه بعض المكيين وعامّة قرّاء الكوفيين والبصريين : مُرْدِفِينَ . وكان أبو عمرو يقرؤه كذلك ، ويقول فيما ذُكر عنه : هو من أردف بعضهم بعضا . وأنكر هذا القول من قول أبي عمرو بعض أهل العلم بكلام العرب ، وقال : إنما الإرداف : أن يحمل الرجل صاحبه خلفه ، قال : ولم يسمع هذا في نعت الملائكة يوم بدر .
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى ذلك إذا قرىء بفتح الدال أو بكسرها ، فقال بعض البصريين والكوفيين : معنى ذلك إذا قرىء بالكسر أن الملائكة جاءت يتبع بعضهم بعضا على لغة من قال : أردفته وقالوا : العرب تقول : أردفته وردفته ، بمعنى : تبعته وأتبعته . واستشهد لصحة قولهم ذلك بما قال الشاعر :
إذَا الجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثّرَيّا ***ظَنَنْتُ بِآلِ فاطِمَة الظّنُونا
قالوا : فقال الشاعر : «أردفت » ، وإنما أراد «ردفتُ » جاءت بعدها ، لأن الجوزاء تجىء بعد الثريا . وقالوا معناه إذا قرىء مُرْدَفِينَ أنه مفعول بهم ، كأن معناه : بألف من الملائكة يُردف الله بعضهم بعضا .
وقال آخرون : معنى ذلك إذا كسرت الدال : أردفت الملائكة بعضها بعضا ، وإذا قرىء بفتحها : أردف الله المسلمين بهم .
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأ : بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ بكسر الدال لإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من تأويلهم أن معناه : يتبع بعضهم بعضا ومتتابعين . ففي إجماعهم على ذلك من التأويل الدليل الواضح على أن الصحيح من القراءة ما اخترنا في ذلك من كسر الدال ، بمعنى : أردف بعض الملائكة بعضا ، ومسموع من العرب : جئت مِرْدِفا لفلان : أي جئت بعده .
وأما قول من قال : معنى ذلك إذا قرىء «مُرْدَفِينَ » بفتح الدال : أن الله أردف المسلمين بهم ، فقول لا معنى له إذ الذكر الذي في مردفين من الملائكة دون المؤمنين .
وإنما معنى الكلام : أن يمدّكم بألف من الملائكة يردَف بعضهم ببعض ، ثم حذف ذكر الفاعل ، وأخرج الخبر غير مسمى فاعله ، فقيل : مُرْدَفِينَ بمعنى : مردَف بعضُ الملائكة ببعض ، ولو كان الأمر على ما قاله من ذكرنا قوله وجب أن يكون في المردَفين ذكر المسلمين لا ذكر الملائكة ، وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر القرآن .
وقد ذكر في ذلك قراءة أخرى ، وهي ما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : قال عبد الله بن يزيد : «مُرْدِفِينَ » ، ومُرْدَفِينَ و «مُرْدّفِينَ » ، مثقل على معنى : مُرْتَدِفين .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، قال : ثني عبد العزيز بن عمران عن الربعي ، عن أبي الحويرث ، عن محمد بن جبير ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفيها أبو بكر رضي الله عنه ، ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأنا فيها .
{ إذ تستغيثون ربكم } بدل من { إذ يعدكم } أو متعلق بقوله { ليحق } بقوله { ليحق الحق } ، أو على إضمار اذكر ، واستغاثتهم أنهم لما علموا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون : أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه عليه السلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو : " اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فقال أبو بكر يا نبي الله : كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك . { فاستجاب لكم أني مُمدّكم } بأني ممدكم ، فحذف الجار وسلط عليه الفعل وقرأ أبو عمرو بالكسر على إرادة القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول . { بألف من الملائكة مردفين } متبعين المؤمنين أو بعضهم بعضا من أردفته أنا إذا جئت بعده ، أو متبعين بعضهم بعض المؤمنين ، أو أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه . وقرأ نافع ويعقوب " مُرِدفين " بفتح الدال أي متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم . وقرئ { مُرِدفين } بكسر الراء وضمها وأصله مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاء في الدال فالتقى ساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على الاتباع . وقرئ " بآلاف " ليوافق ما في سورة " آل عمران " ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة ، أو وجوههم وأعيانهم ، أو من قاتل منهم واختلف في مقاتلتهم وقد روي أخبار تدل عليها .
