127- وإذ يرفع إبراهيم هو وابنه إسماعيل قواعد البيت وهما يدعوان الله : ربنا يا خالقنا وبارئنا تقبل منا هذا العمل الخالص لوجهك ، فأنت السميع لدعائنا العليم بصدق نياتنا{[5]} .
قوله تعالى : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } . قال الرواة : إن الله تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء ، فدحيت الأرض من تحتها . فلما أهبط الله آدم إلى الأرض ، استوحش فشكا إلى الله تعالى ، فأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر ، باب شرقي وباب غربي ، فوضعه على موضع البيت وقال : يا آدم إني أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي ، تصلي عنده كما يصلي عند عرشي ، وأنزل الحجر وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية ، فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً ، وقيض الله له ملكاً يدله على البيت ، فحج البيت وأقام المناسك ، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا : بر حجك يا آدم ، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام . قال ابن عباس رضي الله عنه : حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه ، فكان على ذلك إلى أيام الطوفان ، فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه يوم القيامة ، وبعث جبريل عليه السلام حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق ، فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم ، ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه ، فسأل الله عز وجل أن يبين له موضعه ، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت ، وهي ريح خجوج لها رأسان شبه الحية ، فأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة ، فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطوقت السكينة على موضع البيت كتطوق الجحفة هذا قول علي والحسن . وقال ابن عباس : بعث الله سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافق مكة ووقفت على موضع البيت ، فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها لا تزداد ولا تنقص ، وقيل : أرسل الله جبريل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ) فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجر ، فذلك قوله تعالى : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) يعني أسسه واحدتها قاعدة . وقال الكسائي : جدر البيت ، قال ابن عباس : إنما بني البيت من خمسة أجبل ، طور سيناء وطور زيتا ولبنان وهو جبل بالشام ، والجودي وهو جبل بالجزيرة وبنيا قواعده من حراء وهو جبل بمكة فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً ، فأتاه بحجر فقال : ائتني بأحسن من هذا ، فمضى إسماعيل يطلبه فصاح أبو قبيس : يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها ، فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه . وقيل : إن الله تعالى بنى في السماء بيتاً وهو البيت المعمور ويسمى ضراح ، وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله ، وقيل : أول من بنى الكعبة آدم واندرس في زمن الطوفان ثم أظهره الله لإبراهيم حتى بناه .
قوله تعالى : { ربنا تقبل منا } . فيه إضمار أي ويقولان : ربنا تقبل منا بناءنا .
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
أي : واذكر إبراهيم وإسماعيل ، في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس ، واستمرارهما على هذا العمل العظيم ، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء ، حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما ، حتى يحصل{[99]} فيه النفع العميم .
ثم يرسم مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود . . يرسمه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن :
( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا وتب علينا ، إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم ، إنك أنت العزيز الحكيم ) . . إن التعبير يبدأ بصيغة الخبر . . حكاية تحكى :
( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) . .
وبينما نحن في انتظار بقية الخبر ، إذا بالسياق يكشف لنا عنهما ، ويرينا إياهما ، كما لو كانت رؤية العين لا رؤيا الخيال . إنهما أمامنا حاضران ، نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان :
( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم . . ربنا . . )
فنغمة الدعاء ، وموسيقى الدعاء ، وجو الدعاء . . كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة . . وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل . رد المشهد الغائب الذاهب ، حاضرا يسمع ويرى ، ويتحرك ويشخص ، وتفيض منه الحياة . . إنها خصيصة " التصوير الفني " بمعناه الصادق ، اللائق بالكتاب الخالد .
وماذا في ثنايا الدعاء ؟ إنه أدب النبوة ، وإيمان النبوة ، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود . وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء ، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء :
( ربنا تقبل منا . إنك أنت السميع العليم ) . .
إنه طلب القبول . . هذه هي الغاية . . فهو عمل خالص لله . الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى الله . والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول . . والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء . عليهم بما وراءه من النية والشعور .
فالقواعد : جمع قاعدة ، وهي السارية والأساس ، يقول تعالى : واذكر - يا محمد - لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل ، عليهما السلام ، البيت ، ورفْعَهما القواعدَ منه ، وهما يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فهما في عمل صالح ، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما ، كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي ، عن وهيب بن الورد : أنه قرأ : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } ثم يبكي ويقول : يا خليل الرحمن ، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مُشْفق أن لا يتقبل منك . وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين المخلصين{[2699]} في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } أي : يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات { وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ }
[ المؤمنون : 60 ] أي : خائفة ألا يتقبل منهم . كما جاء به الحديث الصحيح ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه .
وقال بعض المفسرين : الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم ، والداعي إسماعيل . والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان ، كما سيأتي بيانه .
وقد روى البخاري هاهنا حديثًا سنورده ثم نُتْبِعه بآثار متعلقة بذلك . قال البخاري ، رحمه الله :
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن أيوب السخيتاني{[2700]} وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وَدَاعة - يزيد أحدُهما على الآخر - عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : أول ما{[2701]} اتخذ النساء المنْطَق من قبَل أم إسماعيل ، عليهما{[2702]} السلام اتخذت منطقًا ليعفي أثرها على سارة . ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل ، عليهما السلام ، وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زَمْزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء فوضعهما هنالك ، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر وسِقَاء فيه ماء ، ثم قَفَّى إبراهيم ، عليه السلام ، منطلقًا . فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مرارًا ، وجعل لا يلتفت إليها . فقالت {[2703]} آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذًا لا يضيعنا . ثم رجعت . فانطلق إبراهيم ، عليه السلام ، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهؤلاء الدعوات ، ورفع يديه ، قال : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] ، وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، عليهما السلام ، وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ماء السقاء{[2704]} عطشت وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى - أو قال : يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقربَ جبل في الأرض يليها{[2705]} فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا ؟ فلم تر أحدًا . فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طَرْفَ درعها ، ثم سعت سَعْيَ الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي . ثم أتت المروة ، فقامت عليها ونظرت هل ترى أحَدًا ؟ فلم تر أحدًا . ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فلذلك سعى الناس بينهما " .
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت : صه ، تريد نفسها ، ثم تَسَمَّعت فسمعَت أيضًا . فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غُوَاث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه - أو قال : بجناحه - حتى ظهر الماء ، فجعلت تُحَوِّضُهُ ، وتقول بيدها هكذا ، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يرحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم - أو قال : لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينًا مَعينًا " .
قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة ؛ فإن هاهنا بيتًا لله ، عز وجل ، يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله ، عز وجل ، لا يضيع أهله . وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جُرْهُم - أو أهل بيت من جُرْهم - مقبلين من طريق كَدَاء . فنزلوا في أسفل مكة ، فرأوا طائرًا عائفًا ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على الماء ، لعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء . فأرسلوا جَرِيًّا أو جَرِيَّين ، فإذا هم بالماء . فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا . قال : وأم إسماعيل عند الماء . فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت : نعم ، ولكن لا حَقَّ لكم في الماء . قالوا : نعم .
قال ابن عباس{[2706]} فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس . فنزلوا ، وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم . حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب الغلامُ ، وتعلم العربية منهم ، وأنْفَسَهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل ، عليهما{[2707]} السلام ، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيلُ ليطالع تَرْكَتَه . فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا . ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بشَرّ ، نحن في ضيق وشدة . وشكت إليه . قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، وقولي له : يغير عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل ، عليه السلام ، كأنه أنس شيئًا . فقال : هل جاءكم من أحد ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا ، فسأل{[2708]} عنك ، فأخبرته ، وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا في جَهْد وشدَّة . قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ، ويقول{[2709]} غَيِّرْ عتبة بابك . قال : ذاك أبي . وقد أمرني أن أفارقك ، فالحقي بأهلك . فَطَلَّقَها وتزوج منهم بأخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعد فلم يجده . فدخل على امرأته ، فسألها عنه ، فقالت : خرج يبتغي لنا . قال : كيف أنتم ؟
وسألها عن عيشهم وَهَيْئَتهم . فقالت : نحن بخير وسعة . وأثنت على الله ، عز وجل . فقال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحم . قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماء . قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء " . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولم يكن لهم يومئذ حَب ، ولو كان لهم ، لدعا لهم فيه . قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه " . قال : " فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ، ومُريه يُثَبِّت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل ، عليه السلام ، قال : هل أتاكم من أحد ؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة ، وأثنت عليه{[2710]} فسألني عنك ، فأخبرته ، فسألني : كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير . قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت : نعم ، هو يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي ، وأنت العتبة ، أمرني أن أمسكك . ثم لَبثَ عنهم ما شاء الله ، عز وجل ، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْلا{[2711]} له تحت دوحة قريبًا من زمزم ، فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الولد بالوالد ، والوالد بالولد . ثم قال : يا إسماعيل ، إن الله أمرني بأمر . قال : فاصنع ما أمرك ربك ، عز وجل . قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتًا - وأشار إلى أكَمَةٍ مرتفعة على ما حولها - قال : فعند ذلك رَفَعا القواعد من البيت فجعل{[2712]} إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وهما يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } " قال : " فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت ، وهما يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }{[2713]} .
[ ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولا ]{[2714]} .
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي عبد الله محمد بن حمَّاد الظهراني . وابن جرير ، عن أحمد بن ثابت الرازي ، كلاهما عن عبد الرزاق به مختصرًا{[2715]} .
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا أحمد بن محمد الأزرقي ، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن عبد الملك بن جُرَيج ، عن كثير بن كثير ، قال : كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير ، في أعلى المسجد ليلا فقال سعيد بن جبير : سلوني قبل أن لا تروني . فسألوه عن المقام . فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس ، فذكر الحديث بطوله .
ثم قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد . حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو{[2716]} حدثنا إبراهيم بن نافع ، عن كثير بن كثير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان ، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ، ومعهم شَنَّة فيها ماء ، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنَّة ، فيَدِرُّ لبنها على صبيها ، حتى قدم مكة فوضعها تحت دوحة ، ثم رجع إبراهيم إلى أهله ، فاتبعته أم إسماعيل ، حتى{[2717]} بلغوا كَدَاء نادته{[2718]} من ورائه : يا إبراهيم ، إلى من تتركنا ؟ قال : إلى الله ، عز وجل . قالت : رضيت بالله . قال : فرجَعَتْ ، فجعلت تشرب من الشنة ، ويَدر لبنها على صَبيها حتى لما فَنِي الماء قالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا . قال : فذهَبَتْ فصَعدت الصفا ، فنظرت ونظرت هل تحس أحدًا ، فلم تحس أحدًا . فلما بلغت الوادي سَعَت{[2719]} حتى أتت المروة ، ففعلت ذلك أشواطا ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، تعني الصبي ، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه يَنْشَغُ للموت ، فلم تقُرَّها نفسها ، فقالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدًا . قال : فذهبت فصعدت الصفا ، فنظرت ونَظرت فلم تُحس أحدًا ، حتى أتمت سبعا ، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، فإذا هي بصوت ، فقالت : أغثْ إن كان عندك خير . فإذا جبريل ، عليه السلام ، قال : فقال بعقبه هكذا ، وغمز عَقِبَه على الأرض . قال : فانبثق الماء ، فَدَهَشَتْ أم إسماعيل ، فجعلت تحفر .
قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : " لو تركَتْه لكان الماء ظاهرًا{[2720]} .
قال : فجعلت تشرب من الماء ويَدِرُّ لبنها على صَبِيِّها .
قال : فمر ناس من جُرْهم ببطن الوادي ، فإذا هم بطير ، كأنهم أنكروا ذلك ، وقالوا : ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم فَنَظَرَ ، فإذا هو بالماء . فأتاهم فأخبرهم . فأتوا إليها فقالوا : يا أم إسماعيل ، أتأذنين لنا أن نكون معك - ونسكن معك ؟ - فبلغ ابنها ونكح فيهم{[2721]} امرأة .
قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم{[2722]} فقال لأهله : إني مُطَّلع تَرْكَتي . قال : فجاء فسلم ، فقال : أين إسماعيل ؟ قالت امرأته : ذهب يصيد . قال : قولي له إذا جاء : غير عتبة بيتك . فلما جاء أخبرته ، قال : أنت ذَاكِ ، فاذهبي إلى أهلك .
قال : ثم إنه بدا لإبراهيم ، فقال لأهله : إني مُطَّلع تَرْكتي . قال : فجاء فقال : أين إسماعيل ؟ فقالت امرأته : ذهب يصيد . فقالت : ألا تنزل فَتَطْعَم وتشرب ؟ فقال : ما طعامكم وما شرابكم ؟ قالت : طعامنا اللحم ، وشرابنا الماء . قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم .
قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : " بَرَكة بدعوة إبراهيم "
قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله : إني مُطَّلع تَرْكتي . فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نَبْلا له{[2723]} فقال : يا إسماعيل ، إن ربك ، عز وجل ، أمرني أن أبني له بيتًا . فقال : أطعْ ربك ، عز وجل . قال : إنه قد أمرني أن تعينني عليه ؟ فقال : إذن أفعلَ - أو كما قال - قال : فقاما{[2724]} [ قال ]{[2725]} فجعل إبراهيم يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
قال : حتى ارتفع البناء وضَعُفَ الشيخ عن نقل الحجارة . فقام على حَجَر المقام ، فجعل يناوله الحجارة ويقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
هكذا{[2726]} رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء{[2727]} .
والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك ، عن أبي العباس الأصم ، عن محمد بن سنان القَزَّاز ، عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ، عن إبراهيم بن نافع ، به . وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . كذا قال . وقد رواه البخاري كما ترى ، من حديث إبراهيم بن نافع ، كأن فيه اقتصارًا ، فإنه لم يذكر فيه [ شأن ]{[2728]} الذبح . وقد جاء في الصحيح ، أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة ، وقد جاء أن إبراهيم ، عليه السلام ، كان يزور أهله بمكة على البراق سريعًا{[2729]} ثم يعود إلى أهله بالبلاد{[2730]} المقدسة ، والله أعلم . والحديث - والله أعلم - إنما فيه - مرفوع - أماكن صَرح بها ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا ، كما قال ابن جرير :
حدثنا محمد بن بشار ، ومحمد بن المثنى قالا حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مضرِّب ، عن علي بن أبي طالب ، قال : لما أمر إبراهيم ببناء البيت ، خرج معه إسماعيل وهاجر . قال : فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة ، فيه مثلُ الرأس . فكلمه ، قال : يا إبراهيم ، ابن على ظِلي - أو قال على قدري - ولا تَزْد ولا تنقص : فلما بنى خرج ، وخلف إسماعيل وهاجر ، فقالت هاجر : يا إبراهيم ، إلى من تكلنا ؟ قال : إلى الله . قالت : انطلق ، فإنه لا يضيعنا . قال : فعطش إسماعيل عطشًا شديدًا ، قال : فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ، حتى أتت المروة فلم تر شيئًا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ، حتى أتت المروة فلم تر شيئًا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئًا ، حتى فعلت ذلك سبع مرات ، فقالت : يا إسماعيل ، مت حيث لا أراك . فأتته وهو يفحص برجله من العطش . فناداها جبريل فقال لها : من أنت ؟ قالت : أنا هاجر أم ولد إبراهيم . قال : فإلى من وَكَلَكُما ؟ قالت : وكلنا إلى الله . قال : وكلكما إلى كافٍ . قال : ففحص الغلام الأرض بأصبعه ، فنبعت زمزم . فجعلت تحبس الماء فقال : دعيه فإنها رَوَاء{[2731]} .
ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما ، وقد يحتمل - إن كان محفوظًا - أن يكون أولا وضع له حوطًا وتحجيرًا ، لا أنه بناه إلى أعلاه ، حتى كبر إسماعيل فبنياه معًا ، كما قال الله تعالى .
