اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لِيَأۡكُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦ وَمَا عَمِلَتۡهُ أَيۡدِيهِمۡۚ أَفَلَا يَشۡكُرُونَ} (35)

{ وَجَعَلْنَا فِيها جَنَّاتٍ } : بساتين { مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وفَجَّرْنا فِيهَا } : في الأرض { مِنَ العُيُونِ لِيَأْكُلُوا منْ ثَمَرِهِ } الحاصل بالماء{[46141]} .

قوله : { وَفَجَّرنَا } : العامة على التشديد تكثيراً ؛لأنها{[46142]} مخففة متعدّية ، وقرأ جَنَاحُ بْنُ حبيش بالتخفيف{[46143]} ، والمفعول محذوف على كلتا القراءتين أي : يَنْبُوعاً كما في آية : «سبْحَانَ »{[46144]} .

قوله : { مِن ثَمَرِهِ } قيل : الضمير عائد على النخيل ؛ لأنه أقرب مذكور وكان من حق الضمير أن يثنى{[46145]} على هذا لتقدم{[46146]} شيئين وهما : الأعْنَاب والنَّخِيل إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما ، وقيل : يعود{[46147]} على جنات وعاد بلفظ{[46148]} المفرد ذهاباً بالضمير مَذْهَبَ اسم الإشارة{[46149]} كقول رؤبة :

4181- فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبلَقْ . . . كَأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ{[46150]}

فقيل له :{[46151]} ، فقال : أردت كأن ذاك وتلك ، وقيل : عائد على الماء المدلول عليه بعيون{[46152]} . وقيل : بل عاد عليه لأنه مقدر أي من العيون . ويجوز أن يعود على العيون . ويعتذر عن إفراده بما تقدم في عوده على جنات ، ويجوز أن يعود على الأعناب والنخيل معاً ويعتذر عنه بما تقدم{[46153]} أيضاً . وقال الزمخشري وأصله من «ثَمَرِنَا » لقوله{[46154]} : { وفَجَّرْنَا } و «أَيْدِينَا »{[46155]} فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات{[46156]} . والمعنى ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر . فعلى هذا يكون الضمير عائداً على الله تعالى ؛ ولذلك فسر معناه بما ذكر{[46157]} ، وتقدمت هذه القراءات في هذه اللفظ في سورة{[46158]} الأَنْعَام .

قوله : { وَمَا عَمِلَتْ أَيْدِيهِمْ } في «ما » هذه أربعة أوجه :

أحدها : أنها موصولة{[46159]} أي :ومن الذي عملته أيديهم من الغَرْس والمُعَالَجَة . وفيه تجوز{[46160]} على هذا .

والثاني : أنها نافية{[46161]} أي : لم يعلموه هم بل الفاعل له هو الله سبحانه وتعالى ، أي : وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها . وهو قول الضحاك ومقاتل . وقيل : أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يدُ{[46162]} خلقٍ مثل الدِّجْلة والفرات والنيل ونحوها . وقرأ الأخوان وأبو بكر بحذف الهاء{[46163]} . والباقون : وما عملته بإثباتها . فإن كانت «ما » موصولة فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حذف العائد كما حذف في قوله : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] بالإجماع وعلى قراءة غيرهم جيء به على الأصل ، وإن كانت نافيةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر لا ضمير مقدر ولكن المفعول محذوف أي : ما عَمِلَتْ أيْدِيهم شَيْئاً من{[46164]} ذلك وعلى قراءة غيرهم الضمير يعود على { ثَمَرِهِ } وهي مرسومة بالهاء في غير مصاحف الكوفة وبحذفها فيما{[46165]} عداها ، فالأخوان{[46166]} وأبو بكر وافقوا مصاحفهم والباقون غير حفص وافقو ( ها ){[46167]} أيضاً وحفص خالف مصحفه وهذا يدل على أن القراءة متلقاةٌ من أفواه الرجال فيكون عاصم قد أقرأها لأبي ( بكر ){[46168]} بالهاء ولحفص بدونها .

الثالث : أنها{[46169]} نكرة موصوفة{[46170]} والكلام فيها كالكلام{[46171]} في الموصولة .

والرابع : أنها مصدرية أي ومن عمل{[46172]} أيديهم والمصدر واقع موقع المفعول به فيعود المعنى إلى معنى الموصولة{[46173]} أو الموصوفة .

فصل :

إذا قلنا : «ما » موصولة يحتمل أن يكون المعنى :وما عملته أيديهم بالتِّجَارة كأنه ذكر نَوْعَيْ ما يأكل الإنسان وهما الزراعة والتجارة ( أ ) و{[46174]}من النبات ما يؤكل من غير عمل الأيدي كالعِنَبِ والتَّمْر وغيرهما ومنه ما يعمل فيه عمل فيؤكل كالأشياء التي لا تؤكل إلا مطبوخة أو كالزيتون الذي لا يؤكل إلا بعد إصلاح{[46175]} ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر بقوله : { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } وذكر بصيغة الاستفهام لما تقدم في فوائد الاستفهام{[46176]} . قوله : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا } أي : الأصناف و { سبحان }عَلَمٌ دال على التسبيح تقديره : سُبِّح تَسْبِيحَ الِّذِي خلق الأزواج .

