قوله تعالى : { الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر } قال الزجاج : هذا من صفة ناصريه ، ومعنى { مكناهم } نصرناهم على عدوهم حتى يتمكنوا من البلاد . قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال الحسن : هذه الأمة { ولله عاقبة الأمور } يعني : آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه ، يعني : يبطل كل ملك سوى ملكه ، فتصير الأمور إليه بلا منازع ولا مدع .
ثم ذكر علامة من ينصره ، وبها يعرف ، أن من ادعى أنه ينصر الله وينصر دينه ، ولم يتصف بهذا الوصف ، فهو كاذب فقال : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : ملكناهم إياها ، وجعلناهم المتسلطين عليها ، من غير منازع ينازعهم ، ولا معارض ، { أَقَامُوا الصَّلَاةَ } في أوقاتها ، وحدودها ، وأركانها ، وشروطها ، في الجمعة والجماعات .
{ وَآتُوا الزَّكَاةَ } التي عليهم خصوصا ، وعلى رعيتهم عموما ، آتوها أهلها ، الذين هم أهلها ، { وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ } وهذا يشمل كل معروف حسنه شرعا وعقلا ، من حقوق الله ، وحقوق الآدميين ، { وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } كل منكر شرعا وعقلا ، معروف قبحه ، والأمر بالشيء والنهي عنه يدخل فيه ما لا يتم إلا به ، فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم ، أجبروا الناس على التعلم والتعليم ، وإذا كان يتوقف على تأديب مقدر شرعا ، أو غير مقدر ، كأنواع التعزير ، قاموا بذلك ، وإذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له ، لزم ذلك ، ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به .
{ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } أي : جميع الأمور ، ترجع إلى الله ، وقد أخبر أن العاقبة للتقوى ، فمن سلطه الله على العباد من الملوك ، وقام بأمر الله ، كانت له العاقبة الحميدة ، والحالة الرشيدة ، ومن تسلط عليهم بالجبروت ، وأقام فيهم هوى نفسه ، فإنه وإن حصل له ملك موقت ، فإن عاقبته غير حميدة ، فولايته مشئومة ، وعاقبته مذمومة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الربيع الزَّهْرَاني ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب وهشام ، عن محمد قال : قال عثمان بن عفان : فينا نزلت : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } ، فأخرجنا من ديارنا بغير حق ، إلا أن قلنا : " ربنا الله " ، ثم مُكنّا في الأرض ، فأقمنا الصلاة ، وآتينا الزكاة ، وأمرنا بالمعروف ، ونهينا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور ، فهي لي ولأصحابي .
وقال أبو العالية : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال الصباح بن سوادة الكندي : سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ } الآية ، ثم قال : إلا أنها ليست على الوالي وحده ، ولكنها على الوالي والمولى عليه ، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذَلكم ، وبما للوالي عليكم منه ؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم ، وأن يأخذ لبعضكم من بعض ، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع ، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة ، ولا المخالف سرها علانيتها .
وقال عطية العوفي : هذه الآية كقوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ [ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ] {[20317]} } [ النور : 55 ] .
وقوله : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } ، كقوله تعالى { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] .
وقال زيد بن أسلم : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } : وعند الله ثواب ما صنعوا .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ إِنْ مّكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصّلاَةَ وَآتَوُاْ الزّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الاُمُورِ } .
يقول تعالى ذكره : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة . و«الذين » ها هنا ردّ على «الذين يقاتلون » . ويعني بقوله : إنْ مَكَنّاهُمْ فِي الأرْضِ إن وَطّنّا لهم في البلاد ، فقهروا المشركين وغلبوهم عليها ، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول : إن نصرناهم على أعدائهم وقهروا مشركي مكة ، أطاعوا الله ، فأقاموا الصلاة بحدودها وآتَوُا الزّكَاةَ يقول : وأعطوا زكاة أموالهم مَنْ جعلها الله له . وأمَرُوا بالمَعْرُوفِ يقول : ودعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته وما يعرفه أهل الإيمان بالله . وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ يقول : ونهوا عن الشرك بالله والعمل بمعاصيه ، الذي ينكره أهل الحقّ والإيمان بالله . ولِلّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ يقول : ولله آخر أمور الخلق ، يعني : أنّ إليه مصيرها في الثواب عليها والعقاب في الدار الاَخرة .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسين الأشيب ، قال : حدثنا أبو جعفر عيسى بن ماهان ، الذي يقال له الرازيّ ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : الّذِينَ إنْ مَكّنّاهُمْ فِي الأرْضِ أقامُوا الصّلاةَ وآتَوُا الزّكاةَ وأمَرُوا بالمَعْرُوف ونَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ قال : كان أمرهم بالمعروف أنهم دعوا إلى الإخلاص لله وحده لا شريك له ونهيهم عن المنكر أنهم نهوا عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان . قال : فمن دعا إلى الله من الناس كلهم فقد أمر بالمعروف ، ومن نهى عن عبادة الأوثان وعبادة الشيطان فقد نهى عن المنكر .
