قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : فلما أبى الفاعلون المنكر قبول النصيحة ، { أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : ارتكبوا المعصية { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين ، وسكت عن الساكتين ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ، ولا ارتكبوا عظيما فيذموا ،
{ فلما عتوا عما نهوا عنه } تكبروا عن ترك ما نهوا عنه كقوله تعالى : { وعتوا عن أمر ربهم } . { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } كقوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم ، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا للأولى . روي : أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم ، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق ، فأصبحوا يوما ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين فقالوا : إن لهم شأنا فدخلوا عليهم فإذا هم قردة فلم يعرفوا أنسبائهم ولكن القردة تعرفهم ، فجعلت تأتي انسباءهم وتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم ثم ماتوا بعد ثلاث . وعن مجاهد مسخت قلوبهم لا أبدانهم .
( العتو ) تقدم عند قوله تعالى : { فعقروا الناقة وعَتوا عن أمر ربهم } في هذه السورة ( 77 ) .
وقوله : { قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين } في سورة البقرة ( 65 ) ، ولأجل التشابه بين الآيتين ، وذكر العدْوِ في السبت فيهما ، وذكرِه هنا في الإخبار عن القرية ، جزم المفسرون بأن الذين نسوا مَا ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه هم أهل هذه القرية ، وبأن الأمة القائلة { لم تعظون قوماً } هي أمة من هذه القرية فجزموا بأن القصة واحدة ، وهذا وإن كان لا ينبو عنه المقام ، كما أنه لا يمنعُ تشابه فريقين في العذاب ، فقد بينتُ أن ذلك لا ينافي جعل القصة في معنى قصتين من جهة الاعتبار .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما تمرّدوا فيما نهوا عنه من اعتدائهم في السبت، واستحلالهم ما حرّم الله عليهم من صيد السمك وأكله وتمادوا فيه "قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ": أي بُعداء من الخير... فصاروا قردة لها أذناب تَعَاوَى بعد ما كانوا رجالاً ونساء...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله تعالى:"كونوا قردة" صيغته صيغة الأمر، والمراد به الإخبار: من أنه جعلهم قردة على وجه يسهل عليه ولم يتعب به ولم ينصب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا انتهت مدةُ الإمهال فليس بعده إلا حقيقة الاستئصال، وإذا سقط العبدُ من عين الله لم ينتعشْ بعده أبداً...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{فلما عتوا} أي طغوا واستكبروا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلَمَّا عَتَوْاْ عَمَّا نُهُواْ عَنْهُ} فلما تكبروا عن ترك ما نهوا عنه، كقوله: {وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ} [الأعراف: 77]، {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً} عبارة عن مسخهم قردة، كقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] والمعنى: أنّ الله تعالى عذبهم أوّلاً بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم. وقيل: فلما عتوا، تكرير لقوله: {فَلَمَّا نَسُواْ} والعذاب البئيس: هو المسخ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله: {بما كانوا يفسقون} أي لأجل ذلك وعقوبة عليه، و «العتو» الاستعصاء وقلة الطواعية، وقوله: {قلنا لهم} يحتمل أن يكون قولاً بلفظ من ملك أسمعهم ذلك فكان أذهب في الإغراب والهوان والإصغار، ويحتمل أن يكون عبارة عن المقدرة المكونة لهم قردة، وخاسئين: مبعدين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر ما هددهم به من العذاب الشديد، أتبعه الهلاك فقال: {فلما عتوا} أي تكبروا جلافة ويبساً عن الانتهاء {عن ما نهوا عنه} أي بعد الأخذ بالعذاب الشديد، وتجاوزوا إلى الاجتراء على جميع المعاصي عناداً وتكبراً بغاية الوقاحة وعدم المبالاة، كان مواقعتهم لذلك الذنب وإمهالهم مع الوعظ أكسبتهم ذلك وغلظت أكبادهم عن الخوف بزاجر العذاب، من عتا يعتو عتواً -إذا أقبل على الآثام، فهو عات، قال عبد الحق في كتابة الواعي: وقيل إذا أقدم على كل أموره، ومنه هذه الآية، وقيل: العاتي هو المبالغ في ركوب المعاصي، وقيل: المتمرد الذي لا ينفع فيه الوعظ والتنبيه، ومنه قوله سبحانه {فعتوا عن أمر ربهم} أي جاوزوا المقدار والحد في الكفر- انتهى. وحقيقته: جاوزوا الأمر إلى النهي، أو جاوزوا الائتمار بأمره، والمادة ترجع إلى الغلظ والشدة والصلابة {قلنا لهم} أي بما لنا من القدرة العظيمة {كونوا قردة} أي في صورة القردة حال كونكم {خاسئين} أي صاغرين مطرودين بعيدين عن الرحمة كما يبعد الكلب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلما عتوا عما نهوا عنه} أي فلما عتوا عن أمر ربهم عتو إباء واستكبار عن ترك ما نهاهم عنه الواعظون {قلنا لهم كونوا قردة خاسئين} هذا القول للتكوين أي تعلقت إرادتنا بأن يكونوا قردة خاسئين أي صاغرين أذلاء فكانوا كذلك.
قيل: إن هذا بيان وتفصيل للعذاب البئيس في الآية السابقة، وقيل: هو عذاب آخر، وإن الله عاقبهم أولا بالبؤس والشقاء في المعيشة، لأن من الناس من لا يربيه ويهذبه إلا الشدة والبؤس، كما أن منهم من يربيه ويهذبه الرخاء والنعمة، وبكل يبتلي الله عباده ويمتحنهم كما قال: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء: 35] وقال في بني إسرائيل {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} [الأعراف: 168] ولكن هؤلاء القوم لم يزدهم البؤس والسوء إلا عتوا وإصرارا على الفسق والظلم فدمدم عليهم ربهم بذنبهم، ومسخهم مسخ خلق وبدن فكانوا قردة بالفعل، أو مسخ خلق ونفس، فكانوا كالقردة في طيشها وشرها، وإفسادها لما تصل إليه أيديها. والأول قول الجمهور والثاني قول مجاهد قال: مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كان ذلك العذاب البئيس هو المسخ عن الصورة الآدمية إلى الصورة القردية! لقد تنازلوا هم عن آدميتهم، حين تنازلوا عن أخص خصائصها -وهو الإرادة التي تسيطر على الرغبة- وانتكسوا إلى عالم "الحيوان "حين تخلوا عن خصائص "الإنسان". فقيل لهم أن يكونوا حيث أرادوا لأنفسهم من الانتكاس والهوان! أما كيف صاروا قردة؟ وكيف حدث لهم بعد أن صاروا قردة؟ هل انقرضوا كما ينقرض كل ممسوخ يخرج عن جنسه؟ أم تناسلوا وهم قردة؟... إلى آخر هذه المسائل التي تتعدد فيها روايات التفسير... فهذا كله مسكوت عنه في القرآن الكريم؛ وليس وراءه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء.. فلا حاجة بنا نحن إلى الخوض فيه.