{ والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم* يحلفون بالله لكم ليرضوكم } ، قال قتادة و السدي : اجتمع ناس من المنافقين فيهم الجلاس بن سويد ، ووديعة بن ثابت ، فوقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير ، وكان عندهم غلام من الأنصار يقال له عامر بن قيس ، فحقروه وقالوا هذه المقالة ، فغضب الغلام وقال : والله إن ما يقول محمد حق وأنتم شر من الحمير ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فدعاهم وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحلفوا أن عامرا كذاب . وحلف عامر أنهم كذبة فصدقهم النبي صلى الله عليهم وسلم ، فجعل عامر يدعو ويقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقال مقاتل والكلبي : نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوه يعتذرون إليه ويحلفون ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين* } .
( يحلفون باللّه لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) . .
يحلفون بالله لكم ليرضوكم ، على طريقة المنافقين في كل زمان ، الذين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من وراء الظهور ؛ ثم يجبنون عن المواجهة ، ويضعفون عن المصارحة ، فيتضاءلون ويتخاذلون للناس ليرضوهم .
( واللّه ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ) . .
فماذا يكون الناس ? وماذا تبلغ قوتهم ? ولكن الذي لا يؤمن باللّه عادة ولا يعنو له ، يعنو لإنسان مثله ويخشاه ؛ ولقد كان خيراً أن يعنو للّه الذي يتساوى أمامه الجميع ، ولا يذل من يخضع له ، إنما يذل من يخضع لعباده ، ولا يصغر من يخشاه ، إنما يصغر من يعرضون عنه فيخشون من دونه من عباد اللّه .
قال قتادة في قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الآية ، قال : ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ، وإن كان ما يقول محمد حقا ، لهم شر من الحمير . قال : فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله إن ما يقول محمد لحق ، ولأنت أشر من الحمار . قال : فسعى بها الرجل إلى النبي{[13591]} صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : " ما حملك على الذي قلت ؟ " فجعل يلتعن ، ويحلف بالله ما قال ذلك . وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب . فأنزل الله ، عز وجل : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ }
وقوله تعالى : { يحلفون بالله لكم } الآية ، ظاهر هذه الآية أن المراد بها جميع المنافقين الذين يحلفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأنهم منهم في الدين وأنهم معهم في كل أمر وكل حزب ، وهم في ذلك يبطنون النفاق ويتربصون الدوائر وهذا قول جماعة من أهل التأويل ، وقد روت فرقة أنها نزلت بسبب رجل من المنافقين قال إن كان ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم حقاً فأنا شر من الخمر ، فبلغ قوله رسول الله صلى الله وسلم فدعاه ووقف على قوله ووبخه فحلف مجتهداً أنه ما فعل ، فنزلت الآية في ذلك{[5760]} ، وقوله { والله } مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها ، والتقدير عنده والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه وهذا كقول الشاعر : [ المنسرح ]
نحن بما عندنا وأنت بما عن*** دك راضٍ والرأي مختلفُ{[5761]}
ومذهب المبرد أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، وتقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله قال وكانوا يكرهون أن يجمع الرسول مع الله في ضمير ، حكاه النقاش عنه ، وليس هذا بشيء ، وفي مصنف أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما » فجمع في ضمير ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر «بئس الخطيب أنت » إنما ذلك وقف في«يعصهما » فأدخل العاصي في الرشد{[5762]} ، وقيل الضمير في { يرضوه } عائد على المذكور كما قال رؤبة : [ الرجز ] .
