ثم أثنى على الكتاب بتمام البيان فقال : { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : فصل كل شيء من أنواعه على حدته ، وهذا يستلزم البيان التام ، والتفريق بين كل شيء ، وتمييز الحقائق . { قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أي : باللغة الفصحى أكمل اللغات ، فصلت آياته وجعل عربيًا . { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : لأجل أن يتبين لهم معناه ، كما تبين لفظه ، ويتضح لهم الهدى من الضلال ، والْغَيِّ من الرشاد .
وأما الجاهلون ، الذين لا يزيدهم الهدى إلا ضلالاً ، ولا البيان إلا عَمًى فهؤلاء لم يُسَقِ الكلام لأجلهم ، { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }
وقوله : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : بُينت معانيه وأحكمت أحكامه {[25608]} ، { قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أي : في حال كونه لفظا عربيا ، بينا واضحا ، فمعانيه مفصلة ، وألفاظه واضحة غير مشكلة ، كقوله : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] أي : هو معجز من حيث لفظه ومعناه ، { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] .
وقوله : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماءُ الراسخون .
{ تَنزِيلٌ مّنَ الرّحْمََنِ الرّحِيمِ * كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } .
قال أبو جعفر : قد تقدم القول منا فيما مضى قبلُ في معنى «حم » ، والقول في هذا الموضع كالقول في ذلك .
وقوله : تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ يقول تعالى ذكره : هذا القرآن تنزيل من عند الرحمن الرحيم نزّله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم كِتابٌ فُصّلَتْ آياتُهُ يقول : كتاب بينت آياته كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : فُصّلَتْ آياتُهُ قال : بُيّنت آياتُه .
وقوله : قُرآنا عَرَبِيّا يقول تعالى ذكره : فُصلت آياته هكذا .
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب القرآن ، فقال بعض نحوييّ البصرة قوله : كِتابٌ فُصّلت الكتاب خبر لمبتدأ أخبر أن التنزيل كتاب ، ثم قال : فُصّلَتْ آياتُهُ قُرآنا عَرَبِيّا شغل الفعل بالاَيات حتى صارت بمنزلة الفاعل ، فنصب القرآن ، وقال : بَشِيرا ونَذِيرا على أنه صفة ، وإن شئت جعلت نصبه على المدح كأنه حين ذكره أقبل في مدحته ، فقال : ذكرنا قرآنا عربيا بشيرا ونذيرا ، وذكرناه قرآنا عربيا ، وكان فيما مضى من ذكره دليل على ما أضمر . وقال بعض نحوييّ الكوفة : نصب قرآنا على الفعل : أي فصلت آياته كذلك . قال : وقد يكون النصب فيه على القطع ، لأن الكلام تامّ عند قوله «آياته » . قال : ولو كان رفعا على أنه من نعت الكتاب كان صوابا ، كما قال في موضع آخر : كِتابٌ أنْزَلْناهُ إلَيْكَ مُبارَكٌ وقال : وكذلك قوله : بَشِيرا وَنَذِيرا فيه ما في قُرآنا عَربيّا .
وقوله : لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يقول : فصلت آيات هذا الكتاب قرآنا عربيا لقوم يعلمون اللسان العربي ، بشيرا لهم يبشرهم إن هم آمنوا به ، وعملوا بما أنزل فيه من حدود الله وفرائضه بالجنة ، ونذيرا يقول ومنذرا من كذّب به ولم يعمل بما فيه بأمر الله في عاجل الدنيا ، وخلود الأبد في نار جهنم في آجل الاَخرة .
وقوله : فَأعْرَضَ أكْثَرُهُمْ يقول تعالى ذكره : فاستكبر عن الإصغاء له وتدبر ما فيه من حجج الله ، وأعرض عنه أكثر هؤلاء القوم الذين أنزل هذا القرآن بشيرا لهم ونذيرا ، وهم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ يقول : فهم لا يصغون له فيسمعوا إعراضا عنه واستكبارا .
وقيل { فصلت } في التنزيل ، أي نزل نجوماً ، لم ينزل مرة واحدة ، وقيل { فصلت } بالمواقف وأنواع أواخر الآي ، ولم يكن يرجع إلى قافية ونحوها كالشعر والسجع . و : { قرآناً } نصب على الحال عند قوم ، وهي مؤكدة ، لأن هذه الحال ليست مما تنتقل . وقالت فرقة : هو نصب على المصدر ، وقالت فرقة : { قرآناً } توطئة للحال . و : { عربياً } حال . وقالت فرقة : { قرآناً } نصب على المدح وهو قول ضعيف .
وقوله تعالى : { لقوم يعلمون } قالت فرقة : معناه يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل وينظرون على طريق نظر ، فكأن القرآن فصلت آياته لهؤلاء ، إذ هم أهل الانتفاع بها ، فخصوا بالذكر تشريفاً ، ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل له . وقالت فرقة : { يعلمون } متعلق في المعنى بقوله : { عربياً } أي جعلناه بكلام العرب لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنها لم يخرج شيء منها عن كلام العرب ، وكأن الآية رادة على من زعم أن في كتاب الله ما ليس في كلام العرب ، فالعلم على هذا التأويل أخص من العلم على التأويل الأول ، والأول أشرف معنى ، وبين أنه ليس في القرآن إلا ما هو من كلام العرب إما من أصل لغتها وإما عربته من لغة غيرها ثم ذكر في القرآن وهو معرب مستعمل .
