اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّمَنۡ خَافَ عَذَابَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ ذَٰلِكَ يَوۡمٞ مَّجۡمُوعٞ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوۡمٞ مَّشۡهُودٞ} (103)

ثم قال : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة } قال القفال : تقرير الكلام أن يقال : إنَّ هؤلاء إنَّما عذبُوا في الدُّنيا لتكذيبهم الأنبياء ، وإشراكهم بالله ، فإذا عُذِّبوا في الدُّنيا على ذلك وهي دارُ العملِ ، فلأنْ يُعذَّبُوا عليه في الآخرة التي هي دارُ الجزاءِ ، كان أولى . وهذا قولُ كثير من المفسِّرين .

قال ابنُ الخطيب{[18981]} : وعلى هذا الوجه الذي ذكره القفالُ يكونُ ظهور عذاب الاستئصال في الدُّنيا دليلاً على أنَّ القول بالقيامة والبعث حقٌّ ، وظاهرُ الآية يقتضي أنَّ العلم بأنَّ القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بعذاب الاستئصال ، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال ؛ لأنَّ القفال يجعل العلم بعذابِ الاستئصال أصلاً للعلم بأنَّ القيامة حق ؛ فبطل ما ذكره القفالُ ، والأصوبُ عندي أن يقال : العلم بأنَّ القيامة حق موقوف على العلم بأنَّ لوجود السماوات والأرض فاعل مختار لا موجب بالذَّاتِ ، وما لم يعلم الإنسان أنَّ إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكمنات ، وأنَّ جميع الحوادث الواقعة في السماوات والأرض لا تحصلُ إلا بتكوينه وقضائه ، لا يمكنه أن يعتبر بعذابِ الاسئصال ؛ لأنَّ الذين يذهبون إلى انَ المؤثَر في وجود هذا العالم موجبٌ بالذَّات ، لا فاعلٌ مختارٌ ، يزعمون أنَّ هذه الأحوال التي ظهرت في أيَّام الأنبياء ؛ كالغرق ، والخسق ، والمسخ ، والصَّيْحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب وإيصال بعضها ببعض ، وإذا كان الأمرُ كذلك ، فحينئذٍ لا تكون حصولها دالاًّ على صدق الأنبياء .

فأما المؤمن بالقيامة ؛ فلا يتم له ذلك الإيمانُ إلا إذا اعتقد أنَّ إله العالم فاعل مختار ، وأنه عالمٌ بجميع الجزيئات ، وإذا كان كذلك لزم القطعُ بأن حدوث هذه الوقائع العظيمة إنَّما كان بسبب أنَّ إله العالم خلقها وأوجدها لا بسبب طوالع الكواكب واتصالاتها ، وحينئذ يسمع هذه القصص ، ويستدلّ بها على صدق الأنبياء ؛ فثبت بذلك صحة قوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة } .

قوله تعالى : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ له الناس } " ذلك " : إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بالسياق من قوله : { عَذَابَ الآخرة } و " مَجْموعٌ " صفةٌ ل " اليوم " جرت على غير من هي له ، فلذلك رفعت الظَّاهر وهو " الناس " وهذا هو الإعراب نحو : " مَررْتُ برجُلٍ مضروبٍ غلامهُ " .

وأعرب ابن عطيَّة{[18982]} " النَّاس " مبتدأ مؤخراً ، و " مَجْمُوعٌ " خبره مقدماً عليه . وفيه ضعف إذ لو كان كذلك لقيل : مجموعون ، كما يقالُ : النَّاسُ قائمون ومضروبون ، ولا يقال : قائم ومضروب إلا بضعف . وعلى إعرابه يحتاج إلى حذف عائد ؛ إذ الجملة صفة لليوم ، أي : النَّاس مجموع له ، و " مَشْهُودٌ " متعيِّن لأن يكون صفة فكذلك ما قبله .

وقوله : { مَّشْهُودٌ } من باب الاتِّساعِ في الظرف بأن جعلهُ مشهوداً ، وإنَّما هو مشهودٌ فيه ؛ وهو كقوله : [ الطويل ]

ويَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً *** قَليلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهالِ نَوافِلُهْ{[18983]}

والأصلُ : مشهودٌ فيه ، وشهدْنَا فيه ، فاتُّسِع فيه بأنْ وصل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة ، كما يصلُ إلى المفعول به .

قال الزمخشريُّ : " فإن قتل : أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فعله ؟ قلت : لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم ، وأنَّهُ لا بدَّ أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع النَّاس له ، وأنَّه هو الموصوفُ بذلك صفة لازمة " قال ابنُ عبَّاسٍ : يشهده البر والفاجرُ . وقيل : يشهده أهلُ السماوات وأهلُ الأرضِ .


[18981]:ينظر: تفسير الرازي17/47.
[18982]:ينظر: المحرر الوجيز 3/206.
[18983]:تقدم.