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبلقْ*** كأنَّه في الجلد توليعُ البهقْ{[5763]}
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يحلفون بالله لكم ليرضوكم} بعد اليوم... ألا نتخلف عنك، ولنكونن معك على عدوك، {والله ورسوله أحق أن يرضوه}، فيها تقديم، {إن كانوا مؤمنين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: يحلف لكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون بالله ليرضوكم فيما بلغكم عنهم من أذاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرهم إياه، بالطعن عليه والعيب له، ومطابقتهم سرّا أهل الكفر عليكم بالله، والأيْمان الفاجرة أنهم ما فعلوا ذلك وإنهم لعلى دينكم ومعكم على من خالفكم، يبتغون بذلك رضاكم، يقول الله جلّ ثناؤه:"وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أحَقّ أنْ يُرْضُوهُ" بالتوبة والإنابة مما قالوا ونطقوا، "إنْ كانُوا مُؤْمِنينَ "يقول: إن كانوا مصدّقين بتوحيد الله، مقرّين بوعده ووعيده...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) بما حلفوا عليه. ذكر بعض أهل التأويل: أن الأنصار مشت إليهم؛ يعني إلى المنافقين، فقالوا تعيروننا وما نزل فيكم، حتى متى؟ فكانوا يحلفون للأنصار: والله ما كان شيء من ذلك، فأكذبهم الله فقال: (يحلفون بالله لكم) ما كان الذي بلغكم (ليرضوكم) بما حلفوا (والله ورسوله أحق) منكم يا معشر الأنصار (أن يرضوه) حين اطلع على ما حلفوا وهم كذبة (إن كانوا مؤمنين) يقول: ولكن ليسوا بمصدقين. والأشبه أن تكون الآية نزلت في معاتبة جرت بين المؤمنين والمنافقين باستهزاء كان منهم برسول الله أو طعن فيه أو استهزاء بدين الله، فاعتذروا إليهم، وحلفوا على ذلك ليرضوا، فقال: (والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) حقيقة، ولكن ليسوا بمؤمنين.
... وفيه وجوه: أحدها: أن فيه دلالة تحقيق رسالته صلى الله عليه وسلم ليعلموا أنه حق حين اطلع عليه بما أسروا في أنفسهم وكتموا من المكر به وأنواع السفه. والثاني: ليحذروا، ويمتنعوا عن مثله والمعاودة إليه، لما علموا أنه يطلع على جميع ما يسرون عنه ويكتمون.
والثالث: أن فيه تنبيها للمؤمنين وتعليما لهم منه بأنه إذا وقع لهم مثل ذلك لا يشتغلون بالحلف طلب إرضاء بعضهم بعضا، ولكن يتوبون إلى الله، ويطلبون به مرضاته. وقوله تعالى: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) ذكر نفسه ورسوله، ثم أضاف الرضا إلى رسوله بقوله: (أحق أن يرضوه) ولم يقل: أحق أن يرضوهما، فهو، والله أعلم، لأنهم إذا أرضوا رسوله رضي الله عنهم، كان في إرضائهم رسوله إرضاء الله؛ وهو ما ذكر أنهم دعوا إلى الله ورسوله. ثم أضاف الحكم إلى رسوله لأنهم إنما دعوا أن يحكم الرسول بينهم...
(وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) لأن الخلاف والخيانة كان في حق الله وفي حق رسوله، لم يكن في حق المؤمنين. لذلك قال: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) من المؤمنين...
قوله تعالى: {وَالله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}. قيل إنه إنما رد ضمير الواحد في قوله: {يرضوه}؛ لأن رضا الله ينتظم رضا الرسول؛ إذْ كل ما رضي اللهُ فقد رضيه لرسوله، فترك ذكر ضمير الرسول لدلالة الحال عليه. وقيل: إن اسم الله تعالى لا يُجمع مع اسم غيره في الكناية تعظيماً بإفراد الذكر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أخبر أنَّ من تزيَّن للخَلْق، وتقرَّب إليهم وأَدامَ رضاهم، واتَّبَعَ في ذلك هواهم، فإن اللهَ سبحانه يُسْقِط به عن الخَلْق جاهَهُم، ويشِينُهم فيما توهَمُّوا أنه يزينهم، والذي لا يَضِيعُ ما كان لله، فأمَّا ما كان لغير الله فَوَبَالٌ لِمَنْ أصابه، ومُحالٌ ما طَلَبَه. ويقال إنَّ الخَلْق لا يصدقونك وإنْ حَلَفْت لهم، والحقُّ يَقْبَلُكَ وإِنْ تخَلَّفْتَ عنه؛ فالاشتغالُ بالخلْقِ محنةٌ أنت غيرُ مأجورٍ عليها، والإقبالُ على الحقِّ نعمةٌ أنت مشكورٌ عليها. والمغبونُ مَنْ تَرَكَ ما يُشْكَرُ عليه ويُؤثِر ما لا يؤجرُ عليه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} الخطاب للمسلمين وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن أو يتخلفون عن الجهاد، ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالحلف ليعذروهم ويرضوا عنهم، فقيل لهم: إن كنتم مؤمنين كما تزعمون فأحق من أرضيتم الله ورسوله بالطاعة والوفاق. وإنما وحد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانا في حكم مرضيّ واحد... أو والله أحقّ أن يرضوه، ورسوله كذلك...