قالت فرقة : هذه الآية في الخلفاء الأربعة ومعنى هذا التخصيص أن هؤلاء خاصة مكنوا في الأرض من جملة الذين يقاتلون المذكورين في صدر الآية ، والعموم في هذا كله أبين وبه يتجه الأمر في جميع الناس ، وإنما الآية آخذة عهداً على كل من مكنه الله ، كل على قدر ما مكن ، فأما { الصلاة } و { الزكاة } فكل مأخوذ بإقامتها وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكل بحسب قوته والآية أمكن ما هي في الملوك ، و { المعروف } و { المنكر } يعمان الإيمان والكفر دونهما ، وقالت فرقة : نزلت هذه الاية في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة من الناس وهذا على أن { الذين } بدل من قوله { يقاتلون } [ الحج : 39 ] أو على أن { الذين } تابع ل { من } في قوله { من ينصره } [ الحج : 40 ] ، وقوله { ولله عاقبة الأمور } توعد للمخالف عن هذه الأوامر التي تقتضيها الآية لمن مكن .
{ الذين إِنْ مكناهم فِى الارض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكواة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر }
ويجوز أن يكون بدلاً من { مَن } الموصولة في قوله : { من ينصره } [ الحج : 40 ] فيكون المراد : كل من نصر الدين من أجيال المسلمين ، أي مكناهم بالنصر الموعود به إن نصروا دين الله : وعلى الاحتمالين فالكلام مسوق للتنبيه على الشكر على نعمة النصر بأن يأتوا بما أمر الله به من أصول الإسلام فإن بذلك دوامَ نصرهم ، وانتظام عقد جماعتهم ، والسلامة من اختلال أمرهم ، فإن حَادُوا عن ذلك فقد فرّطوا في ضمان نصرهم وأمرُهم إلى الله .
فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدّين وتجديد لمفعوله في النفوس ، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم ، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم .
والتمكين : التوثيق ، وأصله إقرار الشيء في مكان وهو مستعمل هنا في التسليط والتمليك ، والأرض للجنس ، أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو من ملكهم وما بسطت فيه أيديهم . وقد تقدم قوله تعالى : { ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش } في [ سورة الأعراف : 10 ] ، وقوله : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } في [ سورة يوسف : 56 ] .
والمراد بالمعروف ما هو مقرّر من شؤون الدين : إما بكونه معروفاً للأمة كلها ، وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائرُ الأمة . وإما بكونه معروفاً لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفوت مراتب العلم ومراتب علمائه .
والمنكر : ما شأنه أن ينكر في الدين ، أي أن لا يُرضى بأنه من الدين . وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها ، فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شؤون عاداتهم مما هو في منطقة المباح ، ولا ما يفعلون في شؤون دينهم مما هو من نوع الدّيانات كالأعمال المندرجة تحت كليّات دينية ، والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد الشريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين .
والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر وإنما جمعت الآية بينهما باعتبار أوللِ ما تتوجه إليه نفوس الناس عند مشاهدة الأعمال ، ولتكون معرفة المعروف دليلاً على إنكار المنكر وبالعكس إذ بضدها تتمايز الأشياء ، ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس .
عطف على جملة { ولينصرن الله من ينصره } [ الحج : 40 ] ، أو على جملة { إن الله لقوي عزيز } [ الحج : 40 ] ، والمآل واحد ، وهو تحقيق وقوع النصر ، لأنّ الذي وعَد به لا يمنعه من تحقيق وعدَه مانع ، وفيه تأنيس للمهاجرين لئلا يستبطئوا النصر .