ثم قال ابن جرير : أخبرنا هَنَّاد بن السري ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سِماك ، عن خالد بن عرعرة ، أن رجلا قام إلى علي ، رضي الله عنه ، فقال : ألا تخبرني عن البيت ، أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ فقال : لا ولكنه أول بيت وضع فيه البَرَكة{[2732]} ، مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنًا ، وإن شئت أنبأتك كيف بني : إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتًا في الأرض ، قال : فضاق إبراهيم بذلك ذرعًا فأرسل الله السكينة - وهي ريح خجوج ، ولها رأسان - فأتْبَع أحدهما صاحبه ، حتى انتهت إلى مكة ، فتطوت{[2733]} على موضع البيت كطي الحجفَة ، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة . فبنى إبراهيم وبقي حجر ، فذهب الغلام يبغي شيئًا . فقال إبراهيم : أبغني حجرًا كما آمرك . قال : فانطلق الغلام يلتمس له حجرًا ، فأتاه به ، فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه . فقال : يا أبه ، من أتاك بهذا الحجر ؟ فقال : أتاني به من لن يَتَّكل{[2734]} على بنائك ، جاء به جبريل ، عليه السلام ، من السماء . فأتماه{[2735]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن بشر بن عاصم ، عن سعيد بن المسيب ، عن كعب الأحبار ، قال : كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عامًا ، ومنه دحيت الأرض .
قال سعيد : وحدثنا علي بن أبي طالب : أن إبراهيم أقبل من أرمينية ، ومعه السكينة تدله على تَبُوُّء{[2736]} البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتًا ، قال : فكشفت عن أحجار لا يُطيق{[2737]} الحجر إلا ثلاثون رجلا . قلت :{[2738]} يا أبا محمد ، فإن الله يقول : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } قال : كان ذلك بعد .
وقال السدي : إن الله ، عز وجل ، أمر إبراهيم أن يبني [ البيت ] {[2739]}هو وإسماعيل : ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ، فانطلق إبراهيم ، عليه السلام ، حتى أتى مكة ، فقام هو وإسماعيل ، وأخَذَا المعاول لا يدريان أين البيت ؟ فبعث الله ريحًا ، يقال لها : ريح الخجوج ، لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول ، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس . فذلك حين يقول [ الله ]{[2740]} تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } [ الحج : 26 ] فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن . قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني ، اطلب لي حجرًا حسنًا أضعه هاهنا . قال : يا أبت ، إني كسلان لَغب .
قال : عَلَيّ بذلك فانطلق فطلب{[2741]} له حجرًا ، فجاءه بحجر فلم يرضه ، فقال ائتني بحجر أحسن من هذا ، فانطلق يطلب له حجرًا ، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند ، وكان أبيض ، ياقوتة بيضاء مثل الثَّغَامة ، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس ، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن ، فقال : يا أبه ، من جاءك بهذا ؟ قال : جاء به من هو أنشط منك . فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى [ بهن ]{[2742]} إبراهيم ربه ، فقال : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم . وإنما هُدِي إبراهيمُ إليها وبُوِّئ لها . وقد ذهب إلى ذلك {[2743]}ذاهبون ، كما قال الإمام عبد الرزاق{[2744]} أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ } قال :{[2745]} القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك{[2746]} .
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا هشام بن حسان ، عن سوار - ختن عطاء - عن عطاء ابن أبي رباح ، قال : لما أهبط الله آدم من الجنة ، كانت رجلاه في الأرض ورأسُه في السماء يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم ، يأنس إليهم ، فهابته{[2747]} الملائكة ، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها . فخفضه الله إلى الأرض ، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته . فوجه إلى مكة ، فكان موضع قَدَمه قريةً ، وخَطوُه مفازة ، حتى انتهى إلى مكة ، وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة ، فكانت على موضع البيت الآن . فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان ، فرفعت تلك الياقوتة ، حتى بعث الله إبراهيم ، عليه السلام ، فبناه . وذلك قول الله تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } [ الحج : 26 ] {[2748]} .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : قال آدم : إني لا أسمع أصوات الملائكة ؟ ! قال : بخطيئتك ، ولكن اهبط إلى الأرض ، فابن لي بيتًا ثم احفف به ، كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء . فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل : من حراء . وطور زيتا ، وطور سَيْناء ، وجبل لبنان ، والجودي . وكان رَبَضُه من حراء . فكان هذا بناء آدم ، حتى بناه إبراهيم ، عليه السلام ، بعد{[2749]} .
وهذا صحيح إلى عطاء ، ولكن في بعضه نكارَة ، والله أعلم .
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : وضع الله البيت مع آدم حين أهبط الله آدم إلى الأرض ، وكان مهبطه بأرض الهند . وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فكانت الملائكة تهابه ، فنُقص إلى ستين ذراعًا ؛ فحزن{[2750]} إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم . فشكا ذلك إلى الله ، عز وجل ، فقال الله : يا آدم ، إني قد أهبطت لك بيتًا تطوف به كما يُطَاف حول عرشي ، وتصلِّي عنده كما يصلى عند عرشي ، فانطلق إليه آدم ، فخرج ومُدَّ له في خطوه ، فكان بين كل خطوتين مفازة . فلم تزل تلك المفازة{[2751]} بعد ذلك . فأتى آدم البيت فطاف به ، ومَن بعده من الأنبياء{[2752]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد{[2753]} حدثنا يعقوب القُمِّي ، عن حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : وضع الله البيت على أركان الماء ، على أربعة أركان ، قبل أن تُخْلَق الدنيا بألفي عام ، ثم دحِيت الأرض من تحت البيت .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني [ عبد الله ]{[2754]} بن أبي نَجِيح ، عن مجاهد وغيره من أهل العلم : أن الله لما بَوَّأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام ، وخرج معه بإسماعيل وبأمه هاجر ، وإسماعيل طفل صغير يرضع ، وحمُلوا - فيما حدثني - على البُرَاق ، ومعه جبريل يَدُلّه على موضع البيت ومعالم الحَرم . وخرج معه جبريل ، فكان لا يمر بقرية إلا قال : أبهذه أمرت يا جبريل ؟ فيقول جبريل : امضِه . حتى قدم به مكة ، وهي إذ ذاك عضَاة سَلَم وَسَمُر ، وبها أناس يقال لهم : " العماليق " خارج مكة وما حولها . والبيت يومئذ ربوة حمراء مَدِرَة ، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما ؟ قال : نعم . فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه ، وأمر هاجَرَ أمَّ إسماعيل أن تتخذ فيه عَريشًا ، فقال : { رَبَّنَا{[2755]} إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } إلى قوله : { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا هشام بن حَسَّان ، أخبرني حُمَيد ، عن مجاهد ، قال : خلق الله موضعَ هذا البيت قبلَ أن يخلق شيئًا بألفي سنة ، وأركانه في الأرض السابعة{[2756]} .
وكذا قال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : القواعد في الأرض السابعة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَمْرو بن رافع ، أخبرنا {[2757]} عبد الوهاب بن معاوية ، عن عبد المؤمن بن خالد ، عن علياء بن أحمر : أن ذا القرنين قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعدَ البيت من خمسة أجبل . فقال : ما لكما ولأرضي ؟ فقال{[2758]} نحن عبدان مأموران ، أمرنا ببناء هذه الكعبة . قال : فهاتا بالبينة على ما تدعيان . فقامت خمسة أكبش ، فقلن : نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران ، أمرا ببناء هذه الكعبة . فقال : قد رضيت وسلمت . ثم مضى .
وذَكَرَ الأزْرَقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم ، عليه السلام ، بالبيت ، وهذا يدل على تقدم زمانه{[2759]} ، والله أعلم .
وقال البخاري ، رحمه الله : قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } الآية : القواعد : أساسه واحدها قاعدة . والقواعد من النساء : واحدتها قاعدُ .
حدثنا إسماعيل ، حدثني مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله : أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عُمَر ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألم تَرَيْ أن قومك حين بنوا البيت {[2760]} اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ " فقلت : يا رسول الله ، ألا تَرُدَّها على قواعد إبراهيم ؟ قال : " لولا حِدْثان قومك بالكفر " . فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سَمعت هذا{[2761]} من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الرُّكنين اللذَين يَلِيان الحِجْر إلا أن البيت لم يُتَمَّم على قواعد إبراهيم ، عليه السلام{[2762]} .
وقد رواه في الحج عن القَعْنَبي ، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف . ومسلم عن يحيى بن يحيى ، ومن حديث ابن وهب . والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم ، كلهم عن مالك به{[2763]} .
ورواه مسلم أيضًا من حديث نافع ، قال : سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قُحَافة يحدث عبدَ الله بن عُمَر ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال : بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها الحجر " {[2764]} .
