قوله تعالى : { ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك } . بأبصارهم الظاهرة ، { أفأنت تهدي العمي } ، يريد عمى القلب ، { ولو كانوا لا يبصرون } ، وهذا تسلية من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ، يقول : إنك لا تقدر أن تسمع من سلبته السمع ، ولا أن تهدي من سلبته البصر ، ولا أن توفق للإيمان من حكمت عليه أن لا يؤمن .
ثم ذكر انسداد الطريق الثاني ، وهو : طريق النظر فقال : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ْ } فلا يفيده نظره إليك ، ولا سبر أحوالك شيئًا ، فكما أنك لا تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ، فكذلك لا تهدي هؤلاء .
فإذا فسدت عقولهم وأسماعهم وأبصارهم التي هي الطرق الموصلة إلى العلم ومعرفة الحقائق ، فأين الطريق الموصل لهم إلى الحق ؟
ودل قوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ْ } الآية ، أن النظر إلى حالة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهديه وأخلاقه وأعماله وما يدعو إليه من أعظم الأدلة على صدقه وصحة ما جاء به ، وأنه يكفي البصير عن غيره من الأدلة .
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ } أي : ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة ، والسمت الحسن ، والخلق العظيم ، والدلالة الظاهرة ، على نبوءتك لأولي البصائر{[14245]} والنهى ، وهؤلاء ينظرون كما ينظر
غيرهم ، ولا يحصل لهم من الهداية شيء مما{[14246]} يحصل لغيرهم ، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار ، والكافرون ينظرون إليك بعين الاحتقار ، { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا } [ الفرقان : 41 ، 42 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنهُمْ مّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن هؤلاء المشركين ، مشركي قومك ، من ينظر إليك يا محمد ويرى أعلامك وحججك على نبوّتك ، ولكن الله قد سلبه التوفيق فلا يهتدي ، ولا تقدر أن تهديه ، كما لا تقدر أن تحدث للأعمى بصرا يهتدي به . أفأنْتَ تَهْدِي العُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ يقول : أفأنت يا محمد تحدث لهؤلاء الذين ينظرون إليك وإلى أدلتك وحججك فلا يوفقون للتصديق بك أبصارا لو كانوا عميا يهتدون بها ويبصرون ؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك ، ولا يقدر عليه أحد سواي ، فكذلك لا تقدر على أن تبصرهم سبيل الرشاد ، أنت ولا أحد غيري ، لأن ذلك بيدي وإليّ . وهذا من الله تعالى ذكره تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم عن جماعة ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذّب ، وتعزية له عنهم ، وأمر برفع طمعه من إنابتهم إلى الإيمان بالله .
ولما كان الغرض هنا التعجيب من حالهم إذ لم يصلوا إلى الهدى كان عدم فهمهم وعدم تبصرهم كناية عن كونهم لا يعقلون وكونهم لا بصائر لهم . فمعنى : { لا يعقلون } ليس لهم إدراك العقول ، أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم فإن الأصم العاقل ربما تفرس في مخاطَبِه واستدل بملامحه .
وأما معنى : { لا يبصرون } فإنهم لا بصيرة لهم يتبصرون بها . وهو الذي فسر به « الكشاف » وهو الوجه ، إذ بدونه يكون معنى : { لا يبصرون } مساوياً لمعنى العمى فلا تقع المبالغة ب ( لو ) الوصلية موقعها ، إذ يصير أفأنت تهدي العمي ولو كانوا عمياً . ومقتضى كلام « الكشاف » أنه يقال : أبصر إذا استعمَل بصيرته وهي التفكير والاعتبار بحقائق الأشياء . وكلامُ « الأساس » يحوم حوله . وأيَّاً ما كان فالمراد بقوله : { لا يبصرون } معنى التأمل ، أي ولو انضم إلى عَمى العُمي عدم التفكير كما هو حال هؤلاء الذين ينظرون إليك سواء كان ذلك مدلولاً لفعل { يبصرون } بالوضع الحقيقي أو المجازي . فبهذا النظم البديع المشتمل على الاستعارة في أوله وعلى الكناية في آخره وعلى التعجيب وتقويته في وسطه حصل تحقيق أنهم لا ينتفعون بأسماعهم ولا بأبصارهم وأنهم لا يعقلون ولا يتبصرون في الحقائق .