والعاقبة : آخر الشيء وما يعقُب الحاضرَ . وتأنيثها لملاحظة معنى الحالة وصارت بكثرة الاستعمال اسماً . وفي حديث هرقل « ثم تكون لهم العاقبة » . وتقديم المجرور هنا للاهتمام والتنبيه على أن ما هو لله فهو يصرفه كيف يشاء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة. و«الذين» ها هنا ردّ على «الذين يقاتلون». ويعني بقوله:"إنْ مَكَنّاهُمْ فِي الأرْضِ": إن وَطّنّا لهم في البلاد، فقهروا المشركين وغلبوهم عليها، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: إن نصرناهم على أعدائهم وقهروا مشركي مكة، أطاعوا الله، فأقاموا الصلاة بحدودها، "وآتَوُا الزّكَاةَ "يقول: وأعطوا زكاة أموالهم مَنْ جعلها الله له، "وأمَرُوا بالمَعْرُوفِ "يقول: ودعوا الناس إلى توحيد الله والعمل بطاعته وما يعرفه أهل الإيمان بالله، "وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ" يقول: ونهوا عن الشرك بالله والعمل بمعاصيه، الذي ينكره أهل الحقّ والإيمان بالله.
"ولِلّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ" يقول: ولله آخر أمور الخلق، يعني: أنّ إليه مصيرها في الثواب عليها والعقاب في الدار الآخرة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
هذا نعت من الله سبحانه وتعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، ومدح لهم بالدوام على دين الله الذي قبلوه، وأخذوه في حال الخوف، بعدما مكن لهم في الأرض، وأمنهم من ذلك الخوف الذي كان في الابتداء، أخبر أنهم داموا على ذلك، ولم يتركوا ما كانوا عليه، بل زاد لهم حرصا على ذلك جهدا...
وجائز أن تكون عاقبة الأمور لأوليائه من النصر والقهر على أعدائه. فالمراد بالإضافة إليه أولياؤه كقوله: {إن تنصروا الله ينصركم} (محمد: 7) أي إن تنصروا أولياءه، أو تنصروا دينه ينصركم،...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"الذين إن مكناهم في الأرض"... ومعناه أعطيناهم كل ما لا يصح الفعل إلا معه، لأن التمكين: إعطاء ما يصح معه الفعل، فإن كان هذا الفعل لا يصح إلا بآلة، فالتمكين باعطاء تلك الآلة لمن فيه القدرة، وكذلك إن كان لا يصح الفعل إلا بعلم، ونصب دلالة، وصحة سلامة، ولطف وغير ذلك فخلق القدرة هو التمكين. "إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة "يعني أدوها بحقوقها، وقيل: معناه داموا عليها، "وآتوا الزكاة "أي وأعطوا ما افترض الله عليهم في أموالهم من الزكوات وغيرها، "وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر". وفي ذلك دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، لأن ما رغب الله فيه، فقد أراده، وكل ما أراده من العبد فهو واجب إلا أن يقوم دليل على ذلك أنه نفل، لأن الاحتياط يقتضي ذلك. والمعروف هو الحق، وسمي معروفا لأنه تعرف صحته. وسمي المنكر منكرا، لأنه لا يمكن معرفة صحته. وقوله: "ولله عاقبة الأمور" معناه تصير جميع الأملاك لله تعالى، لبطلان كل ملك سوي ملكه.
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
339- قد لزم النهي عن المنكر كل مستطيع بقوله- عز وجل-: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}، ومن مكن في الأرض، لم يضعف عن ذلك، ومن ضعف لزمه التغيير بقلبه، فإن لم يغير بقلبه، فقد رضي وتابع. (ت: 24/311)...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال إقامة الصلاة الوفاء بأدائها؛ فتَعْلمَ -بين يدي الله- مَنْ أنت، ومَنْ تناجي، وَمن الرقيب عليك، ومن القريب منك...
{وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ}: يبتدئون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأَنْفُسِهم ثم بأغيارهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلِلَّهِ عاقبة الأمور} أي مرجعها إلى حكمه وتقديره. وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمتهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قالت فرقة: هذه الآية في الخلفاء الأربعة ومعنى هذا التخصيص أن هؤلاء خاصة مكنوا في الأرض من جملة الذين يقاتلون المذكورين في صدر الآية، والعموم في هذا كله أبين وبه يتجه الأمر في جميع الناس، وإنما الآية آخذة عهداً على كل من مكنه الله، كل على قدر ما مكن، فأما {الصلاة} و {الزكاة} فكل مأخوذ بإقامتها، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فكل بحسب قوته، والآية أمكن ما هي في الملوك، و {المعروف} و {المنكر} يعمان الإيمان والكفر [فما] دونهما... {ولله عاقبة الأمور} توعد للمخالف عن هذه الأوامر التي تقتضيها الآية لمن مكن.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وعن عثمان رضي الله عنه: هذا والله ثناء قبل بلاء، يريد أن الله قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا. وفي الآية أخذ العهد على من مكنه الله أن يفعل ما رتب على التمكين في الآية.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما وصف نفسه سبحانه بما يقتضي تمكين منصوره الذي ينصره، وصفهم بما يبين أن قتالهم له، لا لهم، بعد أن وصفهم بأنهم أوذوا بالإخراج من الديار الذي يعادل القتل، فقال: {الذين}، ولما كان وقت النصرة مبهماً آخره يوم الفصل، عبر بأداة الشك ليكون ذلك أدل على إخلاص المخلص في القتال: {إن مكناهم} بما لنا من العظمة {في الأرض} بإعلائهم على أضدادهم {أقاموا الصلاة} أي التي هي عماد الدين، الدالة على المراقبة والإعراض عن تحصيل الفاني {وآتوا الزكاة} المؤذنة بالزهد في الحاصل منه، المؤذن بعمل النفس للرحيل {وأمروا بالمعروف} وهو ما عرفه الشرع وأجازه {ونهوا عن المنكر}...
ولما كان هذا ابتداء الأمر بالجهاد، وكان عقب ما آذى أعداؤه أولياءه، فطال أذاهم لهم، فكان التقدير كما أرشد إليه العطف على غير مذكور، عطفاً على {ولولا دفع} فللّه بادئة الأمور، عطف عليه قوله: {ولله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء {عاقبة الأمور} فتمكينهم كائن لا محالة، لكن ذكره للعاقبة وطيه للبادئة منبه على أنه تعالى يجعل للشيطان -كما هو المشاهد في الأغلب- حظاً في البادئة، ليتبين الصادق من الكاذب، والمزلزل من الثابت، وأما العاقبة فهي متمحضة له إلى أن يكون آخر ذلك القيامة التي لا يكون لأحد فيها أمر، حتى أنه لا ينطق أحد إلا بإذن خاص.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم ذكر علامة من ينصره، وبها يعرف، أن من ادعى أنه ينصر الله وينصر دينه، ولم يتصف بهذا الوصف، فهو كاذب فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: ملكناهم إياها، وجعلناهم المتسلطين عليها، من غير منازع ينازعهم، ولا معارض، {أَقَامُوا الصَّلَاةَ} في أوقاتها، وحدودها، وأركانها، وشروطها، في الجمعة والجماعات. {وَآتُوا الزَّكَاةَ} التي عليهم خصوصا، وعلى رعيتهم عموما، آتوها أهلها، الذين هم أهلها، {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} وهذا يشمل كل معروف حسنه شرعا وعقلا، من حقوق الله، وحقوق الآدميين، {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} كل منكر شرعا وعقلا، معروف قبحه، والأمر بالشيء والنهي عنه يدخل فيه ما لا يتم إلا به، فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم، أجبروا الناس على التعلم والتعليم، وإذا كان يتوقف على تأديب مقدر شرعا، أو غير مقدر، كأنواع التعزير، قاموا بذلك، وإذا كان يتوقف على جعل أناس متصدين له، لزم ذلك، ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به...