والكتاب : اسم لمجموع حروف دالة على ألفاظ مفيدة وسمي القرآن كتاباً لأن الله أوحى بألفاظه وأمر رسوله بأن يكتب ما أُوحي إليه ، ولذلك اتخذ الرسول كتَّاباً يكتبون له كل ما ينزل عليه من القرآن . وإيثار الصفتين { الرحمن الرَّحِيمِ } على غيرهما من الصفات العلية للإِيماء إلى أن هذا التنزيل رحمة من الله بعباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور كقوله تعالى : { فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة } [ الأنعام : 157 ] وقولِه تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] وقوله : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } [ العنكبوت : 51 ] .
والجمع بين صفتي { الرحمن الرَّحِيم } للإيماء إلى أن الرحمة صفة ذاتيَّة لله تعالى ، وأن متعلقها منتشر في المخلوقات كما تقدم في أول سورة الفاتحة والبسملة . وفي ذلك إيماء إلى استحماق الذين أعرضوا عن الاهتداء بهذا الكتاب بأنهم أعرضوا عن رحمة ، وأن الذين اهتدوا به هم أهل المرحمة لقوله بعد ذلك : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى } [ فصلت : 44 ] .
ومعنى : { فُصِّلَتْ ءاياته } بُينت ، والتفصيل : التبيين والإخلاء من الالتباس . والمراد : أن آيات القرآن واضحة الأغراض لا تلتبس إلا على مكابر في دلالة كل آية على المقصود منها ، وفي مواقعها وتمييز بعضها عن بعض في المعنى باختلاف فنون المعاني التي تشتمل عليها ، وقد تقدم في طالعة سورة هود .
ومن كمال تفصيله أنه كان بلغة كثيرة المعاني ، واسعة الأفنان ، فصيحة الألفاظ ، فكانت سالمة من التباس الدلالة ، وانغلاق الألفاظ ، مع وفرة المعاني غير المتنافية في قلة التراكيب ، فكان وصفه بأنه عربي من مكملات الإِخبار عنه بالتفصيل . وقد تكرر التنويه بالقرآن من هذه الجهة كقوله : { بلسان عربي مبين } [ الشعراء : 195 ] ولهذا فرع عليه ذم الذين أعرضوا عنه بقوله هنا { فَأعْرَضَ أكْثَرُهُم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون } وقوله هنالك : { كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم } [ الشعراء : 200 ، 201 ] .
والقرآن : الكلام المقروء المتلوّ . وكونه قُرآناً من صفات كماله ، وهو أنه سهْل الحفظ ، سهْل التلاوة ، كما قال تعالى : { ولقد يسرنا القرآن للذكر } [ القمر : 22 ] ولذلك كان شأن الرسول صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن عن ظهر قلب ، وكان شأن المسلمين الاقتداء به في ذلك على حسب الهمم والمَكْنَات ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى تفضيل المؤمنين بما عندهم من القرآن . وكان يوم أحد يقدم في لحد شهدائه مَن كان أكثرهم أخذاً للقرآن تنبيهاً على فضل حفظ القرآن زيادة على فضل تلك الشهادة .
وانتصب { قرآناً } على النعت المقطوع للاختصاص بالمدح وإلا لكان مرفوعاً على أنه خبر ثالث أو صفة للخبر الثاني ، فقوله : قرآناً } مقصود بالذكر للإشارة إلى هذه الخصوصية التي اختص بها من بين سائر الكتب الدينية ، ولولا ذلك لقال : كتاب فصّلت آياته عربي كما قال في سورة الشعراء ( 195 ) { بلسان عربي مبين } ولك أن تجعله منصوباً على الحال .
وقوله : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } صفة ل { قرآناً } ظرفٌ مستقر ، أي كائناً لقوم يعلمون باعتبار ما أفاده قوله : { قُرءَاناً عَرِبيَّاً } من معنى وضوح الدلالة وسطوع الحجة ، أو يتعلق { لِقَوْمٍ يَعْلَمُون } بقوله : { تنزيل } أو بقوله : { فُصِّلَتْ ءاياته } على معنى أن فوائد تنزيله وتفصيله لقوم يعلمون دون غيرهم فكأنه لم يُنزل إلا لهم ، أي فلا بدع إذا أعرض عن فهمه المعاندون فإنهم قوم لا يعلمون ، وهذا كقوله تعالى : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } [ يونس : 101 ] وقوله : { وما يعقلها إلا العالمون } [ العنكبوت : 43 ] وقوله : { إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } [ يوسف : 2 ] وقوله : { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } [ العنكبوت : 49 ] .