وقوله : { إذ تستغيثون ربكم } الآية ، { إذ } متعلقة بفعل ، تقديره واذكر إذ وهو الفعل الأول الذي عمل في قوله { وإذ يعدكم } [ الأنفال الآية : 7 ] وقال الطبري : هي متعلقة ب { يحق . . ويبطل } .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يعمل فيها { يعدكم } [ الأنفال : 7 ] فإن الوعد كان في وقت الاستغاثة ، وقرأ أبو عمرو بإدغام الذال في التاء واستحسنها أبو حاتم ، و { تستغيثون } معناه تطلبون ، وليس يبين من ألفاظ هذه الآية أن المؤمنين علموا قبل القتال بكون الملائكة معهم ، فإن استجاب يمكن أن يقع في غيبه تعالى ، وقد روي أنهم علموا ذلك قبل القتال ، ومعنى التأنيس وتقوية القلوب يقتضي ذلك ، وقرأ جمهور الناس «أني » بفتح الألف ، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر بخلاف عنه «إني » بكسر الألف أي قال إني ، و { ممدكم } أي مكثركم ومقويكم من أمددت . وقرأ جمهور الناس «بألف » وقرأ عاصم الجحدري «بآلف »{[5227]} على مثل فلس وأفلس فهي جمع ألف ، والإشارة بها إلى الآلاف المذكورة في آل عمران{[5228]} ، وقرأ عاصم الجحدري أيضاً «بآلاف » و { مردفين } معناه متبعين ، ويحتمل أن يراد المردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة ف { مردفين } على هذا حال من الضمير في قوله { ممدكم } ويحتمل أن يراد به الملائكة أي أردف بعضهم بعض غير نافع «مردِفين » بكسر الدال وهي قراءة الحسن ومجاهد والمعنى فيها تابع بعضهم بعضاً{[5229]} وروي عن ابن عباس خلف كل ملك ملك ، وهذا معنى التتابع يقال ردف وأردف إذا أتبع وجاء بعد الشيء ، ويحتمل أن يراد مردفين المؤمنين .
ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم بعضاً ، ومن قال «مردفين » بمعنى أن كل ملك أردف ملكاً وراءه فقول ضعيف لم يأت بمقتضاه رواية ، وقرأ رجل من أهل مكة رواه عنه الخليل «مرَدِّفين » بفتح الراء وكسر الدال وشدها .
وروي عن الخليل أنها بضم الراء كالتي قبلها وفي غير ذلك ، وقرأ بعض الناس بكسر الراء مثلهما في غير ذلك ، حكى ذلك أبو عمرو عن سيبويه ، وحكاه أبو حاتم قال : كأنه أراد مرتدفين فأدغم وأتبع الحركة ، ويحسن مع هذه القراءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة ، وأنشد الطبري شاهداً على أن أردف بمعنى جاء تابعاً قول الشاعر [ خزيمة بن مالك ] : [ الوافر ]
إذا الجوزاءُ أردَفَتِ الثّريَا*** ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونا{[5230]}
والثريا تطلع قبل الجوزاء وروي في الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر ، واختلف في غيره من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل : لم تقاتل يوم بدر وإنما وقفت وحضرت وهذا ضعيف ، وحكى الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : نزل جبريل في ألف ملك على ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف ملك في المسيرة وأنا فيها ، وقال ابن عباس : كانا في خمسمائة خمسمائة ، وقال الزجّاج : قال بعضهم : إن الملائكة خمسة آلاف ، وقال بعضهم : تسعة آلاف ، وفي هذا المعنى أحاديث هي مستوعبة في كتاب السير .
يتعلق ظرف { إذ تستغيثون ربكم } بفعل { يريد الله } [ الأنفال : 7 ] لأن إرادة الله مستمر تعلقها بأزمنة منها زمانُ استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمينَ ربّهم على عدوهم ، حين لقائهم مع عدوهم يومَ بدر ، فكانت استجابة الله لهم بإمدادهم بالملائكة ، من مظاهر إرادته تحقيقَ الحق فكانت الاستغاثةُ يوم القتال في بدر وإرادة الله أن يُحِق الحق حصلت في المدينة يوم وعَدَهم الله إحدى الطائفتين ، ورشح لهم أن تكون إحدى الطائفتين ذات الشوكة ، وبيْنَ وقت الإرادة ووقت الاستغاثة مدةَ أيام ، ولكن لما كانت الإرادة مستمرة إلى حين النصر يوم بدر صح تعليق ظرف الاستغاثة بفعلها ، لأنه اقترن ببعضها في امتدادها ، وهذا أحسن من الوجوه التي ذكروها في متعلق هذا الظرف أو موقعه .
