وكان اليهود يزعمون - كما يزعمون حتى اليوم - أنهم شعب الله المختار ، وأنهم هم أولياؤه من دون الناس وأن غيرهم هم " الجوييم " أو الأمميون أو الأميون . وأنهم من ثم غير مطالبين بمراعاة أحكام دينهم مع غيرهم من الأميين : ( قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ) . . إلى آخر هذه الدعاوى التي تفتري الكذب على الله بلا دليل ! فهنا دعوة لهم إلى المباهلة التي تكررت معهم ومع النصارى ومع المشركين :
( قل : يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين . ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين . قل : إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ، ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة ، فينبئكم بما كنتم تعملون ) . .
والمباهلة معناها وقوف الفريقين المتنازعين وجها لوجه ، ودعاؤهما معا إلى الله أن ينكل بالمبطل منهما . . وقد خاف كل من دعاهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى هذه المباهلة ونكلوا عنها ، ولم يقبلوا التحدي فيها . مما يدل على أنهم في قرارة نفوسهم كانوا يعرفون صدق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وحقية هذا الدين .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن يزيد الزرقي ، حدثنا أبو يزيد ، حدثنا فرات ، عن عبدالكريم ابن مالك الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال أبو جهل - لعنه الله - إن رأيت محمدا عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه . قال : فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " لو فعل لأخذته الملائكة عيانا . ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأو مقاعدهم من النار . ولو خرج الذين يباهلون رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا " .
وقد لا تكون هذه مباهلة ولكن مجرد تحد لهم ، بما أنهم يزعمون أنهم أولياء لله من دون الناس . فما يخيفهم إذن من الموت ، ويجعلهم أجبن خلق الله ? وهم حين يموتون ينالون ما عند الله مما يلقاه الأولياء والمقربون ? !
ثم قال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : إن كنتم تزعمون أنكم على هدى ، وأن محمدا وأصحابه على ضلالة ، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فيما تزعمونه .
وقوله تعالى : { قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم } الآية ، روي أنها نزلت بسبب أن يهود المدينة لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبوا يهود خيبر في أمره ، وذكروا لهم نبوته ، وقالوا : إن رأيتم اتباعه أطعناكم وإن رأيتم خلافه خالفناه معكم ، فجاءهم جواب أهل خيبر يقولون : نحن أبناء إبراهيم خليل الرحمن ، وأبناء عُزيْر ابن الله ومنا الأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب ، نحن أحق بالنبوة من محمد ، ولا سبيل إلى اتباعه ، فنزلت الآية بمعنى : أنكم إذا كنتم من الله تعالى بهذه المنزلة فقربه وفراق هذه الحياة الحسية أحب إليكم { فتمنوا الموت } إن كنتم تعتقدون في أنفسكم هذه المنزلة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لليهود:"يا أيّها الّذِينَ هادُوا إنْ زَعَمْتُمْ أنّكُمْ أوْلِياءُ لِلّهِ مِنْ دُونِ النّاسِ "سواكم "فَتَمّنُوا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ" في قيلكم، إنكم أولياء لله من دون الناس، فإن الله لا يعذّب أولياءه، بل يكرمهم وينعمهم، وإن كنتم محقين فيما تقولون فتمنوا الموت لتستريحوا من كرب الدنيا وهمومها وغمومها، وتصيروا إلى روح الجنان ونعيمها بالموت.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... المباهلة في المتعارف إنما هي المحاجة في بلوغ العناد والتمرد غايته؛ فكأنه لما قررت عندهم جميع الحجج، فلم يقبلوها، أمره بالمباهلة، فلم يباهله اليهود والنصارى، لأنه يجوز أن قد كانت في كتابهم هذا، وإن المباهلة من غاية المحادة، وإن من باهل نزل عليه العذاب واللعنة إن لم يكن محقا. فكذلك امتنعوا من المباهلة. وأما العرب من المشركين فلم يكن لهم كتاب يعرفون به حكم المباهلة، فباهلوا؛ وذلك أنه روي أن أبا جهل كان يقول: اللهم انصر أحبنا إليك وأقرانا للضيف وأوصلنا للرحم، فنصر الله تعالى نبيه عليه السلام فأبو جهل باهله لأنه لم يكن له كتاب، ولم يباهله اليهود والنصارى لما كانت لهم كتب عرفوا فيها حكم المباهلة، والله أعلم...
