اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (3)

قوله : «كتاب » قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً لِتَنْزِيلُ ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون بدلاً من تنزيل{[48501]} ، وأن يكون فاعلاً بالمصدر ، وهو تنزيل أي نزل الكتاب ، قاله أبو البقاء . و { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } صفة «لِكتَابٍ »{[48502]} .

قوله : «قرآناً » في نصبة ستةُ أوجه :

أحدها : هو حال بنفسه . و«عَرَبِيًّا » صفته ، أو حال مُوطِّئَة{[48503]} ، والحال في الحقيقة «عربياً » وهي حال غير متنقلة وصاحب الحال إما كتاب لوصفه بفصلت ، وما «آياته » ، أو منصوب على المصدر{[48504]} ، أي يقرأه قرآناً أو على الاختصاص والمدح{[48505]} ، أو مفعول ثانٍ «لفصلت »{[48506]} ، أو منصوب بتقدير فعل ، أي فصَّلْنَاهُ قُرْآناً{[48507]} .

قوله : «لِقَومٍ » فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يتعلق «بفصلت » أي فصلتُ لهؤلاءِ وبينتُ لهم ؛ لأنهم هم المنتفعون بها وإن كانت مفصلة في نفسها لجميع الناس .

الثاني : أن يتعلق بمحذوف صفة «لقرآنا » ، أي كائنا لهؤلاء خاصة ، لما تقدم من المعنى .

الثالث : أن يتعلق بتنزيل . وهذا إذا لم تجعل «مِنَ الرَّحْمنِ » صفة له ؛ لأنك إن جعلت «من الرحمن » صفة له ، فقد أعلمت المصدر الموصوف وإذا لم يكن «كتاب » خبراً عنه ، ولا بدلاً منه ؛ لئلا يلزم الإخبار عن الموصول أو المبدل منه قبل تمام صلته ، ومن يتسع في الظرف وعديله لم يبال بشيءٍ .

وأما إذا جعلت «من الرحمن » متعلقاً به و«كتاب » فاعلاً به فلا يَضُرُّ ذلك ؛ لأنه من تتماته وليس بأجنبي{[48508]} .

فصل

اعلم أنه تعالى حكم على هذه السورة بأشياء :

أولها : كونها تنزيلاً ، والمراد المنزل ، والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور ، كقوله : هذا بناء الأمير أي مبنيّه ، وهذا الدِّرهم ضربُ السُّلطان ( أي مضروبه ){[48509]} ومعنى كونه منزلاً : أن الله تعالى كتبها في اللوح المحفوظ ، وأمر جبريل ، عليه ( الصلاة ){[48510]} والسلام أن يحفظ الكلمات ثم ينزل بها على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويُؤَدِّيها إليه ، فلما حصل تفهيمُ هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل عليه ( الصلاة ){[48511]} والسلام سمي بذلك تنزيلاً .

وثانيها : كون ذلك التنزيل من الرحمن الرحيم ، وذلك يدل على أن ذلك التنزيل نعمةٌ عظيمة من الله تعالى ، لأن الفعل المقرون بالصفة لا بد وأن يكون مناسباً لتلك الصفة ، فكونه تعالى رحمن{[48512]} رحيماً صفتان دالتان على كما الرحمة ، فالتنزيلُ المضاف إلى هاتين الصفتين لا بدَّ وأن يكون دالاً على أعظم وجوه الرحمة والنعمة والأمر كذلك ؛ لأن الخَلْقَ في هذا العالم كالمرضى والمُحتاجين ، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية ، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية ، فكان أعظم النعم من الله تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليهم .

وثالثها : كونه كتاباً ، وتقدم أن هذا الاسم مشتق من الكَتْبِ وهو الجمع ، فسمي كتاباً لأنه جمع فيه عِلْمَ الأولين والآخرين .

ورابعها : قوله فصلت آياته ، أي ميزت وجعلت تفاصيل في معانٍ مختلفةٍ فبعضها وصف ذات الله ، وصفاتِ التنزيه والتقديس وشرح كمال عمله وقدرته ورحمته وعجائب أصول خلقه من السموات والكواكب وتعاقب الليل والنهار ، وعجائب أحوال النبات والحيوان وبعضها في المواعظ والنصائح ، وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس ، وبعضها في قَصَص الأنبياء وتواريخ الماضين ، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة مثل ما في القرآن .

وخامسها : قوله : قرآناً وقد سبق توجيه هذا الاسم .

وسادسها : قوله عربياً أي إنما نزل بلغة العرب ، ويؤكده قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [ إبراهيم : 5 ] .

وسابعها : قوله «لقوم يعلمون » أي جعلناه قرآناً لأَجْلِ أنا أنزلناه على قوم عربٍ بلغتهم ليفهموا منه المراد{[48513]} .

/خ4


[48501]:التبيان 1023.
[48502]:ذكره الزجاج في معاني القرآن 4/379 وانظر الكشاف 3/441 والقرطبي 15/337.
[48503]:قاله العكبري في التبيان 23/11.
[48504]:ذكره أبو حيان في البحر 15/337.
[48505]:قاله الأخفش في معانيه 680.
[48506]:السابق.
[48507]:القرطبي 15/337، والبحر المحيط 7/483، وانظر هذا الإعراب كله في الدر المصون 4/716.
[48508]:المرجع الأخير السابق، وانظر هذا كله بالمعنى من الكشاف 3/441 والبحر المحيط 7/483.
[48509]:سقطت من الأصل أ.
[48510]:زيادة من أ.
[48511]:كذلك سقط من ب.
[48512]:في النسختين والرازي رحمانا منونا.
[48513]:هذه الأوجه ذكرها الرازي في تفسيره 27/94.