{ إِنَّ فِي ذَلِكَ ْ } المذكور ، من أخذه للظالمين ، بأنواع العقوبات ، { لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ْ } أي : لعبرة ودليلا ، على أن أهل الظلم والإجرام ، لهم العقوبة الدنيوية ، والعقوبة الأخروية ، ثم انتقل من هذا ، إلى وصف الآخرة فقال : { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ْ } أي : جمعوا لأجل ذلك اليوم ، للمجازاة ، وليظهر لهم من عظمة الله وسلطانه وعدله العظيم ، ما به يعرفونه حق المعرفة .
{ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ْ } أي : يشهده الله وملائكته ، وجميع المخلوقين .
ذلك الأخذ الأليم الشديد في الدنيا علامة على عذاب الآخرة ، يراها من يخافون عذاب الآخرة ، أي الذين تفتحت بصائرهم ليدركوا أن الذي يأخذ القرى بظلمها في هذه الحياة سيأخذها بذنوبها في الآخرة ، فيخافوا هذا العذاب . . وهنا يعبر السياق بالقلب البشري من مشاهد الأرض إلى مشاهد القيامة على طريقة القرآن في وصل الرحلتين بلا فاصل في السياق : ( إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة . ذلك يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود . وما نؤخره إلا لأجل معدود . يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه ، فمنهم شقي وسعيد . فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق . خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض - إلا ما شاء ربك - إن ربك فعال لما يريد . وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض - إلا ما شاء ربك - عطاء غير مجذوذ )
( إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ) . .
ففي ذلك الأخذ الأليم الشديد مشابه من عذاب الآخرة ، تذكر بهذا اليوم وتخيف . .
وإن كان لا يراها إلا الذين يخافون الآخرة فتتفتح بصائرهم بهذه التقوى التي تجلو البصائر والقلوب . .
والذين لا يخافون الآخرة تظل قلوبهم صماء لا تتفتح للآيات ، ولا تحس بحكمة الخلق والإعادة ، ولا ترى إلا واقعها القريب في هذه الدنيا ، وحتى العبر التي تمر في هذه الحياة لا تثير فيها عظة ولا فهما .
( ذلك يوم مجموع له الناس ، وذلك يوم مشهود ) . .
وهنا يرتسم مشهد التجميع يشمل الخلق جميعا ، على غير إرادة منهم ، إنما هو سوق الجميع سوقا إلى ذلك المعرض المشهود ، والكل يحضر والكل ينتظر ما سوف يكون . .
وقوله تعالى : { إن في ذلك لآية } المعنى : أن في هذه القرى وما حل بها لعبرة وعلامة اهتداء لمن خاف أمر الآخرة وتوقع أن يناله عذابها فنظر وتأمل ، فإن نظره يؤديه إلى الإيمان بالله تعالى ، ثم عظم الله أمر يوم القيامة بوصفه بما تلبس بأجنبي منه للسبب المتصل بينهما ، ويعود الضمير عليه ، و { الناس } - على هذا - مفعول لم يسم فاعله ، ويصح أن يكون { الناس } رفعاً بالابتداء و { مجموع } خبر مقدم{[6507]} .
وهذه الآية خبر عن الحشر ، و { مشهود } عام على الإطلاق يشهده الأولون والآخرون من الإنس والملائكة والجن والحيوان ، في قول الجمهور ، وفيه - أعني الحيوان الصامت - اختلاف ، وقال ابن عباس : الشاهد : محمد عليه السلام ، و «المشهود » يوم القيامة .
بيان للتعريض وتصريح بعد تلويح . والمعنى : وكذلك أخذ ربك فاحْذروه وحذروا ما هو أشدّ منه وهو عذاب الآخرة . والإشارة إلى الأخذ المتقدّم . وفي هذا تخلّص إلى موعظة المسلمين والتّعريض بمدحهم بأن مثلهم من ينتفع بالآيات ويعتبر بالعبر كقوله : { وما يعقلها إلاّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] .
وجُعل عذاب الدنيا آية دالة على عذاب الآخرة لأنّ القرى الظالمة توعّدها الله بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة كما في قوله تعالى : { وإنّ للذين ظلموا عذاباً دون ذلك } [ الطور : 47 ] فلمّا عاينوا عذاب الدّنيا كان تحققه أمارة على تحقق العذاب الآخر .
وجملة { ذلك يوم مجموع له الناس } معترضة للتنويه بشأن هذا اليوم حتّى أنّ المتكلّم يبتدىء كلاماً لأجل وصفه .
والإشارة ب { ذلك } إلى الآخرة لأنّ ماصدقها يومُ القيامة ، فتذكير اسم الإشارة مراعاة لمعنى الآخرة .
واللاّم في { مجموع له } لام العلّة ، أي مجموع الناس لأجله .
ومجيء الخبر جملة اسمية في الإخبار عن اليوم يدلّ على معنى الثّبات ، أي ثابت جمع الله الناس لأجل ذلك اليوم ، فيدلّ على تمكن تعلق الجمع بالنّاس وتمكّن كون ذلك الجمع لأجل اليوم حتّى لقّب ذلك اليوم يومَ الجمع في قوله تعالى : { يوم يجمعكم ليوم الجمع } [ التغابن : 9 ] .
وعطف جملة { وذلك يوم مشهود } على جملة { ذلك يوم مجموع له الناس } لزيادة التّهويل لليوم بأنّه يُشهد . وطُوي ذكر الفاعل إذ المراد يشهده الشّاهدون ، إذ ليس القصد إلى شاهِدين معيّنين . والإخبار عنه بهذا يُؤذن بِأنّهم يشهدونه شهوداً خاصاً وهو شهود الشيء المهول ، إذ من المعلوم أن لا يقصد الإخبار عنه بمجرّد كونه مرئياً لكن المراد كونه مرئياً رؤية خاصة .
ويجوز أن يكون المشهود بمعنى المحقّق أيّ مشهود بوقوعه ، كما يقال : حقّ مشهود ، أيْ عليه شهود لا يستطاع إنكاره ، واضح للعيان .
ويجوز أن يكون المشهود بمعنى كثير الشّاهدين إياه لشهرته ، كقولهم : لفلان مجلس مشهود ، كقول أم قيس الضبّيّة :
ومشهد قد كفيتَ الناطقين به *** في محفل من نواصي الخيل مَشهود
فيكون من نحو قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً يومئذٍ يوَدّ الذين كفروا } [ النساء : 41 ، 42 ] الآية .