وقد أشارت الآية إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب قال « نظر نبيء الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فاستقبل نبيء الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه : اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تَهْلك هذه العصابة من أهل الإسلام ( لا ) تُعَبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادّاً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمَه من ورائه فقال يا نبيء الله كفَاك مُناشَدَةُ ربّك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردَفين } أي فأنزل الله في حكاية تلك الحالة . وعلى هذه الرواية يكون ضمير { تستغيثون } مراداً به النبي صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بضمير الجماعة لأنه كان يدعو لأجلهم ، ولأنه كان معلنا بدعائه وهم يسمعونه ، فهم بحال من يدعون ، وقد جاء في « السيرة » أن المسلمين لما نزلوا ببدر ورأوا كثرة المشركين استغاثوا الله تعالى فتكون الاستغاثة في جميع الجيش والضمير شاملاً لهم .
والاستغاثة : طلب الغوث ، وهو الإعانة على رفع الشدة والمشقة ولما كانوا يومئذ في شدة ودعوا بطلب النصر على العدو القوي كان دعاؤهم استغاثة .
{ فاستجاب لكم } أي وعدكم بالإغاثة .
وفعل استجاب يدل على قبول الطلب ، والسين والتاء فيه للمبالغة أي تحقيق المطلوب .
وقوله : { أني ممدكم بألف من الملائكة } هو الكلام المستجاب به ولذلك قدره في « الكشاف » بأن أصله بأني ممدكم أي فحذف الجار وسلط عليه { استجاب } فنصب محله .
وأرى أن حرف ( أن ) المفتوحة الهمزة المشددة النون إذا وقعت بعد ( ما ) فيه معنى القول دون حروفه أن تكون مفيدة للتفسير مع التأكيد كما كانت تفيد معنى المصدرية مع التأكيد ، فمن البيّن أن ( أن ) المفتوحة الهمزة مركبة من ( أنْ ) المفتوحة الهمزة المخففة النون المصدرية في الغالب ، يجوز أن يُعتبر تركيبها من ( أنْ ) التفسيرية إذا وقعت بعد ( ما ) فيه معنى القول دون حروفه ، وذلك مظنة ( أن ) التفسيرية ، وأعْتضِدُ بما في « اللسان » من قول الفراء : « إذا جاءت [ أن : ] بعد القول وما تصرف من القول كانت حكاية ، فلم يقع عليها ( أي القول ) فهي مكسورة ، وإن كانت تفسيراً للقول نصبتَها ومثله : قد قلت لك كلاماً حسناً أن أباك شريف ، فتحتَ أن لأنها فسرت الكلام .
قلت : ووقوع ( أن ) موقع التفسير كثير : في الكلام . وفي القرآن ، ومنه قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] الآية ، ومن تأمل بإنصاف وجد متانة معنى قوله : { أني ممدكم بألف من الملائكة } في كون ( أن ) تفسيرية ، دون كونها مجرورة بحرف جر محذوف . مع أن معنى ذلك الحرف غير بين .
والإمداد إعطاء المدد وهو الزيادة من الشيء النافع .
وقرأ نافع ، وأبو جعفر ، ويعقوب : بفتح الدال من { مردَفين } أي يَرِدُ فهم غيرُهم من الملائكة ، وقرأ البقية : بكسر الدال أي تكون الألف رادِفاً لغيرهم قبلَهم .
والإرداف الإتباع والإلحاق فيكون الوعد بألف وبغيرها على ما هو متعارف عندهم من إعداد نجدة للجيش عند الحاجة تكون لهم مدداً ، وذلك أن الله أمدهم بآلاف من الملائكة بلغوا خمسة آلاف كما تقدم في سورة آل عمران ، ويجوز أن يكون المراد بألف هنا مطلق الكثرة فيفسره قوله : { بثلاثة آلافٍ } في سورة آل عمران ( 124 ) ، وهم مردَفون بألفين ، فتلك خمسة آلاف ، وكانت عادتهم في الحرب إذا كان الجيش عظيماً أن يبعثوا طائفة منه ثم يعقبوها بأخرى لأن ذلك أرهب للعدو .