وقال البخاري : حدثنا عُبَيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الأسود ، قال : قال لي ابنُ الزبير : كانت عائشة تُسر إليك حديثًا كثيرًا ، فما حدثتك في الكعبة ؟ قال قلت : قالت لي : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة ، لولا قومك حديث عهدهم - فقال ابن الزبير : بكفر - لنقضت الكعبة ، فجعلت لها بابين : بابًا يدخل منه الناس ، وبابًا يخرجون " . ففعله ابن الزبير .
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه{[2765]} .
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا حَدَاثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم ، فإن قريشا حين بنت البيت{[2766]} استقصرت ، ولجعلت لها خَلْفًا " .
قال : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيب ، قالا حدثنا ابن نُمَير ، عن هشام بهذا الإسناد . انفرد به مسلم{[2767]} ، قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثني ابن مهدي ، حدثنا سليم بن حَيَّان ، عن سعيد - يعني ابن ميناء - قال : سمعت عبد الله بن الزبير يقول : حدثتني خالتي - يعني عائشة رضي الله عنها - قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة ، لولا قومك حديث عَهْد {[2768]} بشرك ، لهدمت الكعبة ، فألزقتها بالأرض ، ولجعلت لها بابين : بابًا شرقيًّا ، وبابًا غربيًّا ، وزدتُ فيها ستة أذرع من الحِجْر ؛ فإن قريشًا اقتصرتها حيث بنت الكعبة " انفرد به أيضًا{[2769]} . ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، بمدد{[2770]} طويلة
وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين
وقد نقل معهم في الحجارة ، وله من العمر خمس وثلاثون سنة
صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين
قال محمد بن إسحاق بن يسار ، في السيرة :
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسًا وثلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ، وكانوا يَهُمُّون بذلك{[2771]} ليسقفوها ، ويهابون هَدْمها ، وإنما كانت رَضما فوق القامة ، فأرادوا رفعها وتسقيفها ، وذلك أن نفرًا سرقوا كنز الكعبة ، وإنما كان يكون في بئر في جَوْف الكعبة ، وكان الذي وُجد عنده الكنز دويك ، مولى بني مُلَيح بن عمرو من خزاعة ، فقطعت قريش يده . ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك . وكان البحر قد رَمى بسفينة إلى جُدَّة ، لرجل من تجار الروم ، فتحطمت ، فأخذوا خشبها فأعدُّوه لتسقيفها . وكان بمكة رجل قبطي نجار ، فهيأ لهم ، في أنفسهم بعض ما يصلحها ، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تَطْرَحُ ، فيها ما يُهْدَى لها كل يوم ، فَتَتشرق{[2772]} على جدار الكعبة ، وكانت مما يهابون . وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزَألَّت وكشت وفتحت فاها ، فكانوا يهابونها ، فبينا هي يوما تَتَشرَّق على جدار الكعبة ، كما كانت تصنع ، بعث الله إليها طائرًا فاختطفها ، فذهب بها . فقالت قريش : إنا لنرجو أن يكون الله قد رَضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق ، وعندنا خشب ، وقد كفانا الله الحية .
فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها ، قام أبو وهب بن عَمْرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم ، فتناول من الكعبة حجرًا ، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه . فقال : يا معشر قريش ، لا تُدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبًا ، لا يدخل فيها مهر بَغِي ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس .
قال ابن إسحاق : والناس ينحلون هذا الكلام الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر{[2773]} بن مَخزُوم{[2774]} .
قال : ثم إن قريشا تَجَزأت الكعبة ، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة ، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم ، وكان ظهر الكعبة لبني جُمَح وسهم ، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قُصي ، ولبني أسد بن عبد العزى بن قُصي ، ولبني عدي بن كعب بن لؤي ، وهو الحَطيم .
ثم إن الناس هابوا هَدْمها وفَرقُوا{[2775]} منه ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هَدْمها : فأخذ المعْولَ ثم قام عليها وهو يقول : اللهم لم تَرعْ ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير . ثم هدم من ناحية الركنين ، فتربص الناس تلك الليلة ، وقالوا : ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئًا ، ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا . فأصبح الوليد من ليلته غاديًا على عَمَله ، فهدم وهدم الناس معه ، حتى إذا انتهى الهدم [ بهم ] {[2776]}إلى الأساس ، أساس إبراهيم ، عليه السلام ، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضًا{[2777]} .
قال [ محمد بن إسحاق ]{[2778]} فحدثني بعض من يروي الحديث : أن رجلا من قريش ، ممن كان يهدمها ، أدخل عَتَلة بين حجرين منها ليقلع بها أحدهما ، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها ، فانتهوا عن ذلك الأساس{[2779]} .
قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جَمَعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الركن - يعني الحجر الأسود - فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى تحاوروا وتخالفوا ، وأعدوا للقتال . فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت ، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة ، فسموا : لعَقَة الدم . فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا . ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا .
فزعم بعض أهل الرواية : أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم - وكان عامئذ أسن قريش كلهم - قال{[2780]} : يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد ، يقضي بينكم ، فيه . ففعلوا ، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا ، هذا محمد ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ، قال [ رسول الله ]{[2781]} صلى الله عليه وسلم : " هَلُمَّ إليَّ ثوبًا " فأتي به ، فأخذ الركن - يعني الحجر الأسود - فوضعه فيه بيده ، ثم قال : " لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب " ، ثم [ قال ]{[2782]} : " ارفعوه جميعا " . ففعلوا ، حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ، ثم بنى عليه .
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي : الأمين . فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا ، قال الزبير بن عبد المطلب ، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها :
عجبت لَمَا تصوبت{[2783]} العُقَاب *** إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش *** وأحيانًا يكون لها وثَاب
إذا قمنا إلى التأسيس شَدَّت *** تُهَيّبُنُا البناءَ وقد تُهَابُ
فلما أن خَشِينا الزَّجْرَ جاءت *** عقاب تَتْلَئِبُّ لها انصباب
فضمتها إليها ثم خَلَّت *** لنا البنيانَ ليس له حجاب
فَقُمْنَا حاشدين إلى بناء *** لنا منه القواعدُ والتراب
غداة نُرَفِّع التأسيس منه *** وليس على مُسَوِّينا ثياب
أعَزّ به المليكُ بني لُؤي *** فليسَ لأصله منْهُم ذَهاب
وقد حَشَدَتْ هُنَاك بنو عَديّ *** ومُرَّة قد تَقَدَّمَها كلاب
فَبَوَّأنا المليك بذاكَ عزّا *** وعند الله يُلْتَمَسُ الثواب
قال ابن إسحاق : وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر ذراعًا ، وكانت تكسى القباطي ، ثم كُسِيت بعدُ البُرود ، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف .
قلت : ولم تزل على بناء قريش حتى أحرقت{[2784]} في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين . وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية ، لما حاصروا ابن الزبير ، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم ، عليه السلام ، وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابًا شرقيًّا وبابًا غربيًّا ملصقين بالأرض ، كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم تزل كذلك مُدَّة إمارته حتى قتله الحجاج ، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مَرْوان له بذلك ، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :
حدثنا هَنَّاد بن السَّري ، حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن أبي سليمان ، عن عطاء ، قال : لما احترق البيت زَمَنَ يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام ، وكان من أمره ما كان ، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسمَ يريد أن يُجَرِّئَهم - أو يُحزبهم - على أهل الشام ، فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس ، أشيروا عليَّ في الكعبة ، أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وَهَى منها ؟ قال ابن عباس : فإني{[2785]} قد فَرِقَ لي رأي فيها ، أرى أن تُصْلِحَ ما وَهى منها ، وتدع بيتًا أسلم الناس عليه{[2786]} وأحجارًا أسلم الناس عليها ، وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم . فقال ابن الزبير : لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده ، فكيف بيت ربكم ، عز وجل ؛ إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمري . فلما مضَت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها . فتحاماها الناسُ أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمْر من السماء ، حتى صعده رجل ، فألقى منه حجارة ، فلما لم يَره الناس أصابه شيء تتابعوا ، فنقضوه حتى بلغوا به الأرض . فجعل ابن الزبير أعمدة يستر{[2787]} عليها الستور ، حتى ارتفع بناؤه . وقال ابن الزبير : إني سمعت عائشة ، رضي الله عنها ، تقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لولا أن الناس حديث عهدُهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما يُقَوِّيني على بنائه ، لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ، ولجعلت له بابًا يدخل الناس منه ، وبابًا يخرجون منه{[2788]} . قال : فأنا أجد ما أنفق ، ولست أخاف الناس . قال : فزاد فيه خمسة{[2789]} أذرع من الحجر ، حتى أبدى له أسا{[2790]} نَظَر الناس إليه فبنى عليه البناء . وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعًا ، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة{[2791]} أذرع ، وجعل له بابين : أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه . فلما قُتِل ابنُ الزبير كتب الحجَّاج إلى عبد الملك يخبره بذلك ، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة ، فكتب إليه عبد الملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاده في طوله فأقره . وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه ، وسد الباب الذي فتحه . فنقضه وأعاده إلى بنائه{[2792]} .
