قوله تعالى : { ارجع إليهم } بالهدية ، { فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم } لا طاقة لهم ، { بها ولنخرجنهم منها } أي : من أرضهم وبلادهم وهي سبأ ، { أذلةً وهم صاغرون } ذليلون إن لم يأتوني مسلمين . قال وهب وغيره من أهل الكتب : فلما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان ، قالت : قد عرفت والله ما هذا بملك وما لنا به طاقة ، فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من سبعة قصور لها ، ثم أغلقت دونه الأبواب ، ووكلت به حراساً يحفظونه ، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها : احتفظ بما قبلك وسرير ملكي ، لا يخلص إليه أحد ولا يرينه حتى آتيك ، ثم أمرت منادياً ينادي في أهل مملكتها يؤذنهم بالرحيل ، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن ، تحت يدي كل قيل ألوف كثيرة . قال ابن عباس : وكان سليمان رجلاً مهيباً لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه ، فخرج يوماً فجلس على سرير ملكه ، فرأى رهجاً قريباً منه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : بلقيس وقد نزلت منا بهذا المكان ، وكان على مسيرة فرسخ من سليمان ، قال ابن عباس : وكان بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ ، فأقبل سليمان حينئذ على جنوده .
ثم يتبع هذا الاستنكار بالتهديد : ارجع إليهم بالهدية وانتظروا المصير المرهوب : ( فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها )جنود لم تسخر للبشر في أي مكان ، ولا طاقة للملكة وقومها بهم في نضال : ( ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون )مدحورون مهزومون .
ويسدل الستار على هذا المشهد العنيف وينصرف الرسل ، ويدعهم السياق لا يشير إليهم بكلمة كأنما قضي الأمر ، وانتهى الكلام في هذا الشأن .
{ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ } أي : بهديتهم ، { فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } أي : لا طاقة لهم بقتالهم ، { وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا } أي : من بلدهم ، { أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : مهانون مدحورون .
فلما رجعت إليها رسلُها بهديتها ، وبما قال سليمان ، سمعت وأطاعت هي وقومها ، وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة ، معظمة لسليمان ، ناوية متابعته في الإسلام . ولما تحقق سليمان ، عليه السلام ، قدومهم عليه ووفودهم إليه ، فرح{[22044]} بذلك وسَرّه .
وقوله : فَلَمّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أتُمِدّونَنِ بِمَالٍ .
إن قال قائل : وكيف قيل : فَلَمّا جاءَ سُلَيْمانَ فجعل الخبر في مجيء سليمان عن واحد ، وقد قال قبل ذلك فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ فإن كان الرسول كان واحدا ، فكيف قيل بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ وإن كانوا جماعة فكيف قيل : فَلَمّا جَاءَ سُليْمَانَ ؟ قيل : هذا نظير ما قد بيّنا قبل من إظهار العرب الخبر في أمر كان من واحد على وجه الخبر ، عن جماعة إذا لم يقصد قصد الخبر عن شخص واحد بعينه ، يُشار إليه بعينه ، فسمي في الخبر . وقد قيل : إن الرسول الذي وجّهته ملكة سبأ إلى سليمان كان أمرأً واحدا ، فلذلك قال : فلَمّا جاءَ سُلَيْمانَ يُراد به : فلما جاء الرسول سليمان واستدلّ قائلو ذلك على صحة ما قالوا من ذلك بقوله سليمان للرسول : ارْجِعْ إلَيْهِمْ وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله . فلما جاءوا سليمان على الجمع ، وذلك للفظ قوله : بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ فصلح الجمع للفظ والتوحيد للمعنى .
وقوله : قال أتُمِدّونَنِ بِمَالٍ يقول : قال سليمان لما جاء الرسول من قبل المرأة بهداياها : أتمدوننِ بمال . واختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قرّاء أهل المدينة «أتُمِدّنَنِي » بنونين ، وإثبات الياء . وقرأه بعض الكوفيين مثل ذلك ، غير أنه حذف الياء من آخر ذلك وكسر النون الأخيرة . وقرأه بعض قرّاء البصرة بنونين ، وإثبات الياء في الوصل وحذفها في الوقف . وقرأه بعض قرّاء الكوفة بتشديد النون وإثبات الياء . وكلّ هذه القراءات متقاربات وجميعها صواب ، لأنها معروفة في لغات العرب ، مشهورة في منطقها . )
وقوله : فَمَا آتانِيَ اللّهُ خَيْرٌ ممّا آتاكُمْ يقول : فما آتاني الله من المال والدنيا أكثر مما أعطاكم منها وأفضل بَلْ أنْتُمْ بِهَدِيّتِكُمْ تَفْرَحُونَ يقول : ما أفرح بهديتكم التي أهديتم إليّ ، بل أنتم تفرحون بالهدية التي تُهدى إليكم ، لأنكم أهل مفاخرة بالدنيا ، ومكاثرة بها ، وليست الدنيا وأموالها من حاجتي ، لأن لله تعالى ذكره قد مكّنني منها وملّكني فيها ما لم يُمَلّك أحدا ارْجِعْ إلَيْهِمْ وهذا قول سليمان لرسول المرأة ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها لا طاقة لهم بها ولا قدرة لهم على دفعهم عما أرادوا منهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما أتت الهدايا سليمان فيها الوصائف والوُصفاء ، والخيل العراب ، وأصناف من أصناف الدنيا ، قال للرسل . الذين جاءوا به : أتُمِدّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ بَلْ أنْتُمْ بِهَدِيّتِكُمْ تَفْرَحُونَ لأنه لا حاجة لي بهديتكم ، وليس رأيي فيه كرأيكم ، فارجعوا إليها بما جئتم به من عندها ، فَلَنَأْتِيَنّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : فَلَنَأْتِيَنّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها قال : لا طاقة لهم بها .