ويوجه سيوفهم ، وحلول الملائكة في المسلمين كان بكيفية يعلمها الله تعالى : إما بتجسيم المجردات فيراهم من أكرمه الله برؤيهم ، وإما بإراءة الله الناس ما ليس من شأنه أن يُرى عادة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
... {إذ تستغيثون} في النصر، {فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة} يوم بدر، {مردفين} [آية:9] يعنى متتابعين...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويبطل الباطل حين تستغيثون ربكم، ف «إذا» من صلة «يبطل» ومعنى قوله:"تسْتَغيثونَ رَبّكُمْ": تستجيرون به من عدوّكم، وتدعونه للنصر عليهم. "فاسْتَجابَ لَكُمْ "يقول: فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من الملائكة يُردف بعضهم بعضا ويتلو بعضهم بعضا...
حدثني محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عكرمة بن عمار، قال: ثني سماك الحنفي، قال: سمعت ابن عباس يقول: ثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وعدتهم، ونظر إلى أصحابه نيفا على ثلاث مئة، فاستقبل القبلة، فجعل يدعو ويقول: «اللهمّ أنْجِزْ لي ما وَعَدَتْني اللّهُمّ إنْ تَهْلِكَ هَذهِ العِصَابَةُ مِنْ أهْلِ الإسْلامِ، لا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ» فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه، وأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فوضع رداءه عليه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: كفاك يا نبيّ الله بأبي وأمي مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله: "إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فاسْتَجابَ لَكُمْ أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ"...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والاستغاثة: طلب المعونة وهو سد الخلة في وقت شدة الحاجة... والاستجابة: موافقة المسألة بالعطية...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الاستغاثة على حسب شهود الفاقة وعدم المنة والطاقة. والتحقق بانفراد الحق بالقدرة على إزالة الشكاة تيسيرٌ للمسؤول وتحقيق للمأمول. فإذا صدقت الاستغاثة بتَعَجُّل الإجابة حَصُلَتْ الآمالُ وقُضِيَتْ الحاجة.. بذلك جَرَتْ سُنَّتُه الكريمة...
ويقال بَشَرَّهم بالإمداد بالمَلَك، ثم رقَّاهم عن هذه الحالة بإشهادهم أن الإنجاز من المَلِكِ، ولم يَذرْهم في المساكنة إلى الإمداد بالمَلَك فقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} ثم قال: {إنَّ اللهَ عَزِيزٌ} فالنجاة من البلاء حاصلة، وفنون الإنجاز والإمداد بالطاقة متواصلة، والدعوات مسموعة، والإجابة غير ممنوعة، وزوائد الإحسان مُتَاحة، ولكن الله عزيز. الطالبُ واجدٌ ولكن بعطائه، والراغب واصل ولكن إلى مبارِّه. والسبيلُ سهلٌ ولكن إلى وجدان لطفه،...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {تستغيثون} معناه تطلبون، وليس يبين من ألفاظ هذه الآية أن المؤمنين علموا قبل القتال بكون الملائكة معهم، فإن استجاب يمكن أن يقع في غيبه تعالى، وقد روي أنهم علموا ذلك قبل القتال، ومعنى التأنيس وتقوية القلوب يقتضي ذلك...
القول الأول: أن هذه الاستغاثة كانت من الرسول عليه السلام. قال ابن عباس...
القول الثاني: أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلا فيهم، بل خوفهم كان أشد من خوف الرسول، فالأقرب أنه دعا عليه السلام وتضرع على ما روي، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه تابعين له في الدعاء في أنفسهم فنقل دعاء رسول الله لأنه رفع بذلك الدعاء صوته، ولم ينقل دعاء القوم، فهذا هو طريق الجمع بين الروايات المختلفة في هذا الباب...
قوله: {إذ تستغيثون} أي تطلبون الإغاثة يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني...
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
و {مُمِدُّكُم} أي: مكثركم، ومقويكم...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
(هذا ومن باب الإشارة): {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} بالبراءة عن الحول والقوة والانسلاخ عن ملابس الأفعال والصفات النفسية {فاستجاب لَكُمْ} عند ذلك {أَنّي مُمِدُّكُمْ} من عالم الملكوت لمشابهة قلوبكم إياه حينئذ {بِأَلْفٍ مّنَ الملائكة} أي القوى السماوية وروحانياتها {مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] لملائكة أخرى وهو إجمال ما في آل عمران...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
روى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رادءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل تعالى: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون) الخ، وأما البخاري فروى عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر (اللهم أني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد) فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك، فخرج وهو يقول: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 45]. وعن سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين فاستقلهم فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته (اللهم لا تودّع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تتركني اللهم أنشدك ما وعدتني) وعن ابن إسحاق في سيرته أنه صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم هذه قريش أتت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني).