وقد رواه النسائي في سننه ، عن هناد ، عن يحيى بن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن الزبير ، عن عائشة بالمرفوع منه{[2793]} . ولم يذكر القصة ، وقد كانَت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير ، رضي الله عنه ؛ لأنه هو الذي وَدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكن خشي أن تنكره
قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقربِ عهدهم من الكفر . ولكن خفيت هذه السُّنةُ على عبد الملك ؛ ولهذا{[2794]} لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وددنا أنا تركناه وما تولى . كما قال مسلم :
حدثني محمد بن حاتم{[2795]} حدثنا محمد بن بكر{[2796]} أخبرنا ابن جُرَيج ، سمعت عبد الله بن عُبَيد بن عمير والوليد بن عطاء ، يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، قال عبد الله بن عبيد : وَفَدَ الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته ، فقال عبد الملك : ما أظن أبا خُبَيبٍ - يعني ابن الزبير - سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها . قال الحارث : بلى ، أنا سمعته منها . قال : سمعتها تقول ماذا ؟ قال : قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن قومك استقصروا من بنيان البيت ، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه ، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فَهَلُمِّي لأريك ما تركوا منه " . فأراها قريبًا من سبعة{[2797]} أذرع{[2798]} .
هذا حديث عبد الله بن عُبيد [ بن عمير ]{[2799]} . وزاد عليه الوليد بن عطاء : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيًّا وغربيًّا ، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها ؟ " قالت : قلت : لا . قال : " تَعَزُّزًا ألا يدخلها إلا من أرادوا . فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها ، يَدَعونه حتى {[2800]} يرتقي ، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط " قال عبد الملك : فقلت للحارث : أنت سمعتها تقول هذا ؟ قال : نعم . قال : فَنَكَتَ ساعة بعصاه ، ثم قال : وَدِدْتُ أني تركت وما تَحَمَّل .
قال مسلم : وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة ، حدثنا أبو عاصم( ح ) وحدثنا عَبْدُ بن حُمَيْد ، أخبرنا عبد الرزاق ، كلاهما عن ابن جُرَيج بهذا الإسناد ، مثلَ حديث ابن{[2801]} بكر{[2802]} .
قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي ، حدثنا حاتم بن أبي صَغيرة ، عن أبي قَزَعَة أنَّ عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال : قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أمِّ المؤمنين ، يقول : سمعتها تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة ، لولا حِدْثان قومك بالكفر لنقضت البيت حتى أزيد فيها{[2803]} من الحجر ، فإنَّ قومك قصروا في البناء " . فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة : لا تقل هذا يا أمير المؤمنين ، فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث هذا . قال : لو كنتُ سمعته قبل أن أهدمَه لتركته على ما بنى ابن الزبير{[2804]} .
فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة أم المؤمنين ، لأنه قد رُوي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد ، والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق ، وعروة بن الزبير . فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير . فلو ترك لكان جيدًا .
ولكن بعد ما رجع الأمر إلى هذا الحال ، فقد كَرِه بعض العلماء أن يغير عن حاله ، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد - أو أبيه المهدي - أنه سأل الإمام مالكًا عن هدم الكعبة وردِّها إلى ما فعله ابن الزبير . فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا تجعل كعبة الله مَلْعَبَة للملوك ، لا يشاء أحد{[2805]} أن يهدمها إلا هدمها . فترك ذلك الرشيد .
نقله عياض والنواوي ، ولا تزال - والله أعلم - هكذا إلى آخر الزمان ، إلى أن يخرِّبَها ذو السويقتين من الحبشة ، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يخرب الكعبة ذو السُّوَيقتين من الحبشة " . أخرجاه{[2806]} .
وعن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " كأني به أسودَ أفحَجَ ، يقلعها حجرًا حجرًا " . رواه البخاري{[2807]} .
وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا أحمد بن عبد الملك الحَرَّاني ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهما{[2808]} قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يُخَرِّب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ، ويسلبها حلْيتها{[2809]} ويجردها من كسوتها . ولكأني أنظر إليه أصيلع أفَيْدعَ يضرب عليها بِمِسْحَاته ومِعْوله " {[2810]} .
الفَدَع : زيغ بين القدم وعظم الساق .
وهذا - والله أعلم - إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج ، لما جاء في صحيح{[2811]} البخاري عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليُحَجَّنَّ البيتُ وليُعْتَمَرَنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج " {[2812]} .
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }( 127 )
المعنى واذكر إذ ، و { القواعد } جمع قاعدة وهي الأساس ، وقال الفراء : «هي الجدر » .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تجوز( {[1255]} ) ، والقواعد من النساء جمع قاعد وهي التي قعدت عن الولد وحذفت تاء التأنيث لأنه لا دخول للمذكر فيه ، هذا قول بعض النحاة ، وقد شذ حذفها مع اشتراك المذكر بقولهم ناقة ضامر( {[1256]} ) ، ومذهب الخليل أنه متى حذفت تاء التأنيث زال الجري على الفعل وكان ذلك على النسب .
و { البيت } هنا الكعبة بإجماع ، واختلف بعد( {[1257]} ) رواة القصص : فقيل إن آدم أمر ببنائه ، فبناه ، ثم دثر ودرس حتى دل عليه إبراهيم فرفع قواعده ، وقيل : إن آدم هبط به من الجنة ، وقيل : إنه لما استوحش في الأرض حين نقص طوله وفقد أصوات الملائكة أهبط إليه وهو كالدرة ، وقيل : كالياقوتة ، وقيل : إن البيت كان ربوة حمراء ، وقيل بيضاء ، ومن تحته دحيت الأرض ، وإن إبراهيم ابتدأ بناءه بأمر الله ورفع قواعده .
و الذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع قواعد البيت( {[1258]} ) ، وجائز ِقدمه وجائز أن يكون ذلك ابتداء ، ولا يرجح شيء من ذلك إلا بسند يقطع العذر ، وقال عبيد بن عمير( {[1259]} ) : رفعها إبراهيم وإسماعيل معاً ، وقال ابن عباس : رفعها إبراهيم ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وقال علي بن أبي طالب : رفعها إبراهيم ، وإسماعيل طفل صغير .
قال القاضي أبو محمد : ولا يصح هذا عن علي رضي الله عنه ، لأن الآية والآثار تردهُ ، { وإسماعيل } عطف على { إبراهيم } ، وقيل هو مقطوع على الابتداء وخبره فيما بعد ، قال الماوردي : { إسماعيل } أصله اسمع يا إيل .
قال القاضي أبو محمد وهذا ضعيف ، وتقدير الكلام : يقولان ربنا تقبل ، وهي في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود كذلك بثبوت «يقولان » ، وقالت فرقة : التقدير وإسماعيل يقول ربنا ، وحذف لدلالة الظاهر عليه ، وكل هذا يدل على أن إسماعيل لم يكن طفلاً في ذلك الوقت ، وخصّا هاتين الصفتين لتناسبهما مع حالهما ، أي { السميع } لدعائنا و { العليم } بنياتنا .
هذه منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام ، وتذكيرٌ بشرف الكعبة ، ووسيلة ثالثة إلى التعريض بالمشركين بعد قوله : { ربنا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لك ومن ذريتنا أُمَّةً مُسلمة } [ البقرة : 128 ] إلخ ، وتمهيد للرد على اليهود إنكارهم استقبال الكعبة الذي يجيء عند قوله تعالى : { سيقول السفهاء } [ البقرة : 142 ] ولأجل استقلالها بهاته المقاصد الثلاثة التي تضمنتها الآيات قبلها عطفت على سوابقها مع الاقتران بإذْ تنبيهاً على الاستقلال .