وقد علم أن هذه الحالة التي اتصفوا بها هي حالة أصارَهم الله إليها بتكوينه وجعلها عقاباً لهم في تمردهم في كفرهم وتصلبهم في شركهم وإعراضهم عن دعوة رسوله ولذلك جعلهم صماً وعمياً . فليس المعنى أن الله هو الذي يسمعهم ويهديهم لا أنت لأن هذا أمر معلوم لا يحتاج للعبارة .
وقد أورد الشيخ ابن عرفة سؤالاً عن وجه التفرقة بين قوله : { من يستمعون } وقوله : { من يَنظر } إذ جيء بضمير الجمع في الأول وبضمير المفرد في الثاني . وأجاب عنه بأن الإسماع يكون من الجهات كلها وأما النظر فإنما يكون من الجهة المقابلة . وهو جواب غير واضح لأن تعدد الجهات الصالحة لأحد الفعلين لا يؤثر إذا كان المستمعون والناظرون متحدين ولأن الجمع والإفراد هنا سواء لأن مفاد ( مَن ) الموصولة فيهما هو من يصدر منهم الفعل وهم عدد وليس الناظر شخصاً واحداً .
والوجه أن كلا الاستعمالين سواء في مراعاة لفظ ( من ) ومعناها ، فلعل الابتداء بالجمع في صلة ( مَن ) الأولى الإشارة إلى أن المراد ب ( من ) غير واحد معيَّن وأن العدول عن الجمع في صلة ( من ) الثانية هو التفنن وكراهية إعادة صيغة الجمع لثقلها لا سيما بعد أن حصل فهم المراد ، أو لعل اختلاف الصيغتين للمناسبة مع مادة فعلي ( يستمع ) و ( ينظر ) . ففعل ( ينظر ) لا تلائمه صيغة الجمع لأن حروفه أثقل من حروف ( يَستمع ) فيكون العدول استقصاء لمقتضى الفصاحة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أفأنت تهدي العمي ولو}، يعني إذ {كانوا لا يبصرون} الهدى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المشركين، مشركي قومك، من ينظر إليك يا محمد ويرى أعلامك وحججك على نبوّتك، ولكن الله قد سلبه التوفيق فلا يهتدي، ولا تقدر أن تهديه، كما لا تقدر أن تحدث للأعمى بصرا يهتدي به، "أفأنْتَ تَهْدِي العُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ "يقول: أفأنت يا محمد تحدث لهؤلاء الذين ينظرون إليك وإلى أدلتك وحججك فلا يوفقون للتصديق بك أبصارا -لو كانوا عميا- يهتدون بها ويبصرون؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك، ولا يقدر عليه أحد سواي، فكذلك لا تقدر على أن تبصرهم سبيل الرشاد، أنت ولا أحد غيري، لأن ذلك بيدي وإليّ. وهذا من الله تعالى ذكره تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم عن جماعة ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذّب، وتعزية له عنهم، وأمر برفع طمعه من إنابتهم إلى الإيمان بالله.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
..."أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون" أي نظرهم إليك لا على وجه الاستفادة بمنزلة نظر الأعمى الذي لا يبصر... وهو على وجهين: عمى العين، وعمى القلب. وكلاهما يصلح له هذا الحد.
والإبصار: إدراك المبصر بما يكون به مبصرا، كما أن السمع: إدراك المسموع بما به يكون مسموعا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ سُدَّتْ بصيرتُه بالغفلة والغيبة لم يَزدْه إدراكُ البَصَرِ إلا حجبةً على حجبة، ومَنْ لم ينظر إلى الله بالله، ولم يسمع من الله بالله، فقصاراه العمى والصمم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وأتحسب أنك تقدر على هداية العمي ولو انضم إلى العمى -وهو فقد البصر- فقد البصيرة؛ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن. وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء، يعني أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا، كالصمّ والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول.