وقد استشكل ما ظهر من خوف النبي صلى الله عليه وسلم مع وعد الله له بالنصر عاما وخاصا ومن طمأنينة أبي بكر رضي الله عنه على خلاف ما كان ليلة الغار إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم آمنا مطمئنا متوكلا على ربه، وكان أبو بكر خائفا وجلا كما يدل عليه قوله عز وجل: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} [التوبة: 40]. قال الحافظ في الفتح قال الخطابي لا يجوز أن يتوهم أحد أن أبا بكر كان أوثق بربه من النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال، بل الحامل للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك شفقته على أصحابه وتقوية قلوبهم لأنه كان أول مشهد شهده فبالغ في التوجه والدعاء والابتهال لتسكن نفوسهم عند ذلك لأنهم كانوا يعلمون أن وسيلته مستجابة فلما قال له أبو بكر ما قال كف عن ذلك وعلم أنه استجيب له لما وجد أبو بكر في نفسه من القوة والطمأنينة فلهذا عقب بقوله: {سيهزم الجمع} انتهى ملخصا. (وقال غيره وكان النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة في مقام الخوف وهو أكمل حالات الصلاة، وجاز عنده أن لا يقع النصر يومئذ لأن وعده بالنصر لم يكن معينا لتلك الواقعة وإنما كان مجملا. هذا الذي يظهر، وزل من لا علم عنده ممن ينسب إلى الصوفية في هذا الموضع زللا شديدا فلا يلتفت إليه ولعل الخطابي أشار إليه. اهـ ما أورده الحافظ في الفتح فهو لم يطلع على أحسن منه على سعة اطلاعه.
وأقول يصح أن يكون من مقاصده صلى الله عليه وسلم من الدعاء يومئذ تقوية قلوب أصحابه وهو ما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالقوة المعنوية ولا خلاف بين العقلاء حتى اليوم في أنها أحد أسباب النصر والظفر، ولكن لا يصح أن يكون علم باستجابة الله له لما وجد أبو بكر في نفسه القوة والطمأنينة فعلمه صلى الله عليه وسلم بربه وبوقت استجابته له أقوى وأعلى من أن يستنبطه استنباطا من حال أبي بكر رضي الله عنه. وأما قول بعضهم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يومئذ في مقام الخوف فهو ظاهر ولكنه لم يبين معه سببه ولا كونه لا ينافي كمال توكله على ربه، وكونه فيه أعلى وأكمل من صاحبه بدرجات لا يعلوها شيء، وقد بينا ذلك بالتفصيل في تفسير {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون} [آل عمران: 110] وهي في سياق غزوة أحد ونعيد البحث مع زيادة فائدة فنقول إنه صلى الله عليه وسلم أعطى كل مقام حقه بحسب الحال التي كان فيها، فلما كان عند الخروج إلى الهجرة قد عمل مع صاحبه كل ما أمكنهما من الأسباب لها وهو إعداد الزاد والراحلتين والدليل والاستخفاء في الغار لم يبق عليهما إلا التوكل على الله تعالى والثقة بمعونته وتخذيل أعدائه فكان صلى الله عليه وسلم لكمال توكله آمنا مطمئنا بما أنزل الله عليه من السكينة وأيده به من أرواح الملائكة، وأبو بكر رضي الله عنه لم يرتق إلى هذه الدرجة فكان خائفا حزينا محتاجا إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم له. وأما يوم بدر فكان المقام فيه الخوف لا مقام التوكل المحض، وذلك أن التوكل الشرعي بالاستسلام لعناية الرب تعالى وحده إنما يصح في كل حال بعد اتخاذ الأسباب لها المعلومة من شرع الله ومن سننه في خلقه كما بيناه في تفسير قوله تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران: 159] من ذلك السياق ومن المعلوم بالقطع أن أسباب النصر والغلب في الحرب لم تكن تامة عند المسلمين في ذلك الوقت لا من الجهة المادية كالعدد والعدد والغذاء والعتاد والخيل والإبل بل لم يكن من هذه الجهة إلا شيئا ضعيفا، ولا من الجهة المعنوية لما تقدم من كراهة بعضهم للقتال وجدال النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
