قوله تعالى : { من العيون ليأكلوا من ثمره } أي : من الثمر الحاصل بالماء ، { وما عملته } قرأ حمزة ، و الكسائي ، و أبو بكر :{ عملت }بغير هاء ، وقرأ الآخرون :{ عملته } بالهاء ، أي : يأكلون من الذي عملته ، { أيديهم } من الزرع والغرس ، والهاء عائدة إلى { ما }التي بمعنى الذي . وقيل : { ما } للنفي في قوله{ ما عملته أيديهم } أي : وجدوها معمولة ولم تعملها أيديهم ، ولا صنع لهم فيها ، وهذا معنى قول الضحاك و مقاتل . وقيل : أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يد خلق مثل دجلة والفرات والنيل ونحوها . { أفلا يشكرون } نعمة الله .
جعلنا في الأرض تلك الأشجار ، والنخيل والأعناب ، { لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ } قوتا وفاكهة ، وأدْمًا ولذة ، { و } الحال أن تلك الثمار { مَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } [ وليس لهم فيه صنع ، ولا عمل ، إن هو إلا صنعة أحكم الحاكمين ، وخير الرازقين ، وأيضا فلم تعمله أيديهم ] بطبخ ولا غيره ، بل أوجد اللّه هذه الثمار ، غير محتاجة لطبخ ولا شيّ ، تؤخذ من أشجارها ، فتؤكل في الحال . { أَفَلَا يَشْكُرُونَ } من ساق لهم هذه النعم ، وأسبغ عليهم من جوده وإحسانه ، ما به تصلح أمور دينهم ودنياهم ، أليس الذي أحيا الأرض بعد موتها ، فأنبت فيها الزروع والأشجار ، وأودع فيها لذيذ الثمار ، وأظهر ذلك الجنى من تلك الغصون ، وفجر الأرض اليابسة الميتة بالعيون ، بقادر على أن يحيي الموتى ؟ بل ، إنه على كل شيء قدير .
وقرأ جمهور الناس : { من ثَمَره } بفتح الثاء والميم ، وقرأ طلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي :«من ثُمُرة » بضمهما ، وقرأ الأعمش : «من ثُمْره » بضم الثاء وسكون الميم ، والضمير في { ثمره } قالت فرقة : هو عائد على الماء الذي يتضمنه قوله :{ وفجرنا فيها من العيون } ؛ لأن التقدير ماء ، وقالت فرقة : هو عائد على جميع ما تقدم مجملاً ، كأنه قال : من ثمر ما ذكرنا ، وقال أبو عبيدة : هو من باب أن يذكر الإنسان شيئين أو ثلاثة ثم يعيد الضمير على واحد ويكني عنه ، كما قال الشاعر ، وهو الأزرق بن طرفة بن العمرد الفارصي الباهلي : [ الطويل ]
رماني بذنب كنت منه ووالدي . . . بريئاً ومن أجل الطويّ رماني{[1]}
قال القاضي أبو محمد : وهذا وجه في الآية ضعيف ، و { ما } في قوله تعالى : { وما عملته أيديهم } قال الطبري : هي اسم معطوف على الثمر أي : يقع الأكل من الثمر ومما عملته الأيدي بالغرس والزراعة ونحوه ، وقالت فرقة : هي مصدرية وقيل هي نافية ، والتقدير : أنهم يأكلون من ثمره وهي شيء لم تعمله أيديهم بل هي نعمة من الله عليهم ، وقرأ جمهور الناس : «عملته » بالهاء الضمير ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وطلحة وعيسى «عملت » بغير ضمير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم}: لم يكن ذلك من صنع أيديهم ولكنه من فعلنا.
{أفلا يشكرون} رب هذه النعم فيوحدوه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أنشأنا هذه الجنات في هذه الأرض ليأكل عبادي من ثمره، "وما عملت أيديهم "يقول: ليأكلوا من ثمر الجنات التي أنشأنا لهم، وما عملت أيديهم مما غرسوا هم وزرعوا. و {ما} التي في قوله: {وَما عَمِلَتْهُ أيْدِيهِمْ} في موضع خفض عطفا على الثمر، بمعنى: ومن الذي عملت وهي في قراءة عبد الله فيما ذُكر: «وَممّا عَمِلَتْهُ» بالهاء على هذا المعنى... ولو قيل: «ما» بمعنى المصدر كان مذهبا، فيكون معنى الكلام: ومن عمل أيديهم. ولو قيل: إنها بمعنى الجحد ولا موضع لها كان أيضا مذهبا، فيكون معنى الكلام: ليأكلوا من ثمره ولم تعمله أيديهم.