وقوله: {أَفَأَنت... أَفَأَنتَ} دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلاّ الله عزّ وجلّ بالقسر والإلجاء، كما لا يقدر على ردّ الأصم والأعمى المسلوبي العقل حديدي السمع والبصر راجحي العقل، إلاّ هو وحده.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} أي: ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة، والسمت الحسن، والخلق العظيم، والدلالة الظاهرة، على نبوءتك لأولي البصائر والنهى، وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم، ولا يحصل لهم من الهداية شيء مما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، والكافرون ينظرون إليك بعين الاحتقار، {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا} [الفرقان: 41، 42]...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ومِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} أي يوجه أشعة بصره إليك عند ما تقرأ القرآن، ولكنه لا يبصر ما آتاك الله من نور الإيمان، وهيبة الخشوع للديان، وكمال الخلق والخلق، وأمارات الهدى والحق، وآيات التزام الصدق، التي عبر عنها أحد أولي البصيرة بقوله عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما هذا بوجه كذاب، وقال فيه آخر:
لو لم تكن فيه آيات مبينة***كانت بديهته تنبيك بالخبر
وقال حكيم إفرنجي: كان محمد يقرأ القرآن في حالة وَلَه وتأثر وتأثير، فيجذب به إلى الإيمان أضعاف من جذبتهم آيات موسى وعيسى (عليهم السلام).
ومن فقد البصيرة العقلية والقلبية فيما يراه ببصره- فجمع بين وجود النظر الحسي بالعينين وعدم النظر المعنوي بالفعل- فهو محروم من هداية البصر -وهي البصيرة التي يمتاز بها الإنسان عن بصر الحيوان- فكأنه أعمى العينين {أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ ولَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} أي أنك أيها الرسول لست بقادر على هداية العمي بدلائل البصر الحسية، فكذلك لا تقدر على هدايتهم بدلائله العقلية، ولو كانوا فاقدين لنعمة البصيرة التي تدركها؟ وقد أسند فعل الاستماع إلى الجمع لكثرة تفاوت المستمعين واختلاف أحوالهم فيه، وأسند فعل النظر إلى المفرد لأنه جنس واحد، ولكنه أفرد السمع وجمع الأبصار في بضع آيات منها 31 من هذه السورة لما ذكرناه في تفسيرها.
والمراد من الآيتين أن هداية الدين كهداية الحس، لا تكون إلا للمستعد لها بهداية العقل، وأن هداية العقل لا تحصل إلا بتوجه النفس وصحة القصد، وهذا الصنف من الكفار قد انصرفت أنفسهم عن استعمال عقولهم في الدلائل البصرية والسمعية لإدراك مطلب من المطالب مما وراء شهواتهم وتقاليدهم، وليس المراد أنهم فقدوا نعمة العقل الغريزي ولا نعمة الحواس؛ بل استعمالهما النافع كما قال في سورة الأعراف: {ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ والإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لاّ َيُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] فراجع تفسيرها للاعتبار والاتعاظ.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ودل قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} الآية، أن النظر إلى حالة النبي صلى الله عليه وسلم، وهديه وأخلاقه وأعماله وما يدعو إليه من أعظم الأدلة على صدقه وصحة ما جاء به، وأنه يكفي البصير عن غيره من الأدلة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} نظر الأبله الذي لا يعي معاني الأشياء التي ينظر إليها، فلا يجد منها إلا الصورة من دون أن يتعرف ملامحها، أو يدقّق في مضمونها، أو يدرك آفاقها، وبذلك لا يتحوّل البصر عنده إلى أداةٍ للمعرفة، بل يبقى مجرد آلة تصوير ترصد الهيئة الظاهرية للشيء، ثم تتركها في سلّة المهملات. وهكذا تكون النظرة البلهاء المغلقة، حالة ظلام عقليّ في حركة الشخصية، فيتساوى أمامها الأعمى والبصير، لأن النتائج السلبيّة واحدةٌ أمام الحالتين، فلا تتعقد يا محمد من ذلك، لأنهم ينظرون إليك بعيون مبصرة في حركة الضوء، عمياء في حركة العقل. {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج: 46].