لهذا خشي صلى الله عليه وسلم أن يصيب أصحابه تهلكة على قلتهم لتقصيرهم في بعض الأسباب المعنوية فوق التقصير غير الاختياري في الأسباب المادية، فكان يدعو بأن لا يؤاخذهم الله تعالى بتقصير بعضهم في إقامة سننه عقابا لهم كما عاقبهم بعد ذلك في غزوة أحد ذلك العقاب المشار إليه بقوله تعالى: {أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} [آل عمران: 165]. وأما أبو بكر رضي الله عنه فلم يكن يعلم من ذلك كل ما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد رآه منزعجا خائفا فكان همه تسليته صلى الله عليه وسلم وتذكيره بوعد ربه لشدة حبه له، وفي الغار كان خائفا عليه ولكنه رآه مطمئنا فلم يحتج إلى تسليته بل كان صلى الله عليه وسلم هو المسلي له لما رأى من خوفه أن يعرض له ألم أو أذى. فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أعطى كل مقام حقه: مقام التوكل المحض بعد استيفاء أسباب اتقاء أذى المشركين عند الهجرة، ومقام الخوف على جماعة المؤمنين لما ذكرنا آنفا من كراهة بعضهم للقتال ومجادلتهم له فيه بعد ما تبين لهم أنه الحق الذي يريده الله تعالى بوعده إياهم إحدى الطائفتين. أجل، كان صلى الله عليه وسلم يعلم أن شؤون الاجتماع البشري كسائر أطوار العالم لله تعالى فيها سنن مطردة لا تتغير ولا تتبدل كما تكرر ذلك في السور المكية بوجه عام، ثم ذكر بشأن القتال خاصة في الكلام على غزوة أحد من سورة آل عمران المدنية {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا} [آل عمران: 137] ثم في سورة الأحزاب المدنية التي نزلت في غزوتها التي تسمى غزوة الخندق أيضا. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن سننه تعالى في القتال كسائر سننه في أنها لا تبديل لها ولا تحويل من قبل نزول ما أشرنا إليه في هاتين السورتين المدنيتين اللتين نزلتا بعد غزوة بدر فلذلك كان خوفه على المؤمنين عظيما. فإن قيل: كيف يصح هذا وقد وعده الله تعالى إحدى الطائفتين أنها تكون للمؤمنين وكشف له عن مصارع صناديد المشركين؟ فإذا كان قد جوز أن يكون وعده العام بالنصر له وللمؤمنين (وهو مكرر في السور المكية والمدنية وصرح في بعضها بأنه من سننه في رسله والمؤمنين بهم) غير معين أن يكون في هذه الغزوة كما قال بعض العلماء فلا يأتي مثل هذا الجواز في وعدهم إحدى الطائفتين فيها ولاسيما بعد أن نجت طائفة العير، انحصر الوعد في طائفة النفير، وبعد أن كشف تعالى له عن مصارع القوم؟ قلنا: أما كشف مصارع القوم له فالظاهر المتعين أنه كان عقب دعائه واستغاثته ربه، ولذلك تمثل بعده بقوله تعالى سورة القمر: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} [القمر: 45] وزال خوفه وصار يعين أمكنة تلك المصارع. وأما الوعد فسيأتي فيه أنه كان في زمن الاستغاثة والاستجابة فإن كان قبله فأمثل ما يقال فيه وأقواه ما قاله العلماء في كثير من وعود الكتاب والسنة المطلقة بالجزاء على بعض الأعمال بأنه مقيد بما تدل عليه النصوص الأخرى من الإيمان الصحيح واجتناب الكبائر، ومن ذلك أن الوعد المطلق بالنصر للرسل والمؤمنين في عدة آيات مقيد بما اشترط له في آيات أخرى، مثال الأول قوله تعالى في سورة المؤمن المكية {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [غافر: 51] وقوله في سورة الروم المكية أيضا: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} [الروم: 45].