فمن سلطه الله على العباد من الملوك، وقام بأمر الله، كانت له العاقبة الحميدة، والحالة الرشيدة، ومن تسلط عليهم بالجبروت، وأقام فيهم هوى نفسه، فإنه وإن حصل له ملك موقت، فإن عاقبته غير حميدة، فولايته مشؤومة، وعاقبته مذمومة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(الذين إن مكناهم في الأرض).. فحققنا لهم النصر، وثبتنا لهم الأمر.. (أقاموا الصلاة).. فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين.. (وآتوا الزكاة).. فأدوا حق المال، وانتصروا على شح النفس، وتطهروا من الحرص، وغلبوا وسوسة الشيطان، وسدوا خلة الجماعة، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج، وحققوا لها صفة الجسم الحي -كما قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".. (وأمروا بالمعروف).. فدعوا إلى الخير والصلاح، ودفعوا إليه الناس.. (ونهوا عن المنكر).. فقاوموا الشر والفساد، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر وهي قادرة على تغييره، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه.. هؤلاء هم الذين ينصرون الله، إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة، معتزين بالله وحده دون سواه. وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين. فهو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته. المشروط بتكاليفه وأعبائه.. والأمر بعد ذلك لله، يصرفه كيف يشاء، فيبدل الهزيمة نصرا، والنصر هزيمة، عندما تختل القوائم، أو تهمل التكاليف: (ولله عاقبة الأمور).. إنه النصر الذي يؤدي إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة. من انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح. المنظور فيه إلى هذه الغاية التي يتوارى في ظلها الأشخاص والذوات، والمطامع والشهوات..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتمكين: التوثيق، وأصله إقرار الشيء في مكان وهو مستعمل هنا في التسليط والتمليك، والأرض للجنس، أي تسليطهم على شيء من الأرض فيكون ذلك شأنهم فيما هو من ملكهم وما بسطت فيه أيديهم...
والمراد بالمعروف ما هو مقرّر من شؤون الدين: إما بكونه معروفاً للأمة كلها، وهو ما يعلم من الدين بالضرورة فيستوي في العلم بكونه من الدين سائرُ الأمة. وإما بكونه معروفاً لطائفة منهم وهو دقائق الأحكام فيأمر به الذين من شأنهم أن يعلموه وهم العلماء على تفاوت مراتب العلم ومراتب علمائه.
والمنكر: ما شأنه أن ينكر في الدين، أي أن لا يُرضى بأنه من الدين. وذلك كل عمل يدخل في أمور الأمة والشريعة وهو مخالف لها، فعلم أن المقصود بالمنكر الأعمال التي يراد إدخالها في شريعة المسلمين وهي مخالفة لها، فلا يدخل في ذلك ما يفعله الناس في شؤون عاداتهم مما هو في منطقة المباح، ولا ما يفعلون في شؤون دينهم مما هو من نوع الدّيانات كالأعمال المندرجة تحت كليّات دينية، والأعمال المشروعة بطريق القياس وقواعد الشريعة من مجالات الاجتهاد والتفقه في الدين. والنهي عن المنكر آيل إلى الأمر بالمعروف وكذلك الأمر بالمعروف آيل إلى النهي عن المنكر؛ وإنما جمعت الآية بينهما باعتبار أولِ ما تتوجه إليه نفوس الناس عند مشاهدة الأعمال، ولتكون معرفة المعروف دليلاً على إنكار المنكر وبالعكس إذ بضدها تتمايز الأشياء، ولم يزل من طرق النظر والحجاج الاستدلال بالنقائض والعكوس...
والعاقبة: آخر الشيء وما يعقُب الحاضرَ...
