قوله تعالى : { عفا الله عنها والله غفور رحيم قد سألها قوم من قبلكم } ، كما سألت ثمود صالحاً الناقة ، وسأل قوم عيسى المائدة .
قوله تعالى : { ثم أصبحوا بها كافرين } ، فأهلكوا ، قال أبو ثعلبة الخشني : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) .
فأما الاستفتاء عن مسائل لم تقع ، فهو استفتاء عن فرض غير محدد . وما دام غير واقع فإن تحديده غير مستطاع . والفتوى عليه حينئذ لا تطابقه لأنه فرض غيرمحدد . والسؤال والجواب عندئذ يحملان معنى الاستهتار بجدية الشريعة ؛ كما يحملان مخالفة للمنهج الإسلامي القويم .
ومثله الاستفتاء عن أحكام شريعة الله في أرض لا تقام فيها شريعة الله ، والفتوى على هذا الأساس ! . . إن شريعة الله لا تستفتى إلا ليطبق حكمها وينفذ . . فإذا كان المستفتي والمفتي كلاهما يعلمان أنهما في أرض لا تقيم شريعة الله ؛ ولا تعترف بسلطان الله في الأرض وفي نظام المجتمع وفي حياة الناس . . أي لا تعترف بألوهية الله في هذه الأرض ولا تخضع لحكمه ولا تدين لسلطانه . . فما استفتاء المستفتي ؟ وما فتوى المفتي ؟ إنهما - كليهما - يرخصان شريعة الله ، ويستهتران بها شاعرين أو غير شاعرين سواء !
ومثله تلك الدراسات النظرية المجردة لفقه الفروع وأحكامه في الجوانب غير المطبقة . . إنها دراسة للتلهية ! لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكانا في هذه الأرض التي تدرسه في معاهدها ولا تطبقه في محاكمها ! وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه ، ليخدر مشاعر الناس بهذا الإيهام !
إن هذا الدين جد . وقد جاء ليحكم الحياة . جاء ليعبد الناس لله وحده ، وينتزع من المغتصبين لسلطان الله هذا السلطان ، فيرد الأمر كله إلى شريعة الله ، لا إلى شرع أحد سواه . . وجاءت هذه الشريعة لتحكم الحياة كلها ؛ ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية وقضاياها ، ولتدلي بحكم الله في الواقعة حين تقع بقدر حجمها وشكلها وملابساتها .
ولم يجيء هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار . ولا لتكون شريعته موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة . ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع ، وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكاما فقهية في الهواء !
هذا هو جد الإسلام . وهذا هو منهج الإسلام . فمن شاء من " علماء " هذا الدين أن يتبع منهجه بهذا الجد فليطلب تحكيم شريعة الله في واقع الحياة . أو على الأقل فليسكت عن الفتوى والقذف بالأحكام في الهواء !
ثم قال : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } أي : قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قومٌ من قبلكم ، فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها ، فأصبحوا بها كافرين ، أي : بسببها ، أي : بينت لهم ولم{[10455]} ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد ، وإنما سألوا على وجه التعنت والعناد .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ ثُمّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : قد سأل الايات قوم من قبلكم : فلما آتاهموها الله ، أصبحوا بها جاحدين منكرين أن تكون دلالة على حقيقة ما احتجّ بها عليهم ، وبرهانا على صحة ما جعلت برهانا على تصحيحه ، كقوم صالح الذين سألوا الاية فلما جاءتهم الناقة آية عقروها ، وكالذين سألوا عيسى مائدة تنزل عليهم من السماء : فلما أُعْطُوها كفروا بها وما أشبه ذلك ، فحذّر الله تعالى المؤمنين بنبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلكوا سبيل مَن قبلهم من الأمم التي هلكت بكفرهم بآيات الله لما جاءتهم عند مسألتهموها ، فقال لهم : لا تسألوا الايات ، ولا تبحثوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ، فقد سأل الايات من قبلكم قوم فلما أوتوها أصبحوا بها كافرين . كالذي :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ " نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة ، فأصبحوا بها كافرين ، فنهى الله عن ذلك .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " قَدْ سأَلهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ " قد سأل الايات قوم من قبلكم ، وذلك حين قيل له : غيّر لنا الصفا ذهبا .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( أنه عليه الصلاة والسلام كان يخطب ذات يوم وهو غضبان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال : لا أسأل عن شيء إلا أجبت ، فقال رجل : أين أبي فقال في النار ، وقال آخر من أبي فقال : حذافة وكان يدعى لغيره ) فنزلت .
{ قد سألها قوم } في الضمير للمسألة التي دل عليها تسألوا ولذلك لم يعد بعن أو لأشياء بحذف الجار . { من قبلكم } متعلق بسألها وليس صفة لقوم ، فإن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة ولا حالا منها ولا خبرا عنها . { ثم أصبحوا بها كافرين } أي بسببها حيث لم يأتمروا بما سألوا جحودا .
وقرأ عامة الناس «قد سَألها » بفتح السين ، وقرأ إبراهيم النخعي «قد سِألها » بكسر السين ، والمراد بهذه القراءة الإمالة ، وذلك على لغة من قالت ِسلت تسأل ، وحكي عن العرب هما يتساولان ، فهذا يعطي هذه اللغة هي من الواو لا من الهمزة{[4751]} فالإمالة إنما أريدت وساغ ذلك لانكسار ما قبل اللام في سلت كما جاءت الإمالة في خاف لمجيء الكسرة في خاء خفت ، ومعنى الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنيتات وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألتها قبلكم الأمم ثم كفروا بها ، قال الطبري كقوم صالح في سؤالهم الناقة وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدة . قال السدي : كسؤال قريش أن يجعل الله لهم الصفا ذهباً .
قال القاضي أبو محمد : وإنما يتجه في قريش مثالاً سؤالهم آية ، فلما شق لهم القمر كفروا ، وهذا المعنى إنما يقال لمن سأل النبي عليه السلام أين ناقتي ؟ وكما قال له الأعرابي ما في بطن ناقتي هذه ؟ فأما من سأله عن الحج أفي كل عام هو ؟ فلا يفسر قوله قد سألها قوم الآية بهذه الأمثلة بل بأن الأمم قديماً طلبت التعمق في الدين من أنبيائها ثم لم تف لما كلفت .