ومثال الثاني قوله تعالى في الآيات التي أذن الله فيها للمؤمنين بالقتال دفاعا عن أنفسهم أول مرة وذلك في سورة الحج المدنية {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج: 40] وقوله بعد ذلك في سورة القتال (أو محمد) {يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} [محمد: 8] وقد سبق لنا بيان هذا المعنى في التفسير وإقامة الحجة به على المسلمين الجاهلين المغرورين والخرافيين الذين يتكلون في أمورهم على الصلحاء الميتين في قضاء حوائجهم بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في الأسباب والمسببات، حتى كأن قبورهم معامل للكرامات، يتهافت عليها الأفراد والجماعات، يدعون أصحابها خاشعين، ما لا يدعو به الموحدون إلا الله رب العالمين. كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المؤمنين. وجملة القول في هذا المقام أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يعلم بإعلام القرآن أن للنصر في القتال أسباب حسية ومعنوية، وأن لله تعالى فيها سننا مطردة، وأن وعد الله تعالى وآياته منها المطلق ومنها المقيد، وأن المقيد يفسر المطلق ولا يعارضه، ولا اختلاف ولا تعارض في كلام الله تعالى، وكان يعلم مع ذلك أن لله تعالى عناية وتوفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم بالقوة المعنوية، ويحفهم بالعناية الربانية، التي تكون بها القوة الروحانية، أجدر بالنصر من القوة المادية، وكان كل من علم بدعائه يؤمن عليه.
وكانوا يتأسون به في هذا الدعاء، فيستغيثون ربهم كما استغاثه وقد أسند الله إليهم ذلك وأجابهم إلى ما سألوا بقوله: {إذ تستغيثون ربكم} قيل إن هذا بدل من قوله تعالى: {وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم} وظاهر هذا أن زمن الوعد والاستغاثة والاستجابة واحد على اتساع فيه وحينئذ يرتفع الإشكال...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يمضي السياق في استحضار جو المعركة وملابساتها ومواقفها، حيث يتجلى كيف كانت حالهم، وكيف دبر الله لهم، وكيف كان النصر كله وليد تدبير الله أصلاً... والتعبير القرآني الفريد يعيد تمثيل الموقف بمشاهده وحوادثه وانفعالاته وخفقاته، ليعيشوه مرة أخرى، ولكن في ضوء التوجيه القرآني، فيروا أبعاده الحقيقية التي تتجاوز بدراً، والجزيرة العربية، والأرض كلها؛ وتمتد عبر السماوات وتتناول الملأ الأعلى...
وحيث تشعر العصبة المسلمة بقيمتها في ميزان الله، وقيمة أقدارها وأعمالها وحركتها بهذا الدين ومقامها الأعلى...المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته، وتدبيره وقدره؛ وتسير بجند الله وتوجيهه.. وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان، كأنه يكون الآن!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يتعلق ظرف {إذ تستغيثون ربكم} بفعل {يريد الله} [الأنفال: 7] لأن إرادة الله مستمر تعلقها بأزمنة منها زمانُ استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمينَ ربّهم على عدوهم، حين لقائهم مع عدوهم يومَ بدر، فكانت استجابة الله لهم بإمدادهم بالملائكة، من مظاهر إرادته تحقيقَ الحق فكانت الاستغاثةُ يوم القتال في بدر وإرادة الله أن يُحِق الحق حصلت في المدينة يوم وعَدَهم الله إحدى الطائفتين، ورشح لهم أن تكون إحدى الطائفتين ذات الشوكة، وبيْنَ وقت الإرادة ووقت الاستغاثة مدةَ أيام، ولكن لما كانت الإرادة مستمرة إلى حين النصر يوم بدر صح تعليق ظرف الاستغاثة بفعلها، لأنه اقترن ببعضها في امتدادها، وهذا أحسن من الوجوه التي ذكروها في متعلق هذا الظرف أو موقعه...
والإرداف الإتباع والإلحاق فيكون الوعد بألف وبغيرها على ما هو متعارف عندهم من إعداد نجدة للجيش عند الحاجة تكون لهم مدداً، وذلك أن الله أمدهم بآلاف من الملائكة بلغوا خمسة آلاف كما تقدم في سورة آل عمران، ويجوز أن يكون المراد بألف هنا مطلق الكثرة فيفسره قوله: {بثلاثة آلافٍ} في سورة آل عمران (124)، وهم مردَفون بألفين، فتلك خمسة آلاف، وكانت عادتهم في الحرب إذا كان الجيش عظيماً أن يبعثوا طائفة منه ثم يعقبوها بأخرى لأن ذلك أرهب للعدو. ويوجه سيوفهم، وحلول الملائكة في المسلمين كان بكيفية يعلمها الله تعالى: إما بتجسيم المجردات فيراهم من أكرمه الله برؤيهم، وإما بإراءة الله الناس ما ليس من شأنه أن يُرى عادة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وهذا تنبيه من كتاب الله إلى أن الرجوع إلى الله واستمداد عونه ونصره في مثل هذه المواقف- مواقف الدفاع عن الإسلام والتضحية في سبيله بالنفس والنفيس- أمر لا غنى عنه في كسب المعارك لمن يريد النصر ويسعى إليه. ومن أجل ذلك سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السنة: سنة الاستغاثة بالله والاستنصار بقوته، رجاء إمداده وإعانته، إذ لا غنى عنهما في سلم أو حرب، لقوي أو ضعيف...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}. فقد كان الجوّ يوحي بالتوتّر وينذر بالخوف، لأن ميزان القوّة لم يكن متعادلاً، بل كان يميل إلى جانب العدو...