رُوي أن اليهود زعموا أنهم أولياء لله من دون الناس، فأنزل الله هذه الآية، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إن تمنَّوْهُ ماتوا؛ فقامت الحجة عليهم بها من وجهين؛
أحدهما: أنهم لو كانوا صادقين فيما ادّعوا من المنزلة عند الله لتمنوا الموت، لأن دخول الجنة مع الموت خير من البقاء في الدنيا.
والثاني: أنه أخبر أنهم لا يتمنونه فوجد مخبره على ما أخبر به، فهذا واضح من دلائل النبوة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هاد يهود: إذا تهود. {أَوْلِيَاء لِلَّهِ}: كانوا يقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه. أي: إن كان قولكم حقاً وكنتم على ثقة {فَتَمَنَّوُاْ} على الله أن يميتكم وينقلكم سريعاً إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قل} أي يا أيها الرسول الذي هم قاطعون بأنه رسوله الله: {يا أيها الذين هادوا} أي تدينوا باليهودية. ولما كان الحق يصدع من له أدنى مسكة، فكانوا جديرين بالرجوع عن العناد، عبر بأداة الشك فقال: {إن زعمتم} أي قلتم قولاً هو معرض للتكذيب ولذلك أكدتموه {أنكم أولياء الله} أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، خصكم بذلك خصوصية مبتدأة {من دون} أي أدنى رتبة من رتب {الناس} فلم تتعد الولاية تلك الرتبة الدنيا إلى أحد منكم غيركم، بل خصكم بذلك عن كل من فيه أهلية الحركة لا سيما الأميين {فتمنوا الموت} وأخبروا عن أنفسكم بذلك للنقلة من دار البلاء إلى محل الكرامة والآلاء {إن كنتم} أي كوناً راسخاً {صادقين} أي عريقين عند أنفسكم في الصدق فإن من علامات المحبة الاشتياق إلى المحبوب، ومن التطوع به أن من كان في كدر وكان له ولي قد وعده عند الوصول إليه الراحة التي لا يشوبها ضرر أنه يتمنى النقلة إلى وليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهنا دعوة لهم إلى المباهلة التي تكررت معهم ومع النصارى ومع المشركين.. والمباهلة معناها وقوف الفريقين المتنازعين وجها لوجه، ودعاؤهما معا إلى الله أن ينكل بالمبطل منهما.. وقد خاف كل من دعاهم رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى هذه المباهلة ونكلوا عنها، ولم يقبلوا التحدي فيها. مما يدل على أنهم في قرارة نفوسهم كانوا يعرفون صدق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وحقية هذا الدين...
وقد لا تكون هذه مباهلة ولكن مجرد تحد لهم، بما أنهم يزعمون أنهم أولياء لله من دون الناس. فما يخيفهم إذن من الموت، ويجعلهم أجبن خلق الله؟ وهم حين يموتون ينالون ما عند الله مما يلقاه الأولياء والمقربون؟!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {الذين هادوا}: هم الذين كانوا يهوداً... وجيء {بإن} الشرطية التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط مع أن الشرط هنا محقق الوقوع إذ قد اشتهروا بهذا الزعم وحكاه القرآن عنهم في سورة [العقود: 18]: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} للإِشارة إلى أن زعمهم هذا لما كان باطلاً بالدلائل كان بمنزلة الشيء الذي يفرض وقوعه كما يفرض المستبعد وكأنه ليس واقعاً... فما تضمنته هذه الآية حكاية عن حال اليهود الموجودين يومئذٍ...
وأما الأَخبار التي أوردناها فوصف لأحوال معيّنة وأشخاص معينين فلا تعارض مع اختلاف الأحوال والأزمان، فلو حصل لأحد يقين بالتعجيل إلى النعيم لتمنى الموت إلا أن تكون حياته لتأييد الدين كحياة الأنبياء...