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين وهو إقدامهم على اليمين الكاذبة. قيل: هذا بناء على ما تقدم، يعني يؤذون النبي ويسيؤون القول فيه ثم يحلفون لكم. وقيل: نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتوه واعتذروا وحلفوا، ففيهم نزلت الآية، والمعنى: أنهم حلفوا على أنهم ما قالوا ما حكي عنهم، ليرضوا المؤمنين بيمينهم، وكان من الواجب أن يرضوا الله بالإخلاص والتوبة، لا بإظهار ما يستسرون خلافه، ونظيره قوله: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا}. وأما قوله: {يرضوه} بعد تقدم ذكر الله وذكر الرسول ففيه وجوه:
الأول: أنه تعالى لا يذكر مع غيره بالذكر المجمل، بل يجب أن يفرد بالذكر تعظيما له.
والثاني: أن المقصود بجميع الطاعات والعبادات هو الله، فاقتصر على ذكره. الثالث: يجوز أن يكون المراد يرضوهما فاكتفى بذكر الواحد...
والرابع: أن العالم بالأسرار والضمائر هو الله تعالى، وإخلاص القلب لا يعلمه إلا الله، فلهذا السبب خص تعالى نفسه بالذكر.
الخامس: لما وجب أن يكون رضا الرسول مطابقا لرضا الله تعالى وامتنع حصول المخالفة بينهما وقع الاكتفاء بذكر أحدهما...
السادس: التقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك.
وقوله: {إن كانوا مؤمنين} فيه قولان:
الأول: إن كانوا مؤمنين على ما ادعوا.
والثاني: أنهم كانوا عالمين بصحة دين الرسول إلا أنهم أصروا على الكفر حسدا وعنادا، فلهذا المعنى قال تعالى: {إن كانوا مؤمنين}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم علل ذلك باستهانتهم بالله ورسوله، وأخبر أنهم يخشون على دمائهم فيصلحون ظواهرهم حفظاً لها بالأيْمان الكاذبة فقال: {يحلفون بالله} أي الذي له تمام العظمة {لكم} أي أنهم ما آذوا النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً ولا أولادكم بالمخالفة عموماً؛ وبين غاية مرادهم بقوله: {ليرضوكم}. ولما كان الرسول عليه الصلاة والسلام ليس بأذن بالمعنى الذي أرادوه، بين أنه لم يكن راضياً بإيمانهم لعدم وقوع صدقتهم في قلبه ولكنه أظهر تصديقهم لما تقدم من الإصلاح فقال: {والله} أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه {ورسوله} أي الذي هو أعلى خلقه، وبلغ النهاية في تعظيمه بتوحيد الضمير الدال على وحدة الراضي لأن كل ما يرضي أحدهما يرضي الآخر فقال: {أحق أن} أي بأن {يرضوه} ولما كان مناط الإرضاء الطاعة ومدار الطاعة الإيمان، قال معبراً بالوصف لأنه مجزأه: {إن كانوا مؤمنين*} أي فهم يعلمون أنه أحق بالإرضاء فيجتهدون فيه، وذلك إشارة إلى أنهم إن جددوا إرضاءه كل وقت كان دليلاً على إيمانهم، وإن خالفوه كان قاطعاً على كفرانهم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
...قوله تعالى: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} خطاب للمؤمنين في بعض شؤون هؤلاء المنافقين معهم في غزوة تبوك، أخبرهم بأنهم شعروا بما لم يكونوا يشعرون من ظهور نفاقهم فكثر اعتذارهم وحلفهم للمؤمنين في كل ما يعلمون أنهم متهمون به من قول وعمل، ليرضوهم فيطمئنوا لهم، فتنتفي داعية إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بما ينكرون منهم، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} أي والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، فإن المؤمنين قد يصدقونهم فيما يحلفون عليه إذا لم يكن كذبهم فيه ظاهراً معلوماً باليقين، ولكن الله لا يخفى عليه شيء، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو يوحي إلى رسوله من أمور الغيب ما فيه المصلحة.
وكان الظاهر أن يقال: (يرضوهما)، ونكتة العدول عنه إلى (يرضوه) الإعلام بأن إرضاء رسوله من حيث إنه رسوله عين إرضائه تعالى، لأنه إرضاء له في اتباع ما أرسله به، وهذا من بلاغة القرآن في الإيجاز...