. وتقديم المجرور هنا للاهتمام والتنبيه على أن ما هو لله فهو يصرفه كيف يشاء.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{إن مكناهم}، أي جعلنا لهم مكانا متميزا في الأرض، ودولة قائمة في الأرض يظلها العدل والخير والفضيلة، وقد ذكر الله تعالى أعمالا يقومون بها إن وجدت في جماعة كانت الأمة الفاضلة في الأرض. أول هذه الأعمال: إقامة الصلاة التي تقوم بها تلك الجماعة الكريمة تطهير نفوس آحادها، وملؤها بطاعة الله وخشيته، وذلك بإقامة الصلاة فقال: {أقاموا الصلاة}، أي أتوا بها مقومة تمتلئ فيها القلوب بذكره سبحانه، وتستشعر خشيته وهيبته ومحبته وجلالته، وبذلك تتطهر القلوب، وتعمرها خشية الله تعالى ومحبته، فتحب عباده، وتحب كل شيء له، ويتحقق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله". ثاني هذه الأعمال: إيتاء الزكاة، {وآتوا الزكاة}، وهي حق السائل والمحروم، وهي رمز للتعاون الاجتماعي بين القادر والعاجز والغني والفقير، ومن ابتلاه الله تعالى بالمال، ومن ابتلاه الله تعالى بالحرمان. وثالث هذه الأعمال: التعاون على الخير، ودفع الآثام، وذلك يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكوين رأي عام فاضل يحث على الفضيلة، ويمنع الرذيلة،وهو قوله تعالى: {وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} وبها يتكون رأي عام فاضل يشجع الفضلاء، ويقمع الأرذلين. وقال تعالى في ختام الآية الكريمة: {ولله عاقبة الأمور}، وهو يشير إلى أنهم يؤمنون بلقاء الله تعالى وأنهم لم يخلقوا سدى، فيكون الخير لأهله يوم القيامة جنات النعيم، ولأهل الشر عذاب الحميم.
معنى: {مكناهم في الأرض}: جعلنا لهم سلطانا وقوة وغلبة، فلا يجترئ أحد عليهم أو يزحزحهم، وعليهم أن يعلموا أن الله ما مكنهم ونصرهم لذاتهم، وإنما ليقوموا بمهمة الإصلاح وينقوا الخلافة الإنسانية في الأرض من كل ما يضعف صلاحها أو يفسده.
والممكن في الأرض الذي أعطاه الله البأس والقوة والسلطان، يستطيع أن يفرض على مجتمعه ما يشاء، حتى إن مكن في الأرض بباطل يستطيع أن يفرض باطله ويخضع الناس له، ولو إلى حين. يقول تعالى: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة} ليكونوا دائما على ذكر وولاء من ربهم الذي وهبهم هذا التمكين، ذلك لأنهم يترددون عليه سبحانه خمس مرات في اليوم والليلة. {وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}: فهذه أسس الصلاح في المجتمع والميزان الذي يسعد به الجميع. {ولله عاقبة الأمور} يعني: النهاية إلينا، وآخر المطاف عندنا، فمن التزم هذه التوجيهات وأدى دوره المنوط في مجتمعه، فبها ونعمت، ومن ألقاها وراء ظهره فعاقبته معروفة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوا عَنِ الْمُنْكَرِ} لأن محاولتهم الحصول على القوّة تنطلق من موقع الإيمان المسؤول، الذي يتحرك من خطّةٍ دقيقة قوامها الإخلاص لله في العبادة، والمسؤولية تجاه الإنسان في روحية العطاء، ومواجهة الواقع بإقامة الحقّ وإزهاق الباطل، لما يمثله الأمر بالمعروف من الأمر بالحق في حركة الفكر، على مستوى النظرية والتطبيق، ولما يمثله النهي عن المنكر من رفض للمنكر، على مستوى الخط والممارسة.. في المجالات العامة والخاصة...
{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ} فهو مالك الأمور كلها، وهو المبدىء والمعيد، منه البداية وبيده النهاية، وإليه المرجع في كل شيء.. ومهما امتدّ الإنسان في طغيانه، أو تعاظم في قوته، أو تمرّد في حركته، فلن يستطيع أن يملك أمر نفسه، فكيف يملك أمر غيره؟! فالله هو المهيمن عليه وعلى حركته، وله عاقبة الأمور كلها في جميع المشاريع الخاصة والعامة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وآخر آية تفسّر المراد من أنصار الله الذين وعدهم بنصره في الآية السابقة،... إنّهم فئة لا تلهو ولا تلعب كالجبابرة بعد انتصارها، ولا يأخذها الكبر والغرور، إنّما ترى النصر سلّماً لارتقاء الفرد والجماعة. إنّها لن تتحوّل إلى طاغوت جديد بعد وصولها إلى السلطة، لارتباطها القويّ بالله، والصلاة رمز هذا الارتباط بالخالق، والزكاة رمز للالتحام مع الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامتان قويتان لبناء مجتمع سليم. وهذه الصفات الأربع تكفي لتعريف هؤلاء الأفراد، ففي ظلّها تتمّ ممارسة سائر العبادات والأعمال الصالحة، وترسم بذلك خصائص المجتمع المؤمن المتطور.