وقوله: {أفَلا يَشْكُرُونَ} يقول: أفلا يشكر هؤلاء القوم الذين رزقناهم هذا الرزق من هذه الأرض الميتة التي أحييناها لهم مَنْ رزقهم ذلك وأنعم عليهم به؟.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
بين أنه إنما خلق ذلك {ليأكلوا من ثمره} أي: غرضنا نفعهم بذلك وانتفاعهم بأكل ثمار تلك الجنات.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{أفلا يشكرون}:أمر بالشكر من حيث إنه إنكار لتركه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الإنسان قد يتسبب في تربية بعض الأشياء، أبطل سبحانه الأسباب فيما يمكن أن يدعو فيه تسبباً، ونبه على أن الكل بخلقه فقال: {وما عملته} أي: ولم تعمل شيئاً من ذلك {أيديهم} أي:عملاً ضعيفاً -بما أشار إليه تأنيث الفعل فكيف بما فوقه، وإن تظافروا على ذلك بما أشار إليه جمع اليد.
ولما كان السياق ظاهراً في هذا جاءت قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بحذف الضمير غير منوي قصراً للفعل تعميماً للمفعول رداً لجميع الأمور إلى بارئها سواء كانت بسبب أو بغير سبب، أي: ولم يكن لأيديهم عمل لشيء من الأشياء لا لهذا ولا لغيره مما له مدخل في عيشهم ومن غيره، ولذلك حسن كل الحسن إنكاره عليهم عدم الشكر بقوله: {أفلا يشكرون} أي: يدأبون دائماً في إيقاع الشكر والدوام على تجديده في كل حين بسبب هذه النعم الكبار.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{أَفَلاَ يَشْكُرُونَ}: الفاء للعطفِ على مقدَّرٍ يقتضيهِ المقامُ أي: أيرون هذه النِّعمَ أو أيتنعمون بها فلا يشكرونَها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم) ويد الله هي التي أقدرتهم على العمل، كما أقدرت الزرع على الحياة والنماء! (أفلا يشكرون؟).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{ثَمَرهِ} أي ليأكلوا من ثمر ما أخرجناه ومن ثمر ما عملته أيديهم، فيكون إدماجاً للإِرشاد إلى إقامة الجنات بالخدمة والسقي والتعهد ليكون ذلك أوفر لأغلالها...
وفرع عليه استفهام الإنكار لعدم شكرهم بأن اتخذوا للذي أوجد هذا الصنع العجيب أنداداً.
وجيء بالمضارع مبالغة في إنكار كفرهم بأن الله حقيق بأن يكرروا شكره فكيف يستمرون على الإِشراك به...
ثم يُبيِّن الحق سبحانه العلة في تفجير العيون، فيقول سبحانه: {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} قوله تعالى: {مِن ثَمَرِهِ} قالوا: من ثمره. أي: الحبوب والبلح والعنب وغيرها، أو من ثمر تفجير العيون، قال البعض: ينبغي أن ننسب الثمرة إلى الأصل، فيكون المعنى: من ثمر القدرة في كُنْ، وليس المراد الثمرة القريبة.
فكأن الحق سبحانه يريد أنْ يخلعك من الفتنة بالأسباب، ويلفتك إلى المسبِّب الأعلى الأول؛ لذلك أمرنا حين يعزُّ الماء ولا تسعفنا الأسباب أن نلجأ إلى المسبِّب سبحانه بصلاة الاستسقاء؛ لأن المسبِّب سبحانه هو المرجع النهائي لهذه المسألة...
وقوله سبحانه {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} استدراك يراعي دور الإنسان وعمله... فكأن الحق سبحانه يُقدِّر لك دورك، ويعطيك حقك، ويذكر لك عملك مهما كان يسيراً.
وهذه المسألة جاءت بوضوح في قوله سبحانه:
{أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63-64] فربُّك عز وجل يُقدِّر عملك في حرث الأرض وإعدادها للزراعة، وهذا دورك فيها، أما مسألة الإنبات فهي لله وحده، لا دخْلَ لك فيها...
وقوله سبحانه: {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} جاء بعد ذكر هذه النِّعَم السابقة، والتي تستوجب شكر الله عليها، لكن لم يَأْتِ هُنا أمر بالشكر ولم يَأتِ بأسلوب خبري، إنما جاء هكذا {أَفَلاَ يَشْكُرُونَ} بصيغة الاستفهام، وكأن الله تعالى يقول لنا: أجيبوا أنتم، فقد استأمنتُكم على الجواب، وقد علم سبحانه أن الجواب لا يمكن أنْ يكون إلا الإقرار بالشكر على النعمة.