وخولف الأسلوب الذي يقتضيه الظاهر في حكاية الماضي أن يكون بالفعل الماضي بأن يقول وإذ رفع إلى كونه بالمضارع لاستحضارِ الحالة وحكايتها كأنها مشاهدة لأن المضارع دال على زمن الحال فاستعماله هنا استعارة تبعية ، شبه الماضي بالحال لشهرته ولتكرر الحديث عنه بينهم فإنهم لحبهم إبراهيم وإجلالهم إياه لا يزالون يذكرون مناقبه وأعظمها بناء الكعبة فشبه الماضي لذلك بالحال ولأن ما مضى من الآيات في ذكر إبراهيم من قوله : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه } [ البقرة : 124 ] إلى هنا مما يوجب امتلاء أذهان السامعين بإبراهيم وشؤونه حتى كأنه حاضر بينهم وكأن أحواله حاضرة مشاهدة ، وكلمة ( إذ ) قرينة على هذا التنزيل لأن غالب الاستعمال أن يكون للزمن الماضي وهذا معنى قول النحاة أن إذ تخلص المضارع إلى الماضي .
والقواعد جمع قاعدة وهي أساس البناء الموالي للأرض الذي به ثبات البناء أطلق عليها هذا اللفظ لأنها أشبهت القاعد في اللصوق بالأرض فأصل تسمية القاعدة مجاز عن اللصوق بالأرض ثم عن إرادة الثبات في الأرض وهاء التأنيث فيها للمبالغة مثل هاء علاَّمة .
ورفع القواعد إبرازها من الأرض والاعتلاء بها لتصير جداراً لأن البناء يتصل بعضه ببعض ويصير كالشيء الواحد فالجدار إذا اتصل بالأساس صار الأساس مرتفعاً ، ويجوز جعل القواعد بمعنى جدران البيت كما سموها بالأركان ورفعها إطالتها ، وقد جعل ارتفاع جدران البيت تسعة أذرع . ويجوز أن يفاد من اختيار مادة الرفع دون مادة الإطالة ونحوها معنى التشريف ، وفي إثبات ذلك للقواعد كناية عن ثبوته للبيت ، وفي إسناد الرفع بهذا المعنى إلى إبراهيم مجاز عقلي لأن إبراهيم سبب الرفع المذكور أي بدعائه المقارن له . وعطف إسماعيل على إبراهيم تنويه به إذ كان معاونه ومناوله .
وللإشارة إلى التفاوت بين عمل إبراهيم وعمل إسماعيل أوقع العطف على الفاعل بعد ذكر المفعول والمتعلقات ، وهذا من خصوصيات العربية في أسلوب العطف فيما ظهر لي ولا يحضرني الآن مثله في كلام العرب ، وذلك أنك إذا أردت أن تدل على التفاوت بين الفاعلين في صدور الفعل تجعل عطف أحدهما بعد انتهاء ما يتعلق بالفاعل الأول ، وإذا أردت أن تجعل المعطوف والمعطوف عليه سواء في صدور الفعل تجعل المعطوف موالياً للمعطوف عليه .
وإسماعيل اسم الابن البكر لإبراهيم عليه السلام وهو ولده من جاريته هاجر القبطية ، ولد في أرض الكنعانيين بين قادش وبارد سنة 1910 عشر وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح .
ومعنى إسماعيل بالعبرية سمع الله أي إجابة الله لأن الله استجاب دعاء أمه هاجر إذ خرجت حاملاً بإسماعيل مفارقة الموضع الذي فيه سارة مولاتها حين حدث لسارة من الغيرة من هاجر لما حملت هاجر ولم يكن لسارة أبناء يومئذ ، وقيل هو معرب عن يشمعيل بالعبرانية ومعناه الذي يسمع له الله ، ولما كبر إسماعيل رأى إبراهيم رؤيا وحي أن يذبحه فعزم على ذبحه ففداه الله ، وإسماعيل يومئذ الابن الوحيد لإبراهيم قبل ولادة إسحاق ، وكان إسماعيل مقيماً بمكة حول الكعبة ، وتوفي بمكة سنة 1773 ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح تقريباً ، ودفن بالحجر الذي حول الكعبة .
وجملة { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } مقول قول محذوف يقدر حالاً من { يرفع إبراهيم } وهذا القول من كلام إبراهيم لأنه الذي يناسبه الدعاء لذريته لأن إسماعيل كان حينئذ صغيراً .
والعدول عن ذكر القول إلى نطق المتكلم بما قاله المحكي عنه هو ضرب من استحضار الحالة قد مهد له الإخبار بالفعل المضارع في قوله : { وإذ يرفع } حتى كأن المتكلم هو صاحب القول وهذا ضرب من الإيغال .
وجملة { إنك أنت السميع العليم } تعليل لطلب التقبل منهما ، وتعريف جزءي هذه الجملة والإتيان بضمير الفصل يفيد قصرين للمبالغة في كمال الوصفين له تعالى بتنزيل سمع غيره وعلم غيره منزلة العدم . ويجوز أن يكون قصراً حقيقياً باعتبار متعلق خاص أي السميع العليم لدعائنا لا يعلمه غيرك وهذا قصر حقيقي مقيد وهو نوع مغاير للقصر الإضافي لم ينبه عليه علماء المعاني .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} يعني: أساس البيت الحرام...
فلما فرغا من بناء البيت، قالا: {ربنا تقبل منا}، يعني: بناء هذا البيت الحرام.
{إنك أنت السميع العليم} لدعائهما: {ربنا تقبل منا}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ": واذكروا إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت. والقواعد جمع قاعدة، يقال للواحدة من قواعد البيت قاعدة، وللواحدة من قواعد النساء وعجائزهن قاعد... وقواعد البيت: أساسه.
ثم اختلف أهل التأويل في القواعد التي رفعها إبراهيم وإسماعيل من البيت، أهما أحدثا ذلك، أم هي قواعد كانت له قبلهما؟
فقال قوم: هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك، ثم درس مكانه وتعفى أثره بعده حتى بوأه الله إبراهيم عليه السلام، فبناه...
وقال آخرون: بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لاَدم من السماء إلى الأرض، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء، ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت...
وقال آخرون: بل كان موضع البيت ربوة حمراء كهيئة القبة. وذلك أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماءَ زَبْدَةٌ حمراءُ أو بيضاءُ، وذلك في موضع البيت الحرام. ثم دحا الأرض من تحتها، فلم يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم، فبناه على أساسه... وقالوا: على أركان أربعة في الأرض السابعة...
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنه وابنه إسماعيل رفعا القواعد من البيت الحرام، وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم، فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة. وجائز أن يكون ذلك كان القبة مما أنشأه الله من زَبَد الماء، وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درّة أُهبطا من السماء، وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل. ولا علم عندنا بأيّ ذلك كان من أَيَ، لأن حقيقة ذلك لا تُدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بالنقل المستفيض، ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها، ولا هو إذ لم يكن به خبر على ما وصفنا مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس فيمثل بغيره، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد، فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب ما قلنا. والله تعالى أعلم.
{رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا}: يعني تعالى ذكره بذلك: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ} يقولان: {رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا} وذكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود، وهو قول جماعة من أهل التأويل... فتأويل الآية على هذا القول: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} قائلَيْنِ: ربنا تقبل منا.
وقال آخرون: بل قائل ذلك كان إسماعيل. فتأويل الآية على هذا القول: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت}، وإذ يقول إسماعيل: ربنا تقبل منا...
ثم اختلف أهل التأويل في الذي رفع القواعد بعد إجماعهم على أن إبراهيم كان ممن رفعها، فقال بعضهم: رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا.
وقال آخرون: بل رفع قواعد البيت إبراهيم، وكان إسماعيل يناوله الحجارة...
وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده وإسماعيل يومئذ طفل صغير...
فمن قال: رفع القواعد إبراهيم وإسماعيل، أو قال رفعها إبراهيم وكان إسماعيل يناوله الحجارة. فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل، ويكون الكلام حينئذٍ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ} يقولان: رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا.
وقد كان يحتمل على هذا التأويل أن يكون المضمر من القول لإسماعيل خاصة دون إبراهيم، ولإبراهيم خاصة دون إسماعيل لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل جميعا.
