الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (127)

قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ } : " إذ " عطفٌ على " إذ " قبلها فالكلامُ فيهما واحِدٌ ، و " يرفعُ " في معنى رفَعَ ماضياً ، لأنَّها من الأدواتِ المخلِّصةِ المضارعَ للمُضِيّ . وقال الزمخشري : " هي حكايةُ حالٍ ماضية " قال الشيخ : " وفيه نظرٌ " . والقواعدُ : جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لِما فوقُ ، وهي صفةٌ غالبة ومعناها الثابتة ، ومنه " قَعَّدك الله " أي : أسأل الله تَثْبيتك ، ومعنى رَفْعِها البناءُ عليها ، لأنه إذا بُني عليها نُقِلَتْ من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع . وأمّا القواعدُ من النساء فمفردُها " قاعِد " من غير تاءٍ لأنَّ المذكر لاحظَّ له فيها إذ هي من : قَعَدَتْ عن الزوج . ولم يقل " قواعد البيت " بالإِضافة لِما في البيان بعد الإِبهام من تفخيمِ شَأْنِ المبيَّن .

قوله : { مِنَ الْبَيْتِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه متعلِّقٌ ب " يرفع " ومعناها ابتداءُ الغايةِ . والثاني : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " القواعدِ " فيتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه : كائنةً من البيت ، ويكون معنى " مِنْ " التبعيضَ .

قوله : { وَإِسْمَاعِيلُ } فيه قولان ، أحدُهما - وهو الظاهرُ - أنَّه عطفٌ على " إبراهيم " فيكونُ فاعلاً مشاركاً له في الرفعِ ، ويكونُ قولُه : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } في محلِّ نَصْب بإضمار القولِ ، ذلك القولُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ منهما أي : يَرْفَعان يقولان : ربَّنَا تقبَّلْ ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ ، قرأ : " يقولان ربَّنا تقبَّلْ ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ ، قرأ : " يقولان ربَّنا تقبَّلْ " أي : قائِلين ذلك ، ويجوز ألاَّ يكونَ هذا القولُ حالاً بل هو جملةٌ معطوفةٌ على ما قبلها ، ويكونُ هو العاملَ في " إذ " قبله ، والتقديرُ : يقولان ربَّنا تقبَّلْ إذ يرفعان أي : وقتَ رَفْعِهما .

والثاني : الواوُ واو الحالِ ، و " إسماعيلُ " مبتدأٌ وخبرهُ قولٌ محذوفٌ هو العاملُ في قولِه : " ربَّنا تَقبَّلْ " فيكونُ " إبراهيم " هو الرافعَ ، و " إسماعيلُ " هو الداعيَ فقط ، قالوا : لأنَّ إسماعيلَ كان حينئذٍ طفلاً صغيراً ، وَرَوْوه عن علي عليه السلام . والتقديرُ : وإذ يرفع إبراهيمُ حالَ كونِ إسماعيل يقول : ربَّنا تقبَّلْ منا . وفي المجيء بلفظِ الربِّ تنبيهٌ بذِكْرِ هذه الصفةِ على التربية والإصلاح . وتقبَّلْ بمعنى اقبْلَ ، فتفعَّلْ هنا بمعنى المجرَّد . وتقدَّم الكلام على نحوِ { إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ } من كون " أنت " يجوزُ فيه التأكيدُ والابتداءُ والفصلُ ، وتقدَّمت صفةُ السمع وإن كان سؤالُ التقبُّلِ متأخراً عن العمل للمجاوَرَةِ ، كقولِه : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ } [ آل عمران : 106 ] وتأخَّرت صفةُ العِلْمِ لأنَّها فاصلةٌ ، ولأنَّها تَشْمَل المسموعاتِ وغيرَها .