ومعنى ( سبح ) :{[46177]} نَزَّهَ .


[46141]:وانظر هذه التفسيرات في القرطبي 15/25.
[46142]:أي "فجر".
[46143]:ذكرها ابن خالويه في المختصر 125 وهي من الشواذ كما ذكرها الزمخشري في كشافه بدون نسبة. الكشاف 3/321.
[46144]:يشير إلى الآية 90 من سورة الإسراء: {حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا} فينبوعا في الإسراء مفعول "لتفجر" المضارع الثلاثي.
[46145]:في "ب" ينبني.
[46146]:وفيها: التقدير بشيئين.
[46147]:ذكر هذين الرأيين أبو حيان في البحر 7/335 والسمين في الدر 4/515 والزمخشري في الكشاف 3/322 وجعلها القرطبي عائدا على ماء العيون. القرطبي 45/24.
[46148]:في "ب" لفظ.
[46149]:المراجع السابقة.
[46150]:من الرجز والبلق سواد وبياض في الجلد. والفعل منه بلق كفرح. والتوليع استطالة البلق. وشاهده: وضع اسم الإشارة موضع الضمير. وقد نوقش رؤبة في هذا فقال: أردت كأن ذاك وقد تقدم.
[46151]:في البحر المحيط: "كيف قلت: كأنه والذي تقدم خطوط فقال: أردت الخ..." البحر 7/335 وثبت عن أبي عبيدة : فقلت لرؤبة: إن كانت خطوطا فقل: كأنها وإن كان سواد وبلق فقل: كأنهما. فقال: كأن ذاك ويلك توليع البهق. اللسان: "و ل ع" 4917.
[46152]:نقله القرطبي 15/25.
[46153]:وانظر هذه الأقوال كلها في الدر المصون 4/516.
[46154]:كذا هو الأصح من "ب" وما في "أ" كقوله.
[46155]:كذا في النسختين وما في الكشاف: "وجعلنا" بدلا من "أيدينا".
[46156]:الكشاف 3/322.
[46157]:قاله السمين في الدر المصون 4/516.
[46158]:يشير إلى قوله: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} الآية 141. وقراءة حمزة والكسائي وآخرين بضم الثاء "ثمره" والميم أيضا والباقون بالفتح. الإتحاف 365 و 219 والكشاف 3/321.
[46159]:قيلت في : "معاني القرآن وإعرابه" 4/286 ومعاني الفراء 2/377 والإعراب للنحاس 3/394 ومشكل الإعراب 2/226 والبيان للأنباري 2/295 والتبيان 1082 والدر المصون 4/516 والكشاف 3/322 والبحر 7/335.
[46160]:يقصد المجاز المرسل الذي علاقته اعتبار ما سيكون كقوله: "إني أراني أعصر خمرا".
[46161]:الكشاف والتبيان وبقية المراجع السابقة وانظر: القرطبي 15/25.
[46162]:في "ب" يدخلونها. تحريف.
[46163]:زاد المسير 7/16 والقرطبي 15/25 والسبعة 540 والإتحاف 365 ومعاني الفراء 2/377.
[46164]:ولم يرجح ابن الأنباري هذا الوجه قال: "أن تكون نافية في قراءة من قرأ: "عملت" بغير هاء. والوجه الأول –يقصد الموصول- أوجه الوجهين، لأنها إذا كانت نافية افتقرت إلى تقدير مفعول لعملت". انظر البيان 2/295.
[46165]:قاله الزمخشري في الكشاف 3/322.
[46166]:في "ب" لأن الأخوان. بتحريف نحوي.
[46167]:لفظ "ها" سقط من "ب".
[46168]:سقط من "ب" عجز المضاف إليه. وانظر: الدر المصون 4/517.
[46169]:في "ب" أنهما تحريف.
[46170]:التبيان لأبي البقاء 1082 والسمين 4/517.
[46171]:في كونهما في موضع جر عطفا على ثمره ويجوز أن يكون نصبا على موضع من ثمره.
[46172]:في "ب" أي وما عملت خطأ.
[46173]:ذكر هذا الوجه أبو حيان في البحر 7/335 ومن بعده السمين 4/517.
[46174]:بهمزة زيادة على الفخر الرازي وفي "ب" إذ من النبات.
[46175]:انظر: الرازي 26/68.
[46176]:لأن الغرض الانتفاع بما هو بين أيديهم والشكر من جهة التدبر فلما لم ينتفعوا قيل لهم ذلك.
[46177]:سقط من "ب".