وأما على التأويل الذي روي عن عليّ أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيل، فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا لإسماعيل خاصة.
والصواب من القول عندنا في ذلك أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل، وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا، وذلك أن إبراهيم وإسماعيل إن كانا هما بنياهما ورفعاها فهو ما قلنا، وإن كان إبراهيم تفرّد ببنائها، وكان إسماعيل يناوله، فهما أيضا رفعاها لأن رفعها كان بهما من أحدهما البناء ومن الاَخر نَقْلُ الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته. وإنما قلنا ما قلنا من ذلك لإجماع جميع أهل التأويل على أن إسماعيل معنيّ بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه أنهما كانا يقولانه، وذلك قولهما: {رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ} فمعلوم أن إسماعيل لم يكن ليقول ذلك إلا وهو إما رجل كامل، وإما غلام قد فهم مواضع الضرّ من النفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه. وإذا كان في حال بناء أبيه، ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله كذلك، فمعلوم أنه لم يكن تاركا معونة أبيه، إما على البناء، وإما على نقل الحجارة. وأيّ ذلك كان منه فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت، وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام.
فتأويل الكلام: {وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} يقولان: ربنا تقبل منا عملنا وطاعتنا إياك وعبادتنا لك في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه إنك أنت السميع العليم. وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان: "رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ "دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه ولا منزلاً ينزلانه، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقرّبا منهما إلى الله بذلك ولذلك قالا: {رَبّنا تَقَبّلْ منّا}. ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهما لم يكن لقولهما: تقبل منا وجه مفهوم، لأنه كانا يكونان لو كان الأمر كذلك سائلين أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه، وليس موضعهما مسألة الله قبول، ما لا قربة إليه فيه.
{إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ}: إنك أنت السميع دعاءنا، ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه، العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة، وما نُبدي ونُخفي من أعمالنا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فهكذا الواجب على كل مأمور بعبادة أو قربة إذا فرغ منها وأداها، أن يتضرع إلى الله ويبتهل ليقبل منه، ولا أن يرد عليه ليضيع سعيه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
نجْحُ السؤال في صدق الابتهال؛ فلما فزعا إلى الخضوع في الدعاء أتاهما المدد، وتحقيق السؤال. {إنك أنت السميع} لأقوالنا {العليم} بأحوالنا...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{القواعد} جمع قاعدة وهي... الأصل لما فوقه، وهي صفة غالبة، ومعناها الثابتة. ومنه قعّدك الله، أي أسأل الله أن يقعدك أي يثبتك.
ورفع الأساس: البناء عليها لأنها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر... ومعنى رفع القواعد: رفعها بالبناء لأنه إذا وضع سافاً فوق ساف فقد رفع السافات. ويجوز أن يكون المعنى: وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت أي استوطأ يعني جعل هيئته القاعدة المستوطئة مرتفعة عالية بالبناء فإن قلت: هلا قيل: قواعد البيت، وأي فرق بين العبارتين؟ قلت: في إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام ما ليس في إضافتها لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم لشأن المبين...
اعلم أن هذا هو النوع الرابع من الأمور التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وهو أنهما عند بناء البيت ذكرا ثلاثة من الدعاء...
{تقبل منا}... قال العارفون: فرق بين القبول والتقبل، فإن التقبل عبارة عن أن يتكلف الإنسان في قبوله، وذلك إنما يكون حيث يكون العمل ناقصا لا يستحق أن يقبل، فهذا اعتراف منهما بالتقصير في العمل، واعتراف بالعجز والانكسار، وأيضا فلم يكن المقصود إعطاء الثواب عليه، لأن كون الفعل واقعا موقع القبول من المخدوم ألذ عند الخادم العاقل من إعطاء الثواب عليه...
[و] إنما عقب هذا الدعاء بقوله: {إنك أنت السميع العليم} كأنه يقول: تسمع دعاءنا وتضرعنا، وتعلم ما في قلبنا من الإخلاص وترك الالتفات إلى أحد سواك. فإن قيل: قوله: {إنك أنت السميع العليم} يفيد الحصر وليس الأمر كذلك، فإن غيره قد يكون سميعا. قلنا: إنه سبحانه لكماله في هذه الصفة يكون كأنه هو المختص بها دون غيره...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
49- فسؤالهما القبول في فعلهما مع أنهما- صلوات الله عليهما وسلامه- لا يفعلان إلا فعلا صحيحا، يدل على أن القبول غير لازم من الفعل الصحيح، ولذلك دعيا به أنفسهما (الفروق: 2/52)...
قال: إنما فصل بين إسماعيل وإبراهيم بالمفعول (ليظهر كمال المباينة بينهما) لأن إبراهيم هو متولي البناء وهو الذي كان يضع الحجر في الحائط وإسماعيل إنما كان يناوله خاصة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر بما مهده من أمر البيت ديناً ودنيا، أتبعه ببنائه مشيراً إلى ما حباهم به من النعمة وما قابلوه به من كفرها باختيارهم لأن يكونوا من غير الأمة المسلمة التي دعا لها لما دعا للرسول فقال عاطفاً على {إذ ابتلى} تعديداً لوجوه النعم على العرب بأبيهم الأعظم استعطافاً إلى التوحيد {وإذ يرفع إبراهيم} أي اذكر الوقت الذي يباشر بالرفع...
{القواعد من البيت} قال الحرالي: عدّد تعالى وجوه عنايته بسابقة العرب في هذه الآيات كما عدد وجوه نعمته على بني إسرائيل في سابقة الخطاب، فكانت هذه في أمر إقامة دين الله، وكانت تلك في محاولة مدافعته، ليظهر بذلك تفاوت ما بين الاصطفاء والعناية، والقاعدة ما يقعد عليه الشيء أي يستقر ويثبت...
ولما أفرد الخليل عليه السلام بهذا الرفع إظهاراً لشرفه بكونه هو السبب الأعظم في ذلك عطف عليه ولده فقال: {وإسماعيل} أي يرفع القواعد أيضاً.
ووصل بهذا العمل الشريف قوله: {ربنا} مراداً فيه القول محذوفاً منه أداة البعد: أي يقولان: {ربنا تقبل منا} أي عاملنا بفضلك ولا ترده علينا، إشعاراً بالاعتراف بالتقصير لحقارة العبد وإن اجتهد في جنب عظمة مولاه.
ولما تضمن سؤال القبول المشعر بخوف الرد علم الناقد البصير بالتقصير علله بقوله: {إنك} وأكده بقوله: {أنت السميع العليم} أي فإن كنت سمعت أو علمت منا حسناً فرده حسناً، وإن كنت سمعت أو علمت غير ذلك من نحو قول ناشئ عن اختلاج في النفس بما سببه كلال أو إعياء فاغفره...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
والتعرضُ لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاحُ المربوبِ مع الإضافة إلى ضميرهما عليهما السلام لتحريك سلسلةِ الإجابةِ...
وتركُ مفعول تقبّل مع ذكره في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم، الآية 40] ليعُم الدعاءُ وغيره من القُرَب والطاعات التي من جملتها ما هما بصدده من الثناء كما يُعرب عنه جعلُ الجملة الدعائية حالية {إِنَّكَ أَنتَ السميع} لجميع المسموعات التي من جملتها دعاؤُنا {العليم} بكل المعلومات التي من زُمرتها نياتُنا في جميع أعمالِنا
والجملة تعليلٌ لاستدعاء التقبّل لا من حيث إن كونَه تعالى سميعاً لدعائهما عليماً بنياتهما مصححٌ للتقبل في الجملة، بل من حيث إن علمَه تعالى بصحة نياتهما وإخلاصِهما في أعمالهما مستدعٍ له بموجَب الوعدِ تفضُّلاً.
وتأكيدُ الجملة لغرض كمالِ قوةِ يقينِهما بمضمونها، وقصرُ نعتي السمع والعلمِ عليه تعالى لإظهار اختصاصِ دعائهما به تعالى وانقطاعِ رجائهما عما سواه بالكلية... واعلم أن الظاهر أن أولَ ما جرى من الأمور المحكية هو الابتلاءُ وما يتبعه، ثم دعاءُ البلديةِ والأمنِ وما يتعلق به ثم رفعُ قواعدِ البيت وما يتلوه ثم جعلُه مثابةً للناس والأمرُ بتطهيره، ولعل تغيير الترتيب الوقوعيِّ في الحكاية لنظم الشؤون الصادرةِ عن جنابه تعالى في سلك مستقلٍ ونظمِ الأمور الواقعةِ من جهة إبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السلام من الأفعال والأقوال في سلك آخرَ.
