السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمِنۡهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيۡكَۚ أَفَأَنتَ تَهۡدِي ٱلۡعُمۡيَ وَلَوۡ كَانُواْ لَا يُبۡصِرُونَ} (43)

ثم وصف القسم الثاني في قوله تعالى : { ومنهم من ينظر إليك } أي : يعاينون دلائل نبوّتك ولا يصدّقونك { أفأنت تهدي العمي } أي : أتقدر على هدايتهم { ولو كانوا } مع العمى { لا يبصرون } أي : لا بصيرة لهم ؛ لأنَّ الأعمى الذي في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن ، فأمّا العمى مع الحمق فجهد البلاء ، فلا تقدر على هداية من أعمى الله بصيرته ، فهؤلاء في اليأس من أن يقبلوا أو يصدقوا كالصم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر ، فلا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلا الله تعالى .

تنبيه : اختلف في أنّ السمع أفضل أو البصر فمنهم من قال : السمع ، واحتج على ذلك بأمور منها تقدّمه في الآية ، ومنها : أنّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب ، والقوّة الباصرة لا تدرك المرئيّ إلا من جهة واحدة ، وهي المقابل ، ومنها : أنّ الإنسان إنما يستفيد العلم من التعلم من الأستاذ ، وذلك لا يكون إلا بقوة السمع ، فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع . ومنها : أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم ، فنبوّتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية ، وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأحوال المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع ، وبيان الأحكام . ومنها : أنّ المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق بالكلام ، وإنما ينتفع بذلك بالقوّة السامعة ، فمتعلق السمع النطق الذي يحصل به شرف الإنسان ، ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال ، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات .

ومنهم من قال : البصر ، واحتج بأمور منها : أن آلة القوّة الباصرة هي النور ، وآلة القوّة السامعة هي الهواء ، والنور أشرف من الهواء . ومنها : أنّ جمال الوجه يحصل بالبصر وبذهابه عيبه وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً في جمال وجهه ، والعرب تسمي : العينين الكريمتين ، ولا تصف السمع بمثل هذا ، وفي الحديث يقول الله تعالى : «من أذهبت كريمتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة » . ومنها : أنهم قالوا في المثل المشهور : ليس وراء العيان بيان . وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الإبصار . ومنها : أنّ كثيراً من الأنبياء سمع الله ، واختلفوا في أنه هل رآه منهم أحد أم لا ؟ وأيضاً فإنّ موسى عليه السلام أسمعه الله تعالى كلامه من غير سبق سؤال والتماس ، فلما طلب الرؤية قال : لن تراني ، وذلك يدل على أنَّ حال الرؤية أعلى من حال السماع ، وهذا هو الظاهر .