قوله تعالى : { ويستعجلونك بالعذاب } نزلت في النضر بن الحارث حين قال : فأمطر علينا حجارة من السماء ، { ولولا أجل مسمى } قال ابن عباس : ما وعدتك أني لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم يعني : لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب . وقيل : يوم بدر{ لجاءهم العذاب ولبأتينهم } يعني : العذاب وقيل الأجل ، { بغتة وهم لا يشعرون } بإتيانه .
{ 53 - 55 } { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
يخبر تعالى عن جهل المكذبين للرسول وما جاء به ، وأنهم يقولون -استعجالا للعذاب ، وزيادة تكذيب- { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ؟
يقول تعالى : { وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى } مضروب لنزوله ، ولم يأت بعد ، { لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ } بسبب تعجيزهم لنا وتكذيبهم الحق ، فلو آخذناهم بجهلهم ، لكان كلامهم أسرع لبلائهم وعقوبتهم ، ولكن -مع ذلك- فلا يستبطئون{[2]} نزوله ، فإنه سيأتيهم { بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }
فوقع كما أخبر اللّه تعالى ، لما قدموا ل " بدر " بطرين مفاخرين ، ظانين
أنهم قادرون على مقصودهم ، فأهانهم{[3]} اللّه ، وقتل كبارهم ، واستوعب جملة أشرارهم ، ولم يبق فيهم بيت إلا أصابته تلك المصيبة ، فأتاهم العذاب من حيث لم يحتسبوا ، ونزل بهم وهم لا يشعرون .
ثم يمضي في الحديث عن أولئك المشركين . عن استعجالهم بالعذاب . وجهنم منهم قريب :
( ويستعجلونك بالعذاب ، ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب ، وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون . يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، ويقول : ذوقوا ما كنتم تعملون ) . .
ولقد كان المشركون يسمعون النذير ، ولا يدركون حكمة الله في إمهالهم إلى حين ؛ فيستعجلون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بالعذاب على سبيل التحدي . وكثيرا ما يكون إمهال الله استدراجا للظالمين ليزدادوا عتوا وفسادا . أو امتحانا للمؤمنين ليزدادوا إيمانا وثباتا ؛ وليتخلف عن صفوفهم من لا يطيق الصبر والثبات . أو استبقاء لمن يعلم سبحانه أن فيهم خيرا من أؤلئك المنحرفين حتى يتبين لهم الرشد من الغي فيثوبوا إلى الهدى . أو استخراجا لذرية صالحة من ظهورهم تعبد الله وتنحاز إلى حزبه ولو كان آباؤهم من الضالين . . أو لغير هذا وذاك من تدبير الله المستور . .
ولكن المشركين لم يكونوا يدركون شيئا من حكمة الله وتدبيره ، فكانوا يستعجلون بالعذاب على سبيل التحدي . . ( ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب ) . . وهنا يوعدهم الله بمجيء العذاب الذي يستعجلونه . مجيئه في حينه . ولكن حيث لا ينتظرونه ولا يتوقعونه . وحيث يبهتون له ويفاجأون به : ( وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ) . .
ولقد جاءهم هذا العذاب من بعد في بدر وصدق الله . ورأوا بأعينهم كيف يحق وعد الله . ولم يأخذهم الله بالهلاك الكامل كأخذ المكذبين قبلهم ؛ كما أنه لم يستجب لهم في إظهار خارقة مادية كي لا يحق عليهم وعده بهلاك من يكذبون بعد الخارقة المادية . لأنه قدر للكثيرين منهم أن يؤمنوا فيما بعد ، وأن يكونوا من خيرة جند الإسلام ؛ وأخرج من ظهورهم من حملوا الراية جيلا بعد جيل ، إلى أمد طويل . وكان ذلك كله وفق تدبير الله الذي لا يعلمه إلا الله .
يقول تعالى مخبرا عن جهل المشركين في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم ، وبأس الله أن يحل عليهم ، كما قال تعالى : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، وقال هاهنا : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ } أي : لولا ما حَتَّم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه .
ثم قال : { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } أي : فجأة ، { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } .
عطف على جملة : { وقالوا لولا أنزل عليه ءايات من ربّه } [ العنكبوت : 50 ] استقصاء في الرد على شبهاتهم وإبطالاً لتَعِلاَّت إعراضهم الناشىء عن المكابرة ، وهم يخيلون أنهم إنما أعرضوا لعدم اقتناعهم بآية صدق الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومناسبة وقوعه هذا أنه لما ذكر كفرهم بالله وكان النبي عليه الصلاة والسلام ينذرهم على ذلك بالعذاب وكانوا يستعجلونه به ذكر توركهم عليه عقب ذكر الكفر . واستعجال العذاب : طلب تعجيله وهو العذاب الذي تُوعدوا به . وقصدهم من ذلك الاستخفاف بالوعيد . وتقدم الكلام على تركيب : { يستعجلونك بالعذاب } في قوله تعالى : { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير } في سورة [ يونس : 11 ]
قوله : { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة في سورة } [ الرعد : 6 ] . والتعريف في ( العذاب ) تعريف الجنس . وحُكي استعجالهم العذاب بصيغة المضارع لاستحضار حال استعجالهم لإفادة التعجيب منها كما في قوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] .
وقد أبطل ما قصدوه بقوله : { ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب } وذلك أن حلول العذاب ليس بيد الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولا جارياً على طلبهم واستبطائهم فإن الله هو المقدر لوقت حلوله بهم في أجل قدره بعلمه .
والمسمَّى أريد به المعيّن المحدود أي في علم الله تعالى . وقد تقدم عند قوله تعالى : { ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمّى } في سورة [ الحج : 5 ] .
والمعنى : لولا الأجل المعين لحلول العذاب بهم لجاءهم العذاب عاجلاً لأن كفرهم يستحق تعجيل عقابهم ولكن أراد الله تأخيره لحِكَم عَلِمَها ، منها إمهالهم ليؤمن منهم من آمن بعد الوعيد ، وليعلموا أن الله لا يستفزه استعجالهم العذاب لأنه حكيم لا يخالف ما قدره بحكمته ، حليم يمهل عباده . فالمعنى : لولا أجل مسمى لجاءهم العذاب في وقت طلبهم تعجيله ، ثم أنذرهم بأنه آتيهم بغتة وأن إتيانه محقق لما دل عليه لام القسم ونون التوكيد وذلك عند حلول الأجل المقدّر له . وقد حل بهم عذاب يوم بدر بغتة كما قال تعالى : { ولو تَوَاعَدْتم لاختلفتم في الميعاد } [ الأنفال : 42 ] فاستأصل صناديدهم يومئذ وسُقط في أيديهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويستعجلونك بالعذاب} استهزاء وتكذيبا به... {ولولا أجل مسمى} في الآخرة {لجاءهم العذاب} الذين استعجلوه في الدنيا، {وليأتينهم} العذاب في الآخرة {بغتة} يعني فجأة {وهم لا يشعرون} يعني يعلمون به حتى ينزل بهم العذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويستعجلك يا محمد هؤلاء القائلون من قومك: لولا أنزل عليه آية من ربه بالعذاب، ويقولون:"اللّهُمّ إنْ كانَ هَذا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ" ولولا أجل سميته لهم فلا أهلكهم حتى يستوفوه ويبلغوه، لجاءهم العذاب عاجلاً.
وقوله: "وَلَيَأْتِيَنّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ "يقول: وليأتينهم العذاب فجأة وهم لا يشعرون بوقت مجيئه قبل مجيئه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ولولا رحمته التي جعل لهم على نفسه لجاءهم العذاب كما جاء الأمم الخالية عند سؤالهم الرسل العذاب والآيات بالعناد والاستهزاء، وهو كقوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] حين لم يستأصلهم كما استأصل أولئك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَّجَاءهُمُ العذاب} عاجلاً. والمراد بالأجل: الآخرة، لما روي أنّ الله تعالى وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعذب قومه ولا يستأصلهم، وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة. وقيل: يوم بدر. وقيل: وقت فنائهم بآجالهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبر تعالى أنه يأتيهم {بغتة} أي فجأة وهذا هو عذاب الدنيا وهو الذي ظهر يوم بدر في السنين السبع...
أجاب بأن العذاب لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجل باستعجالكم، لأنه أجله الله لحكمة ورحمة فلكونه حكيما لا يكون متغيرا منقلبا، ولكونه رحيما لا يكون غضوبا منزعجا، ولولا ذلك الأجل المسمى الذي اقتضته حكمته وارتضته رحمته لما كان له رحمة وحكمة، فيكون غضوبا منقلبا فيتأثر باستعجالكم ويتغير من سؤالكم فيعجل وليس كذلك فلا يأتيكم بالعذاب وأنتم تسألونه ولا يدفع عنكم بالعذاب حين تستعيذون به منه، كما قال تعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها}.