وأما قوله تعالى: ومن كفر الخ فإنما وقع في تضاعيف الأحوال المتعلقةِ بإبراهيم لاقتضاءِ المقام، واستيجابِ ما سبق من الكلام ذلك بحيث لم يكن بدٌّ منه أصلاً كما أن وقوعَ قوله عليه السلام: (ومن ذريتي) في خلال كلامِه سبحانه لذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذكر الله تعالى العرب أولا بنعمته عليهم بهذا البيت: أن جعله مثابة للناس وأمنا، وبدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام لبلد البيت واستجابة الله تعالى دعاءه إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من البلاد البعيدة فيتمتع أهله بها، وهي نعم يعرفونها لا ينكرها أحد، وانتقل منها إلى التذكير بالنعم المعنوية فذكر عهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود لينبههم بإضافة البيت إلى نفسه أنه لا يليق أن يعبد فيه غيره، وبتطهيره لأجل الطواف والاعتكاف والصلاة أنه يجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة وعن سائر الأعمال الذميمة كطواف العريان وكانوا يفعلونه. ثم ذكرهم بعد هذا بأن إبراهيم هو الذي بنى هذا البيت بمساعدة ابنه إسماعيل وذكر لهم من دعائهما هنالك ما يرشدهم إلى العبادة الصحيحة والدين الحق ويجذبهم إلى الاقتداء بذلك السلف الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به، فإن قريشا كانت تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل بحق وتدعى أنها على ملة إبراهيم، ولذلك كانت ترى أنها أهدى من الفرس والروم. وسائر العرب تبع لقريش.
قوله تعالى {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} ظاهر في أنهما هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين جاءونا من ذلك بغير ما قصه الله تعالى علينا وتفننوا في رواياتهم عن قدم البيت وعن حج آدم ومن بعده من الأنبياء إليه وعن ارتفاعه إلى السماء في وقت الطوفان ثم نزوله مرة أخرى، وهذه الروايات يناقض، أو يعارض بعضها بعضا، فهي فاسدة في تناقضها وتعارضها، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها، وفاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن، ولم يستح بعض الناس من إدخالها في تفسير القرآن وإلصاقها به وهو بريء منها...
(الأستاذ الإمام): لو كان أولئك القصاصون يعرفون الماس لقالوا إن الحجر الأسود منه لأنه أبهج الجواهر منظرا وأكثرها بهاء، وقد أراد هؤلاء أن يزينوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه، ولكنها إذا راقت للبله من العامة فإنها لا تروق لأهل العقل والعلم الذين يعلمون أن الشريف هذا الضرب من الشرف المعنوي هو ما شرفه الله تعالى، فشرف هذا البيت إنما هو بتسمية الله تعالى إياه بيته، وجعله موضعا لضروب من عبادته لا تكون في غيره كما تقدم، لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع، ولا بكونه من السماء، ولا بأنه من عالم الضياء، وكذلك شرف الأنبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم ولا في ملابسهم، وإنما هو لاصطفاء الله تعالى إياهم، وتخصيصهم بالنبوة التي هي أمر معنوي. وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة وأكثر نعمة منهم.
وقد أفصح عن هذا المعنى الذي قرره الأستاذ الإمام أمير المؤمنين ومشيد دعائم الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذ قال عند استلام الحجر الأسود "أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك: ثم دنا فقبله "رواه أبو بكر بن أبي شيبة والإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من عدة طرق...
ومن مباحث اللفظ في الجملة: أن القواعد جمع قاعدة وهي ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس أو من الساقات، ورفعها إعلاء البناء عليها أو إعلاؤها نفسها على الخلاف و "من البيت" قال الجلال إنه متعلق بيرفع، وهذا إنما يصح إذا أريد بالبيت العرصة أو البقعة التي وقع فيها البناء، والأكثرون على أن "من" للبيان وعليه يكون البيت بمعنى نفس البناء والجدران، وهناك قول ثالث وهو أن "من" للتبعيض بناء على أن البيت مجموع العرصة والبناء،.
قال الأستاذ الإمام: وفي الكلام نكتة لطيفة وهي أن ذكر القواعد أولا ينبه الذهن ويحركه إلى طلب معرفة القواعد ما هي؟ وقواعد أي شيء هي؟ فإذا جاء البيان بعد ذلك كان أحسن وقعا في النفس، وأشد تمكنا في الذهن، وأما النكتة في تأخير ذكر إسماعيل عن ذكر المفعول، مع أن الظاهر أن يقال: وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت: فهي الإلماع إلى كون المأمور من الله ببناء البيت هو إبراهيم، وإنما كان إسماعيل مساعدا له وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وفي الآية إشارة إلى أن كل مأمور بعبادة إذا فرغ منها وأداها كما أمر وبذل أقصى الوسع في ذلك – فعليه أن يتضرع إلى الله ويبتهل، ليتقبل منه ما عمل ولا يرده خائبا ولا يضيع سعيه سدى، كما أنه لا ينبغي أن يجزم بأن عبادته متقبلة، ولولا ذلك لما كان لهذا التضرع فائدة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يرسم مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود.. يرسمه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن...
إن التعبير يبدأ بصيغة الخبر.. حكاية تحكى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل)..
وبينما نحن في انتظار بقية الخبر، إذا بالسياق يكشف لنا عنهما، ويرينا إياهما، كما لو كانت رؤية العين لا رؤيا الخيال. إنهما أمامنا حاضران، نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم... فنغمة الدعاء، وموسيقى الدعاء، وجو الدعاء.. كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة. وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل. رد المشهد الغائب الذاهب، حاضرا يسمع ويرى، ويتحرك ويشخص، وتفيض منه الحياة..
إنها خصيصة "التصوير الفني "بمعناه الصادق، اللائق بالكتاب الخالد...
وماذا في ثنايا الدعاء؟ إنه أدب النبوة، وإيمان النبوة، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود. وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء: (ربنا تقبل منا. إنك أنت السميع العليم).. إنه طلب القبول.. هذه هي الغاية.. فهو عمل خالص لله. الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى الله. والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول.. والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء. عليم بما وراءه من النية والشعور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه منقبة ثالثة لإبراهيم عليه السلام، وتذكيرٌ بشرف الكعبة، ووسيلة ثالثة إلى التعريض بالمشركين بعد قوله: {ربنا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لك ومن ذريتنا أُمَّةً مُسلمة} [البقرة: 128] إلخ، وتمهيد للرد على اليهود إنكارهم استقبال الكعبة الذي يجيء عند قوله تعالى: {سيقول السفهاء} [البقرة: 142] ولأجل استقلالها بهاته المقاصد الثلاثة التي تضمنتها الآيات قبلها عطفت على سوابقها مع الاقتران بإذْ تنبيهاً على الاستقلال...
وخولف الأسلوب الذي يقتضيه الظاهر في حكاية الماضي أن يكون بالفعل الماضي بأن يقول وإذ رفع إلى كونه بالمضارع لاستحضارِ الحالة وحكايتها كأنها مشاهدة لأن المضارع دال على زمن الحال فاستعماله هنا استعارة تبعية، شبه الماضي بالحال لشهرته ولتكرر الحديث عنه بينهم فإنهم لحبهم إبراهيم وإجلالهم إياه لا يزالون يذكرون مناقبه وأعظمها بناء الكعبة فشبه الماضي لذلك بالحال ولأن ما مضى من الآيات في ذكر إبراهيم من قوله: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه} [البقرة: 124] إلى هنا مما يوجب امتلاء أذهان السامعين بإبراهيم وشؤونه حتى كأنه حاضر بينهم وكأن أحواله حاضرة مشاهدة.
وكلمة (إذ) قرينة على هذا التنزيل لأن غالب الاستعمال أن يكون للزمن الماضي وهذا معنى قول النحاة أن إذ تخلص المضارع إلى الماضي...
{إنك أنت السميع العليم}... ويجوز أن يكون قصراً حقيقياً باعتبار متعلق خاص أي السميع العليم لدعائنا لا يعلمه غيرك وهذا قصر حقيقي مقيد وهو نوع مغاير للقصر الإضافي لم ينبه عليه علماء المعاني...