قوله تعالى : { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } قال الزجاج : هذا من صفة ناصريه ، ومعنى { مكناهم } نصرناهم على عدوهم حتى يتمكنوا من البلاد . قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال الحسن : هذه الأمة { ولله عاقبة الأمور } يعني : آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه ، يعني : يبطل كل ملك سوى ملكه ، فتصير الأمور إليه بلا منازع ولا مدع .
( الذين إن مكناهم في الأرض ) . . فحققنا لهم النصر ، وثبتنا لهم الأمر . . ( أقاموا الصلاة ) . . فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به ، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين . . ( وآتوا الزكاة ) . . فأدوا حق المال ، وانتصروا على شح النفس ، وتطهروا من الحرص ، وغلبوا وسوسة الشيطان ، وسدوا خلة الجماعة ، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج ، وحققوا لها صفة الجسم الحي - كما قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " . .
( وأمروا بالمعروف ) . . فدعوا إلى الخير والصلاح ، ودفعوا إليه الناس . . ( ونهوا عن المنكر ) . . فقاوموا الشر والفساد ، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر وهي قادرة على تغييره ، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه . .
هؤلاء هم الذين ينصرون الله ، إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة ، معتزين بالله وحده دون سواه . وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين .
فهو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته . المشروط بتكاليفه وأعبائه . . والأمر بعد ذلك لله ، يصرفه كيف يشاء ، فيبدل الهزيمة نصرا ، والنصر هزيمة ، عندما تختل القوائم ، أو تهمل التكاليف : ( ولله عاقبة الأمور ) . .
إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة . من انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح . المنظور فيه إلى هذه الغاية التي يتوارى في ظلها الأشخاص والذوات ، والمطامع والشهوات . .
وهو نصر له سببه . وله ثمنه . وله تكاليفه . وله شروطه . فلا يعطى لأحد جزافا أو محاباة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه . .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ إِنْ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ } .
يقول تعالى ذكره : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة . و«الذين » ها هنا ردّ على «الذين يقاتلون » . ويعني بقوله : إنْ مَكَنّاهُمْ فِي الأرْضِ إن وَطّنّا لهم في البلاد ، فقهروا المشركين وغلبوهم عليها ، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول : إن نصرناهم على أعدائهم وقهروا مشركي مكة ، أطاعوا الله ، فأقاموا الصلاة بحدودها وآتَوُا الزّكَاةَ يقول : وأعطوا زكاة أموالهم مَنْ جعلها الله له . وأمَرُوا بالمَعْرُوفِ يقول : ودعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته وما يعرفه أهل الإيمان بالله . وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ يقول : ونهوا عن الشرك بالله والعمل بمعاصيه ، الذي ينكره أهل الحقّ والإيمان بالله . ولِلّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ يقول : ولله آخر أمور الخلق ، يعني : أنّ إليه مصيرها في الثواب عليها والعقاب في الدار الاَخرة .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسين الأشيب ، قال : حدثنا أبو جعفر عيسى بن ماهان ، الذي يقال له الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : الّذِينَ إنْ مَكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أقامُوا الصّلاةَ وآتَوُا الزّكاةَ وأمَرُوا بالمَعْرُوف ونَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ قال : كان أمرهم بالمعروف أنهم دعوا إلى الإخلاص لله وحده لا شريك له ونهيهم عن المنكر أنهم نهوا عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان . قال : فمن دعا إلى الله من الناس كلهم فقد أمر بالمعروف ، ومن نهى عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان فقد نهى عن المنكر .
{ الذين إِنْ مكناهم فِى الارض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر }
ويجوز أن يكون بدلاً من { مَن } الموصولة في قوله : { من ينصره } [ الحج : 40 ] فيكون المراد : كل من نصر الدين من أجيال المسلمين ، أي مكناهم بالنصر الموعود به إن نصروا دين الله : وعلى الاحتمالين فالكلام مسوق للتنبيه على الشكر على نعمة النصر بأن يأتوا بما أمر الله به من أصول الإسلام فإن بذلك دوامَ نصرهم ، وانتظام عقد جماعتهم ، والسلامة من اختلال أمرهم ، فإن حَادُوا عن ذلك فقد فرّطوا في ضمان نصرهم وأمرُهم إلى الله .
فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدّين وتجديد لمفعوله في النفوس ، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم ، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم .
والتمكين : التوثيق ، وأصله إقرار الشيء في مكان وهو مستعمل هنا في التسليط والتمليك ، والأرض للجنس ، أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو من ملكهم وما بسطت فيه أيديهم . وقد تقدم قوله تعالى : { ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش } في [ سورة الأعراف : 10 ] ، وقوله : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } في [ سورة يوسف : 56 ] .
والمراد بالمعروف ما هو مقرّر من شؤون الدين : إما بكونه معروفاً للأمة كلها ، وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائرُ الأمة . وإما بكونه معروفاً لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومراتب علمائه .
والمنكر : ما شأنه أن ينكر في الدين ، أي أن لا يُرضى بأنه من الدين . وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها ، فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شؤون عاداتهم مما هو في منطقة المباح ، ولا ما يفعلون في شؤون دينهم مما هو من نوع الدّيانات كالأعمال المندرجة تحت كليّات دينية ، والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد الشريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين .
والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر وإنما جمعت الآية بينهما باعتبار أوللِ ما تتوجه إليه نفوس الناس عند مشاهدة الأعمال ، ولتكون معرفة المعروف دليلاً على إنكار المنكر وبالعكس إذ بضدها تتمايز الأشياء ، ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس .
عطف على جملة { ولينصرن الله من ينصره } [ الحج : 40 ] ، أو على جملة { إن الله لقوي عزيز } [ الحج : 40 ] ، والمآل واحد ، وهو تحقيق وقوع النصر ، لأنّ الذي وعَد به لا يمنعه من تحقيق وعدَه مانع ، وفيه تأنيس للمهاجرين لئلا يستبطئوا النصر .
والعاقبة : آخر الشيء وما يعقُب الحاضرَ . وتأنيثها لملاحظة معنى الحالة وصارت بكثرة الاستعمال اسماً . وفي حديث هرقل « ثم تكون لهم العاقبة » . وتقديم المجرور هنا للاهتمام والتنبيه على أن ما هو لله فهو يصرفه كيف يشاء .