وقوله وَلَنُخْرِجَنّهُمْ مِنْهَا أذِلّةً وَهُمْ صَاغرُونَ يقول : ولنخرجنّ من أرسلكم من أرضهم أذلة وهم صاغرون إن لم يأتوني مسلمين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : وَلَنُخْرِجَنّهُمْ مِنْها أذِلّةً وَهُمْ صَاغرونَ ، أو لتأتيني مسلمة هي وقومها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سليمان لأمير الوفد: {ارجع إليهم} بالهدية {فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها}: لا طاقة لهم بها من الجن والإنس، {ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} يعني: مذلين بالإنس والجن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"ارْجِعْ إلَيْهِمْ" وهذا قول سليمان لرسول المرأة "ارْجِعْ إلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها": لا طاقة لهم بها ولا قدرة لهم على دفعهم عما أرادوا منهم...
وقوله "وَلَنُخْرِجَنّهُمْ مِنْهَا أذِلّةً وَهُمْ صَاغرُونَ" يقول: ولنخرجنّ من أرسلكم من أرضهم أذلة وهم صاغرون إن لم يأتوني مسلمين...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فالذليل هو الناقص القوة في نفسه بما لا يمكنه أن يدفع غيره عن نفسه. والصاغر هو الذليل الصغير القدر المهين، يدل على معنى التحقير بشيئين..
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ارجع} خطاب للرسول. وقيل: للهدهد محملاً كتاباً آخر... والذل: أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العزّ والملك. والصغار: أن يقعوا في أسر واستعباد، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكاً.
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أفرد الرسول إرادة لكبيرهم بقوله: {ارجع} وجمع في قوله: {إليهم} إكراماً لنفسه، وصيانة لاسمها عن التصريح بضميرها، وتعميماً لكل من يهتم بأمرها ويطيعها {فلنأتينهم بجنود لا قبل} أي طاقة {لهم بها} أي بمقابلتها لمقاومتها وقلبها عن قصدها، أي لا يقدرون أن يقابلوها {ولنخرجنهم منها} أي من بلادهم {أذلة}.
ولما كان الذل قد يكون لمجرد الانقياد، لا على سبيل الهوان، حقق المراد بقوله: {وهم صاغرون} أي لا يملكون شيئاً من المنعة إن لم يقروا بالإسلام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يتبع هذا الاستنكار بالتهديد: ارجع إليهم بالهدية وانتظروا المصير المرهوب: (فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) جنود لم تسخر للبشر في أي مكان، ولا طاقة للملكة وقومها بهم في نضال: (ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) مدحورون مهزومون.
ويسدل الستار على هذا المشهد العنيف وينصرف الرسل، ويدعهم السياق لا يشير إليهم بكلمة كأنما قضي الأمر، وانتهى الكلام في هذا الشأن.
{ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} وكأنه يكشف لهم عن قول ملكتهم: {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة} وهذه أيضا من إشراقات النبوة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وطبيعي أن هذا التهديد كان تهديداً جديّاً جديراً بأن يؤخذ بنظر الاعتبار بالنسبة لرسل ملكة سبأ الذين كانوا عند سليمان!. ومع ملاحظة ما قرأناه في الآيات السابقة من أنّ سليمان طلب من أُولئك شيئين: ترك الاستعلاء، والتسليم للحق (ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين) وكان عدم إجابتهم لهذين وتوسلهم بالهديّة دليلا على امتناعهم من قبول الحقّ وترك الاستعلاء، ولذلك هدّدهم باستخدام القوة العسكرية...
وممّا بيّناه من توضيحات آنفاً يظهر أنّه لا تنافي بين تهديدات سليمان والأصل الأساس (لا إكراه في الدين) لأنّ عبادة الأصنام ليست ديناً، بل هي خرافة وانحراف...
إن الهدف من تعبئة الجيش ليس قتل الناس، بل أن يرى العدوّ نفسه ضعيفاً قبالها، ولا يرى نفسه قادراً على مواجهة الطرف الآخر: (جنود لا قبل لهم بها). وهذا التعبير نظير ما أُمر به المسلمون (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوّة... ترهبون به عدوّ الله).