( وقل : إني أنا النذير المبين ) . . تلك القولة التي قالها كل رسول لقومه ؛ ومنهم بقايا الأقوام التي جاءها أولئك الرسل بتلك النذارة البينة التي جئت بها قومك . . وكان منهم في الجزيرة العربية اليهود والنصارى . . ولكن هذه البقايا لم تكن تتلقى هذا القرآن بالتسليم الكامل ، إنما كانت تقبل بعضه وترفض بعضه ، وفق الهوى ووفق التعصب وهؤلاء هم الذين يسميهم الله هنا : ( المقتسمين ، الذين جعلوا القرآن عضين ) . .
القول في تأويل قوله تعالى { وَقُلْ إِنّيَ أَنَا النّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد للمشركين إني أنا النذير الذي قد أبان إنذاره لكم من البلاء والعقاب أن ينزل بكم من الله على تماديكم في غيكم كما أَنْزَلْنَا على المُقْتَسِمِينَ يقول : مثل الذي أنزل الله تعالى من البلاء والعقاب على الذين اقتسموا القرآن ، فجعلوه عِضِين .
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله : المُقْتَسِمِينَ ، فقال بعضهم : عني به . اليهود والنصارى ، وقال : كان اقتسامهم أنهم اقتسموا القرآن وعضّوه ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه . ذكر من قال ذلك :
حدثني عيسى بن عثمان الرملي ، قال : حدثنا يحيى بن عيسى ، عن الأعمش ، عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس ، في قوله الله : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : هم اليهود والنصارى ، آمنوا ببعض وكفروا ببعض .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : هم أهل الكتاب ، جزّءوه فجعلوه أعضاء أعضاء ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، في قوله : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : الذين آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : المُقْتَسِمِينَ أهل الكتاب . الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : يؤمنون ببعض ، ويكفرون ببعض .
حدثني مطر بن محمد الضّبّيّ ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، أنه قال في قوله : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ قال : هم أهل الكتاب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الاَية : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : هم أهل الكتاب ، آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : هم أهل الكتاب جزّءوه فجعلوه أعضاء ، فأمنوا ببعضه وكفروا ببعضه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : جزّءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن ، قال : هم أهل الكتاب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ قال : هم اليهود والنصارى من أهل الكتاب ، قسموا الكتاب فجعلوه أعضاء ، يقول : أحزابا ، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : المُقْتَسِمِينَ آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض ، وفرقوا الكتاب .
وقال آخرون : المُقْتَسِمِينَ أهل الكتاب ، ولكنهم سموا المقتسمين ، لأن بعضهم قال استهزاء بالقرآن : هذه السورة لي ، وقال بعضهم : هذه لي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة أنه قال في هذه الاَية : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : كانوا يستهزءون ، يقول هذا : لي سورة البقرة ، ويقول هذا : لي سورة آل عمران .
وقال آخرون : هم أهل الكتاب ، ولكنهم قيل لهم : المقتسمون لاقتسامهم كتبهم وتفريقهم ذلك بإيمان بعضهم ببعضها وكفره ببعض ، وكفر آخرين بما آمن به غيرهم وإيمانهم بما كفر به الاَخرون . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عبد الملك ، عن قيس ، عن مجاهد : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : هم اليهود والنصارى ، قسموا كتابهم ففرّقوه وجعلوه أعضاء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثني الحسن قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ قال : أهل الكتاب فرقوه وبدّلوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ قال : أهل الكتاب .
وقال آخرون : عُنِي بذلك رهط من كفار قريش بأعيانهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كمَا أنْزَلْنا عَلَى المُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ رهط خمسة من قريش ، عَضّهُوا كتاب الله .
وقال آخرون : عُنِيَ بذلك رهط من قوم صالح الذين تقاسموا على تبييت صالح وأهله . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كمَا أنْزَلْنا على المُقْتَسِمِينَ قال : الذين تقاسموا بصالح . وقرأ قول الله تعالى : وكانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قال : تقاسموا بالله حتى بلغ الاَية .
وقال بعضهم : هم قوم اقتسموا طرق مكة أيام قدوم الحاجّ عليهم ، كان أهلها بعثوهم في عقابها ، وتقدموا إلى بعضهم أن يشيع في الناحية التي توجه إليها لمن سأله عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من القادمين عليهم ، أن يقول : هو مجنون ، وإلى آخر : إنه شاعر ، وإلى بعضهم : إنه ساحر .
القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعلم قومه الذين عضّوا القرآن ففرقوه ، أنه نذير لهم من سخط الله تعالى وعقوبته أن يَحُلّ بهم على كفرهم ربهم وتكذيبهم نبيهم ما حلّ بالمقتسمين من قبلهم ومنهم . وجائز أن يكون عني بالمقتسمين : أهل الكتابين التوراة والإنجيل ، لأنهم اقتسموا كتاب الله ، فأقرّت اليهود ببعض التوراة وكذبت ببعضها وكذبت بالإنجيل والفرقان ، وأقرّت النصارى ببعض الإنجيل وكذّبت ببعضه وبالفرقان . وجائز أن يكون عُنِي بذلك : المشركون من قريش ، لأنهم اقتسموا القرآن ، فسماه بعضهم شعرا وبعض كهانة وبعض أساطير الأوّلين . وجائز أن يكون عُنِي به الفريقان . وممكن أن يكون عُنِيَ به المقتسمون على صالح من قومه .
فإذ لم يكن في التنزيل دلالة على أنه عُني به أحد الفرق الثلاثة دون الاَخرين ، ولا في خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا في فطرة عقل ، وكان ظاهر الاَية محتملاً ما وصفت ، وجب أن يكون مقتضيّا بأن كلّ من اقتسم كتابا لله بتكذيب بعض وتصديق بعض ، واقتسم على معصية الله ممن حلّ به عاجل نقمة الله في الدار الدنيا قبل نزول هذه الاَية ، فداخل في ذلك لأنهم لأشكالهم من أهل الكفر بالله كانوا عبرة وللمتعظين بهم منهم عظَة .
واختلفت أهل التأويل في معنى قوله : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ فقال بعضهم : معناه : الذين جعلوا القرآن فِرَقا مفترقة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : فرقا .
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم ، قالا : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جزّءوه فجعلوه أعضاء ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : جزّءوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا طلحة ، عن عطاء : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنِ عِضِينَ قال : المشركون من قريش ، عَضّوُا القرآن فجعلوه أجزاء ، فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : مجنون فذلك العِضُون .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله : جَعَلُوا القُرآنَ عَضِينَ : جعلوا كتابهم أعضاء كأعضاء الجزور ، وذلك أنهم تقطعوه زبرا ، كل حزب بما لديهم فرحون ، وهو قوله : فَرّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ عضهوا كتاب الله زعم بعضهم أنه سِحْر ، وزعم بعضهم أنه شِعْر ، وزعم بعضهم أنه كاهن قال أبو جعفر : هكذا قال كاهن ، وإنما هو كهانة وزعم بعضهم أنه أساطير الأوّلين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس : الّذِينَ جَعَلُوا الْقُرآنَ عِضِينَ قال : آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض .
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : جعلوه أعضاء كما تُعَضّى الشاة . قال بعضهم : كهَانة ، وقال بعضهم : هو سحر ، وقال بعضهم : شعر ، وقال بعضهم أساطِيرُ الأوّلِينَ اكْتَتَبَها . . . الاَية . جعلوه أعضاء كما تُعَضّى الشاة .
فوجه قائلو هذه المقالة قوله : عِضِينَ إلى أن واحدها : عُضْو ، وأن عِضِينَ جمعه ، وأنه مأخوذ من قولهم عَضّيت الشيء تعضية : إذا فرقته ، كما قال رُؤْبة :
*** وليس دينُ اللّهِ بالمُعَضّى ***
يعني بالمفرّق . وكما قال الاَخر :
وعَضّى بَنِي عَوْفٍ فأمّا عَدُوّهُمْ *** فأرْضَى وأمّا الْعِزّ منهُمُ فغَيّرَا
يعني بقوله : «وعَضّى » : سَبّاهُمْ ، وقَطّعاهُمْ بألسنتهما .
وقال آخرون : بل هي جمع عِضَة ، جمعت عِضِين كما جمعت البُرَة بُرِين ، والعِزِة عِزِين . فإذَا وُجّه ذلك إلى هذا التأويل كان أصل الكلام عِضَهَة ، ذهبت هاؤها الأصلية ، كما نقصوا الهاء من الشّفَة وأصلها شَفَهَة ، ومن الشاة وأصلها شاهة . يدلّ على أن ذلك الأصل تصغيرهم الشفة : شُفَيْهة ، والشاة : شُوَيْهة ، فيردّون الهاءَ التي تسقط في غير حال التصغير إليها في حال التصغير ، يقال منه : عَضَهْتُ الرجل أعضَهُه عَضْها : إذا بَهَتّه وقذفته ببُهتان . وكأن تأويل من تأويل ذلك كذلك : الذين عَضَهوا القرآن ، فقالوا : هو سحْر ، أو هو شعر ، نحو القول الذي ذكرناه عن قتادة .
وقد قال جماعة من أهل التأويل : إنه إنما عَنَى بالعَضْه في هذا الموضع ، نسبتهم إياه إلى أنه سِحْر خاصة دون غيره من معاني الذمّ ، كما قال الشاعر :
*** للماءِ مِنْ عِضَاتهنّ زَمْزَمهْ ***
يعني : من سِحْرهنّ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : سحرا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : عِضِينَ قال : عَضَهوه وبَهَتُوه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كان عكرمة يقول : العَضْه : السحر بلسان قريش ، تقول للساحرة : إنها العاضهة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قال : سِحْرا أعضاء الكتب كلها وقريش ، فرقوا القرآن قالوا : هو سحر .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلِم قوما عَضَهُوا القرآن أنه لهم نذير من عقوبة تنزل بهم بِعْضِهِهمْ إياه مثل ما أنزل بالمقتسمين ، وكان عَضْهُهُم إياه : قذفهموه بالباطل ، وقيلهم إنه شعر وسحر ، وما أشبه ذلك .
وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات به لدلالة ما قبله من ابتداء السورة وما بعده ، وذلك قوله : إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ على صحة ما قلنا ، وإنه إنما عُنِيَ بقوله : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ مشركي قومه . وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنه لم يكن في مشركي قومه من يؤمن ببعض القرآن ويكفر ببعض ، بل إنما كان قومه في أمره على أحد معنيين : إما مؤمن بجميعه ، وإما كافر بجميعه . وإذ كان ذلك كذلك ، فالصحيح من القول في معنى قوله : الّذِينَ جَعَلُوا القُرآنَ عِضِينَ قول الذين زعموا أنهم عَضَهوه ، فقال بعضهم : هو سحر ، وقال بعضهم : هو شعر ، وقال بعضهم : هو كهانة وأما أشبه ذلك من القول ، أو عَضّوْه ففرقوه ، بنحو ذلك من القول . وإذا كان ذلك معناه احتمل قوله «عِضِين » ، أن يكون جمع : عِضة ، واحتمل أن يكون جمع عُضْو ، لأن معنى التعضية : التفريق ، كما تُعَضى الجَزُرزِ والشاة ، فتفرق أعضاء . والعَضْه : البَهْت ورميه بالباطل من القول فهما متقاربان في المعنى .
{ كما أنزلنا على المقتسمين } مثل العذاب الذي أنزلناه عليهم ، فهو وصف لمفعول النذير أقيم مقامه والمقتسمون هم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر أو الرهط الذين اقتسموا على أن يبيتوا صالحا عليه الصلاة والسلام وقيل هو صفة مصدر محذوف يدل عليه { ولقد آتيناك } فإنه بمعنى أنزلنا إليك .
التشبيه الذي أفاده الكاف تشبيه بالذي أنزل على المقتسمين .
و ( ما ) موصولة أو مصدرية ، وهي المشبه به .
وأما المشبه فيجوز أن يكون الإيتاءَ المأخوذ من فعل { آتيناك سبعاً من المثاني } [ سورة الحجر : 87 ] ، أي إيتاء كالذي أنزلنا أو كإنزالنا على المقتسمين . شُبّه إيتاء بعض القرآن للنبيء بما أنزل عليه في شأن المقتسمين ، أي أنزلناه على رسل المقتسمين بحسب التفسيرين الآتيين في معنى { المقتسمين } .
ويجوز أن يكون المشبّهُ الإنذارَ المأخوذَ من قوله تعالى : { إني أنا النذير المبين } [ سورة الحجر : 89 ] ، أي الإنذار بالعقاب من قوله تعالى : { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } [ سورة الحجر : 92 93 ] .
وأسلوب الكلام على هذين الوجهين أسلوب تخلّص من تسلية النبي إلى وعيد المشركين الطاعنين في القرآن بأنهم سيحاسبون على مطاعنهم .
وهو إما وعيد صريح إن أريد بالمقتسمين نفسُ المراد من الضميرين في قوله تعالى : { أزواجاً منهم ولا تحزن عليهم } [ سورة الحجر : 88 ] .
وحرف { على } هنا بمعنى لام التّعليل كما في قوله تعالى : { ولتكبروا الله على ما هداكم } [ سورة البقرة : 185 ] وقوله : { فكلوا مما أمسكن عليكم } [ سورة المائدة : 4 ] ، وقول علقمة بن شيبان من بني تيم الله بن ثعلبة :
ونطاعن الأعداء عن أبنائنا *** وعلى بصائرنا وإن لم نُبصر
ولفظ { المقتسمين } افتعال من قَسم إذا جَعل شيئاً أقساماً . وصيغة الافتعال هنا تقتضي تكلف الفعل .
والمقتسمون يجوز أن يراد بهم جمع من المشركين من قريش وهم ستّة عشر رجلاً ، سنذكر أسماءهم ، فيكون المراد بالقرآن مسمى هذا الاسم العَلَم ، وهو كتاب الإسلام .
ويجوز أن يراد بهم طوائف أهل الكتاب قَسّموا كتابهم أقساماً ، منها ما أظهروه ومنها ما أنسوه ، فيكون القرآن مصدراً أطلق بمعناه اللغوي ، أي المقروء من كتبهم ؛ أو قسّموا كتاب الإسلام ، منه ما صدّقوا به وهو ما وافق دينهم ، ومنه ما كذّبوا به وهو ما خالف ما هم عليه .