قوله تعالى :{ فتقطعوا أمرهم } دينهم ، { بينهم } أي : تفرقوا فصاروا فرقاً ، يهوداً ونصارى ومجوساً ، { زبراً } أي : فرقاً وقطعاً مختلفة ، واحدها زبور وهو الفرقة والطائفة ، ومثله الزبرة وجمعها زبر ، ومنه زبر الحديد أي : صاروا فرقاً كزبر الحديد . وقرأ بعض أهل الشام ( زبراً ) بفتح الباء ، قال قتادة و مجاهد : زبراً أي : كتباً ، يعني دان كل فريق بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر . وقيل : جعلوا كتبهم قطعاً مختلفة ، آمنوا بالبعض ، وكفروا بالبعض ، وحرفوا البعض ، { كل حزب بما لديهم } أي : بما عندهم من الدين { فرحون } معجبون ومسرورون .
( فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا ، كل حزب بما لديهم فرحون . فذرهم في غمرتهم حتى حين . أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات ? بل لا يشعرون ) !
لقد مضى الرسل - صلوات الله عليهم - أمة واحدة ، ذات كلمة واحدة ، وعبادة واحدة ، ووجهة واحدة ؛ فإذا الناس من بعدهم أحزاب متنازعة لا تلتقي على منهج ولا طريق .
ويخرج التعبير القرآني المبدع هذا التنازع في صورة حسية عنيفة . لقد تنازعوا الأمر حتى مزقوه بينهم مزقا ، وقطعوه في أيديهم قطعا . ثم مضى كل حزب بالمزقة التي خرجت في يده . مضى فرحا لا يفكر في شيء ، ولا يلتفت إلى شيء ! مضى وأغلق على حسه جميع المنافذ التي تأتيه منها أية نسمة طليقة ، أو يدخل إليه منها أي شعاع مضيء ! وعاش الجميع في هذه الغمرة مذهولين مشغولين بما هم فيه ، مغمورين لا تنفذ إليهم نسمة محيية ولا شعاع منير .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَقَطّعُوَاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : زُبُرا فقرأته عامة قرّاء المدينة والعراق : زُبُرا بمعنى جمع الزّبور . فتأويل الكلام على قراءة هؤلاء : فتفرّق القوم الذين أمرهم الله من أمة الرسول عيسى بالاجتماع على الدين الواحد والملة الواحدة ، دينهم الذي أمرهم الله بلزومه زُبُرا كُتُبا ، فدان كل فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذين دان به الفريق الاَخر ، كاليهود الذين زعموا أنهم دانوا بحكم التوراة وكذّبوا بحكم الإنجيل والقرآن ، وكالنصارى الذين دانوا بالإنجيل بزعمهم وكذّبوا بحكم الفرقان . ذكر من تأوّل ذلك كذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة زُبُرا قال : كُتُبا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : بَيْنَهُمْ زُبُرا قال : كُتُب الله فرّقوها قطعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : فَتَقَطّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرا قال مجاهد : كُتُبهم فرّقوها قطعا .
وقال آخرون من أهل هذه القراءة : إنما معنى الكلام : فتفرّقوا دينهم بينهم كُتُبا أحدثوها يحتجّون فيها لمذاهبهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَتَقَطّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرا كُلّ حَزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قال : هذا ما اختلفوا فيه من الأديان والكتب ، كلّ معجبون برأيهم ، ليس أهل هواء إلاّ وهم معجبون برأيهم وهواهم وصاحبهم الذي اخترق ذلك لهم .
وقرأ ذلك عامة قرّاء الشام : «فَتَقَطّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبَرا » بضم الزاء وفتح الباء ، بمعنى : فتفرّقوا أمرهم بينهم قِطَعا كزُبَر الحديد ، وذلك القِطَع منها ، واحدتها زُبْرة ، من قول الله : آتُونِي زُبَرَ الحَدِيد فصار بعضهم يهودا وبعضهم نصارى .
والقراءة التي نختار في ذلك : قراءة من قرأه بضم الزاء والباء ، لإجماع أهل التأويل في تأويل ذلك على أنه مراد به الكتب ، فذلك يبين عن صحة ما اخترنا في ذلك ، لأن الزّبُر هي الكتب ، يقال منه : زَبَرْت الكتاب : إذ كتبته .
فتأويل الكلام : فتفرّق الذين أمرهم الله بلزوم دينه من الأمم دينهم بينهم كتبا ، كما بيّنا قبل .
وقوله : كُلّ حَزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ يقول : كل فريق من تلك الأمم بما اختاروه لأنفسهم من الدين والكتب فرحون ، معجبون به ، لا يرون أن الحقّ سواه . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كُلّ حَزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قطعة ، وهؤلاء هم أهل الكتاب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : كُلّ حِزْبٍ قطعة ، أهل الكتاب .
{ فتقطعوا أمرهم بينهم } فتقطعوا أمر دينهم جعلوه أديانا مختلفة ، أو فتفرقوا وتحزبوا وأمرهم منصوب بنزع الخافض أو التمييز ، والضمير لما دل عليه الأمة من أربابها أولها . { زبرا } قطعا جمع زبور الذي بمعنى الفرقة ويؤيده القراءة بفتح الباء فإنه جمع زبرة وهو حال من أمرهم أو من الواو ، أو مفعول ثان ل{ فتقطعوا } فإنه متضمن معنى جعل . وقيل كتبا من زبرت الكتاب فيكون مفعولا ثانيا ، أو حالا من أمرهم على تقدير مثل كتب ، وقرئ بتخفيف الباء كرسل في { رسل } . { كل حزب } من المتحزبين . { بما لديهم } من الدين . { فرحون } معجبون معتقدون أنهم على الحق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.