{وليأتينهم بغتة} اختلف المفسرون فيه،... قال بعضهم ليأتينهم بغتة أي الأجل، لأن الآتي بغتة هو الأجل وأما العذاب بعد الأجل يكون معاينة، وقد ذكرنا أن في كون العذاب أو الأجل آتيا بغتة حكمة، وهي أنه لو كان وقته معلوما، لكان كل أحد يتكل على بعده وعلمه بوقته فيفسق ويفجر معتمدا على التوبة قبل الموت.
قوله تعالى: {وهم لا يشعرون} يحتمل وجهين؛
أحدهما: تأكيد معنى قوله بغتة كما يقول القائل أتيته على غفلة منه بحيث لم يدر، فقوله بحيث لم يدر أكد معنى الغفلة.
والثاني: هو كلام يفيد فائدة مستقلة، وهي أن العذاب يأتيهم بغتة وهم لا يشعرون هذا الأمر، ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان قولهم مرة واحدة "لولا أنزل عليه آية "عجباً، أتى بعد إخباره بخسارتهم بأعجب منه، وهو استمرار استعجالهم بما لا قدرة لهم على شيء منه من عذاب الله.
{لجاءهم العذاب} وقت استعجالهم، لأن القدرة تامة والعلم محيط. ولما أفهم هذا أنه لا بد من إتيانه، صرح به في قوله مؤكداً رداً على استهزائهم المتضمن للإنكار: {وليأتينهم} ثم هوّله بقوله: {بغتة} وأكد معناها بقوله: {وهم لا يشعرون} بل هم في غاية الغفلة عنه والاشتغال بما ينسيه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
ولعلَّ المرادَ بإتيانِه كذلك أنَّه لا يؤتيهم بطريقِ التَّعجيلِ عند استعجالِهم والإجابةِ إلى مسؤولِهم فإنَّ ذلك إتيانٌ برأيهم وشعورِهم لا أنَّه يأتيهم وهم غارُّون آمِنُون لا يخطرونَه بالبالِ كدأبِ بعضِ العُقوباتِ النازلةِ على بعضِ الأممِ بياتاً وهم نائمونَ أو ضُحى وهم يلعبُون لما أنَّ إتيانَ عذابِ الآخرةِ وعذابِ يومِ بدرٍ ليس من هذا القبيلِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كان المشركون يسمعون النذير، ولا يدركون حكمة الله في إمهالهم إلى حين؛ فيستعجلون الرسول [صلى الله عليه وسلم] بالعذاب على سبيل التحدي. وكثيرا ما يكون إمهال الله استدراجا للظالمين ليزدادوا عتوا وفسادا. أو امتحانا للمؤمنين ليزدادوا إيمانا وثباتا؛ وليتخلف عن صفوفهم من لا يطيق الصبر والثبات. أو استبقاء لمن يعلم سبحانه أن فيهم خيرا من أولئك المنحرفين حتى يتبين لهم الرشد من الغي فيثوبوا إلى الهدى. أو استخراجا لذرية صالحة من ظهورهم تعبد الله وتنحاز إلى حزبه ولو كان آباؤهم من الضالين.. أو لغير هذا وذاك من تدبير الله المستور.. ولكن المشركين لم يكونوا يدركون شيئا من حكمة الله وتدبيره، فكانوا يستعجلون بالعذاب على سبيل التحدي... (وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون).. ولقد جاءهم هذا العذاب من بعد في بدر وصدق الله. ورأوا بأعينهم كيف يحق وعد الله. ولم يأخذهم الله بالهلاك الكامل كأخذ المكذبين قبلهم؛ كما أنه لم يستجب لهم في إظهار خارقة مادية كي لا يحق عليهم وعده بهلاك من يكذبون بعد الخارقة المادية. لأنه قدر للكثيرين منهم أن يؤمنوا فيما بعد، وأن يكونوا من خيرة جند الإسلام؛ وأخرج من ظهورهم من حملوا الراية جيلا بعد جيل، إلى أمد طويل. وكان ذلك كله وفق تدبير الله الذي لا يعلمه إلا الله...