ثم قال : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة } قال القفال : تقرير الكلام أن يقال : إنَّ هؤلاء إنَّما عذبُوا في الدُّنيا لتكذيبهم الأنبياء ، وإشراكهم بالله ، فإذا عُذِّبوا في الدُّنيا على ذلك وهي دارُ العملِ ، فلأنْ يُعذَّبُوا عليه في الآخرة التي هي دارُ الجزاءِ ، كان أولى . وهذا قولُ كثير من المفسِّرين .
قال ابنُ الخطيب{[18981]} : وعلى هذا الوجه الذي ذكره القفالُ يكونُ ظهور عذاب الاستئصال في الدُّنيا دليلاً على أنَّ القول بالقيامة والبعث حقٌّ ، وظاهرُ الآية يقتضي أنَّ العلم بأنَّ القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بعذاب الاستئصال ، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال ؛ لأنَّ القفال يجعل العلم بعذابِ الاستئصال أصلاً للعلم بأنَّ القيامة حق ؛ فبطل ما ذكره القفالُ ، والأصوبُ عندي أن يقال : العلم بأنَّ القيامة حق موقوف على العلم بأنَّ لوجود السماوات والأرض فاعل مختار لا موجب بالذَّاتِ ، وما لم يعلم الإنسان أنَّ إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكمنات ، وأنَّ جميع الحوادث الواقعة في السماوات والأرض لا تحصلُ إلا بتكوينه وقضائه ، لا يمكنه أن يعتبر بعذابِ الاسئصال ؛ لأنَّ الذين يذهبون إلى انَ المؤثَر في وجود هذا العالم موجبٌ بالذَّات ، لا فاعلٌ مختارٌ ، يزعمون أنَّ هذه الأحوال التي ظهرت في أيَّام الأنبياء ؛ كالغرق ، والخسق ، والمسخ ، والصَّيْحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب وإيصال بعضها ببعض ، وإذا كان الأمرُ كذلك ، فحينئذٍ لا تكون حصولها دالاًّ على صدق الأنبياء .
فأما المؤمن بالقيامة ؛ فلا يتم له ذلك الإيمانُ إلا إذا اعتقد أنَّ إله العالم فاعل مختار ، وأنه عالمٌ بجميع الجزيئات ، وإذا كان كذلك لزم القطعُ بأن حدوث هذه الوقائع العظيمة إنَّما كان بسبب أنَّ إله العالم خلقها وأوجدها لا بسبب طوالع الكواكب واتصالاتها ، وحينئذ يسمع هذه القصص ، ويستدلّ بها على صدق الأنبياء ؛ فثبت بذلك صحة قوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة } .
قوله تعالى : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ له الناس } " ذلك " : إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بالسياق من قوله : { عَذَابَ الآخرة } و " مَجْموعٌ " صفةٌ ل " اليوم " جرت على غير من هي له ، فلذلك رفعت الظَّاهر وهو " الناس " وهذا هو الإعراب نحو : " مَررْتُ برجُلٍ مضروبٍ غلامهُ " .
وأعرب ابن عطيَّة{[18982]} " النَّاس " مبتدأ مؤخراً ، و " مَجْمُوعٌ " خبره مقدماً عليه . وفيه ضعف إذ لو كان كذلك لقيل : مجموعون ، كما يقالُ : النَّاسُ قائمون ومضروبون ، ولا يقال : قائم ومضروب إلا بضعف . وعلى إعرابه يحتاج إلى حذف عائد ؛ إذ الجملة صفة لليوم ، أي : النَّاس مجموع له ، و " مَشْهُودٌ " متعيِّن لأن يكون صفة فكذلك ما قبله .
وقوله : { مَّشْهُودٌ } من باب الاتِّساعِ في الظرف بأن جعلهُ مشهوداً ، وإنَّما هو مشهودٌ فيه ؛ وهو كقوله : [ الطويل ]
ويَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً *** قَليلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهالِ نَوافِلُهْ{[18983]}
والأصلُ : مشهودٌ فيه ، وشهدْنَا فيه ، فاتُّسِع فيه بأنْ وصل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة ، كما يصلُ إلى المفعول به .
قال الزمخشريُّ : " فإن قتل : أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فعله ؟ قلت : لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم ، وأنَّهُ لا بدَّ أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع النَّاس له ، وأنَّه هو الموصوفُ بذلك صفة لازمة " قال ابنُ عبَّاسٍ : يشهده البر والفاجرُ . وقيل : يشهده أهلُ السماوات وأهلُ الأرضِ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.