بدأت هذه السورة بعتاب النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان من إعراضه عن ابن أم مكتوم ، حين جاءه راغبا في العلم والهداية ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مشغولا بدعوة سادة قريش . رجاء أن يستجيبوا له ، فيسلم بإسلامهم خلق كثير . ثم ذكرت الإنسان بنعم الله عليه منذ نشأته إلى نشوره ، وختمت بالحديث عن يوم القيامة ، مبينة أن الناس فيه فرقتان : مؤمنة مستبشرة ، وكافرة فاجرة .
{ 1 - 10 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى }
وسبب نزول هذه الآيات الكريمات ، أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي صلى الله عليه ويتعلم منه .
وجاءه رجل من الأغنياء ، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق ، فمال صلى الله عليه وسلم [ وأصغى ] إلى الغني ، وصد عن الأعمى الفقير ، رجاء لهداية ذلك الغني ، وطمعا في تزكيته ، فعاتبه الله بهذا العتاب اللطيف ، فقال : { عَبَسَ } [ أي : ] في وجهه { وَتَوَلَّى } في بدنه ،
ذكر غيرُ واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما يخاطبُ بعض عظماء قريش ، وقد طَمع في إسلامه ، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابنُ أم مكتوم - وكان ممن أسلم قديما - فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ويلح عليه ، وودَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل ؛ طمعا ورغبة في هدايته . وعَبَس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه ، وأقبل على الآخر ، فأنزل الله عز وجل : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ) ؟ أي : يحصل له زكاة وطهارة في نفسه .
القول في تأويل قوله تعالى : { عَبَسَ وَتَوَلّىَ * أَن جَآءَهُ الأعْمَىَ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّىَ * أَوْ يَذّكّرُ فَتَنفَعَهُ الذّكْرَىَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : عَبَسَ : قَبَضَ وجهه تكرّها ، وَتَوَلّى يقول : وأعرض أنْ جاءَهُ الأعْمَى يقول : لأن جاءه الأعمى . وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يطوّل الألف ويمدّها من أنْ جاءَهُ فيقول : «آنْ جاءَهُ » ، وكأنّ معنى الكلام كان عنده : أَأن جاءه الأعمى عبس وتولى ؟ كما قرأ من قرأ : أنْ كانَ ذَا مال وَبَنِينَ بمدّ الألف من «أنْ » وقصرها .
وذُكر أن الأعمى الذي ذكره الله في هذه الاَية ، هو ابن أمّ مكتوم ، عوتب النبيّ صلى الله عليه وسلم بسببه . ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا سعيد بن يحيى الأمويّ ، قال : حدثنا أبي ، عن هشام بن عُروة مما عرضه عليه عُروة ، عن عائشة قالت : أنزلت عَبَسَى وَتَوَلّى في ابن أمّ مكتوم ، قالت : أَتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول : أرشدني ، قالت : وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظماء المشركين ، قالت : فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يُعْرِض عنه ، ويُقْبِل على الاَخر ، ويقول : «أَتَرَى بِما أقُولُهُ بأْسا ؟ » فيقول : لا ففي هذا أُنزلت : عَبَسَ وتَوَلّى .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : عَبَسَ وَتَوّلى أنْ جاءَهُ الأعْمَى قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عُتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب ، وكان يتصدّى لهم كثيرا ، ويَحرِص عليهم أن يؤمنوا ، فأقبل إليه رجل أعمى ، يقال له عبد الله بن أم مكتوم ، يمشي وهو يناجيهم ، فجعل عبد الله يستقرىء النبيّ صلى الله عليه وسلم آية من القرآن ، وقال : يا رسول الله ، عَلّمني مما علّمك الله ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعَبَس في وجهه وتوّلى ، وكرِه كلامه ، وأقبل على الاَخرين فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ ينقلب إلى أهله ، أمسك الله بعض بصره ، ثم خَفَق برأسه ، ثم أنزل الله : عَبَسَ وَتَولّى أنْ جاءَهُ الأعْمَى وَما يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّى أوْ يَذّكّرُ فَتَنْفَعَهُ الذّكْرَى ، فلما نزل فيه أكرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلّمه ، وقال له : «ما حاجَتُك ، هَلْ تُرِيدُ مِنْ شَيْءٍ ؟ » وإذا ذهب من عنده قال له : «هَلْ لَكَ حاجَةٌ فِي شَيْءٍ ؟ » وذلك لما أنزل الله : أمّا مَنِ اسْتَغْنَى فأنْتَ لَهُ تَصَدّى وَما عَلَيْكَ ألاّ يَزّكّى .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن هشام ، عن أبيه ، قال : نزلت في ابن أمّ مكتوم عَبَسَ وَتَوّلَى أنْ جاءَهُ الأعْمَى .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله أنْ جاءَهُ الأعْمَى قال : رجل من بني فهر ، يقال له ابن أمّ مكتوم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة عَبَسَ وَتَوَلّى أنْ جاءَهُ الأعْمَى : عبد الله بن زائدة ، وهو ابن أمّ مكتوم ، وجاءه يستقرِئه ، وهو يناجي أُميّة بن خَلَف ، رجلٌ من عِلْية قريش ، فأعرض عنه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله فيه ما تسمعون عَبَسَ وَتَوَلّى أنْ جاءَهُ الأعْمَى إلى قوله : فأنْتَ عَنْهُ تَلَهّى «ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم استخلفه بعد ذلك مرّتين على المدينة ، في غزوتين غزاهما يصّلي بأهلها » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، أنه رآه يوم القادسية معه راية سوداء ، وعليه درع له .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قال : جاء ابن أمّ مكتوم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يكلم أبيّ بن خَلَف ، فأعرض عنه ، فأنزل الله عليه : عَبَس وَتَوَلّى ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يُكرمه . قال أنس : فرأيته يوم القادسية عليه دِرْع ، ومعه راية سوداء .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : عَبَسَ وتوّلى تصدى رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من مشركي قريش كثير المال ، ورجا أن يُؤْمن ، وجاء رجل من الأنصار أعمى ، يقال له عبد الله بن أمّ مكتوم ، فجعل يسأل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فكرهه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وتوّلى عنه ، وأقبل على الغنيّ ، فوعظ الله نبيّه ، فأكرمه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، واستخلفه على المدينة مرّتين ، في غزوتين غزاهما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وسألته عن قول الله عزّ وجلّ : عَبَسَ وَتَوَلّى أنْ جاءَهُ الأعْمَى قال : جاء ابن أمّ مكتوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقائده يُبْصر ، وهو لا يبصر ، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى قائده يَكُفّ ، وابن أمّ مكتوم يدفعه ولا يُبصر قال : حّتى عَبَس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعاتبه الله في ذلك ، فقال : عَبَسَ وَتَوَلّى أنْ جاءَهُ الأعْمَى وَما يُدْرِيكَ لَعَلّهُ يَزّكّى . . . إلى قوله : فأنْتَ عَنْهُ تَلَهّى قال ابن زيد : كان يقال : لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَتَمَ من الوحي شيئا ، كتم هذا عن نفسه قال : وكان يتصدّى لهذا الشريفِ في جاهليته ، رجاء أن يسلم ، وكان عن هذا يتلهّى .