.وكانت أول تجربة للمسلمين في المعارك بهذه الصفة، وكان جوّهم يوحي بالقوّة الروحية الواثقة بحقها من خلال الثقة بربها... ولكن هناك فرقاً بين الأسلوب الإيحائي بالقوة المادية، الذي يعبّر عن نفسه، باستعراض الأدوات التي تتحرك فيها القوّة، بأساليب التخويف والتهويل، وبين الأسلوب الإيحائي بالقوة الروحية الذي يعبر عن نفسه بالابتهال إلى الله، والرجوع إليه، والانسحاق بين يديه، والشعور بالحاجة إلى الإمداد الإلهي في ما يوحي به من الروح المطمئنة، والإرادة القوية، والشعور الهادئ، ولذلك كانت المعركة غير المتكافئة منطلقاً للأجواء الروحية التي انطلق المسلمون معها بقيادة الرسول للاستغاثة بالله، بعيداً عن كل الأجواء الاستعراضية. فقد كانوا في شغل شاغلٍ عن الفكرة التي توحي للمشركين بأنهم أقوياء، وكان همّهم الكبير أن يحصلوا على الإمداد الإلهي، ليحصلوا من خلاله على الشعور الداخلي بالقوّة، الذي يدفع بهم إلى الثبات والصمود والاندفاع في المعركة، ليكون ذلك هو الإيحاء الحقيقي للمشركين بالمعنى العميق للقوّة لدى المسلمين. إمداد المسلمين بألف من الملائكة مردفين وهذا ما أراد القرآن الكريم التعبير عنه في حديثه عن استغاثة المسلمين بالله. وقيل إن النبي قد بدأ ذلك لمّا نظر إلى كثرة عدد المشركين وقلَّة عدد المسلمين، فاستقبل القبلة وقال: اللهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما يزال يهتف لربّه ويداه ممدودتان حتى سقط رداؤه عن منكبيه. وكانت الاستجابة الإلهية بالألطاف الغيبية المتنوعة التي جعلتهم يعيشون حركة الواقع في أجواء الغيب. {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْملائِكَةِ مُرْدِفِينَ}. والإرداف هو أن يجعل الراكب ردفاً لغيره. «وبهذا المعنى تلائم الآية ما في قوله تعالى في ما يشير به إلى هذه القصة في سورة آل عمران: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْملائِكَةِ مُنزَلِينَ* بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ*وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 123 126]. فإن تطبيق الآيات من السورتين يوضح أن المراد بنزول ألف من الملائكة مردفين، نزول ألف منهم يستتبعون آخرين، فينطبق الألف المردفون على الثلاثة آلاف المنزلين» [2]. وهذا ما ذكره صاحب تفسير الميزان، ولعلَّ هذا أقرب من الوجوه الأخرى التي ذكرها المفسرون. وكانت هذه الاستجابة الإلهية مصدر قوّةٍ روحية كبيرة، في ما أثارته في نفوسهم حركة الملائكة في المعركة بما كانوا يحملونه في أفكارهم عن القوّة الغيبيّة التي يتمتع بها هؤلاء. ولكن الملائكة الذين أنزلهم الله إلى ساحة المعركة، لم تكن مهمتهم قتاليّةً، لأن الله لم يرد للمسلمين أن يستسلموا للاسترخاء، على أساس الاعتقاد بأن الملائكة جاءت لتقاتل بالنيابة عنهم. ولو كان الأمر كذلك، لما كانت هناك حاجةٌ ملحّةٌ لأيّة معركة وأيّ قتال، لأن القوة الغيبيّة كفيلةٌ بتصفية جميع الأعداء، بل كانت مهمتهم تطمينيةً نفسية،