وقوله: {إن كانوا مؤمنين} تذييل لبيان أن ما قبله هو مقتضى الإيمان الصحيح الذي لا ينجي في الآخرة غيره، أي إن كانوا مؤمنين كما يدعون ويحلفون فليرضوا الله تعالى ورسوله، وإلا كانوا كاذبين، وفي الآية عبرة للمنافقين في زماننا ككل زمان، وعبرة بحالهم لمن يراهم يكذبون ويحلفون عند الحاجة إلى تأكيد أخبارهم فيما لا يرضي الله تعالى؛ بل فيما يحاولون به إرضاء الناس ولا سيما الملوك والأمراء والوزراء الذين يتقربون إليهم فيما لا يرضي الله تعالى بل فيما يسخطه من المقاصد، التي يتوسلون إليها بأخس الوسائل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عدل عن أسلوب الحكاية عنهم بكلمة ومنهم، لأنّ ما حكي هنا حال من أحوال جميعهم. فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً، لإعلام الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأنّ المنافقين يحلفون الأيمَان الكاذبة، فلا تغرّهم أيمانهم، فضمير يحلفون عائد إلى الذين يؤذون النبي. والمراد: الحلف الكاذب، بقرينة قوله: {والله ورسوله أحق أن يرضوه}، أي بتركهم الأمور التي حلفوا لأجلها، على أنّه قد عُلِم أنّ أيمانهم كاذبة ممّا تقدّم في قوله: {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون} [التوبة: 42]. فكاف الخطاب للمسلمين، وذلك يدلّ على أنّ المنافقين يحلفون على التبرّئ، ممّا يبلغ المسلمين من أقوالهم المؤذية للرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك يغيظ المسلمين وينكرهم عليهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يغضي عن ذلك، فلذلك قال الله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} أي أحقّ منكم بأن يرضوهما، وسيأتي تعليل أحقّيّة الله ورسوله بأن يرضوهما في الآية التي بعدها فإرضاء الله بالإيمان به وبرسوله وتعظيمِ رسوله، وإرضاءُ الرسول بتصديقه ومحبّته وإكرامه.
وإنّما أفرد الضمير في قوله: {أن يرضوه} مع أنّ المعاد اثنان لأنّه أريد عود الضمير إلى أول الاسمين، واعتبار العطف من عطف الجمل بتقدير: واللَّهُ أحقّ أن يرضوه ورسولُه كذلك، فيكون الكلام جملتين ثانيتهما كالاحتراس وحذفُ الخبر إيجاز. ومن نكتة ذلك الإشارة إلى التفرقة بين الإرضاءين..
. والضمير المنصوب في {يرضوه} عائد إلى اسم الجلالة، لأنّه الأهمّ في الخبر، ولذلك ابتدئ به... وشرط {إن كانوا مؤمنين}، مستعمل للحثّ والتوقّع لإيمانهم، لأنّ ما حكي عنهم من الأحوال لا يبقى معه احتمال في إيمانهم، فاستعمل الشرط للتّوقع وللحثّ على الإيمان. وفيه أيضاً تسجيل عليهم، إن أعادوا مثل صنيعهم، بأنّهم كافرون باللَّه ورسوله، وفيه تعليم للمؤمنين وتحذير من غضب الله ورسوله...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن هؤلاء المنافقين حاولوا الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأيدوا كذبهم بأيمان غموس غير صادقة، وحسبوا أن ذلك يخدع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وظنوا أنهم قادرون على ذلك بأيمانهم لأنه أذن، وقد بين سبحانه وتعالى فساد زعمهم في الآية السابقة، وفي هذه الآية حاولوا أن يخدعوا المؤمنين بأيمانهم الكاذبة؛ لأنهم يعيشون في أوساطهم ويساكنونهم ويجاورونهم فحالوا أن ينفوا عنهم نفاقهم بالأداة التي يملكونها ويملكها كل فاجر كافر فأخذوا يحلفون، وقال الله تعالى في ذلك: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}، لقد تخلفوا عن الجهاد في وقت النفير إلى بني الأصفر المتكاثف عددهم، فكانوا بذلك جبناء، وكانوا كاذبين في ادعائهم الكاذب، وثبت بدليل قاطع نفاقهم، والمنافق في وسط عربي صريح يعلن القوة، ولا يتقبل المعاذر – مشنوء مهين، فكانوا يحاولون تبرئة أنفسهم بالأيمان، وقوله {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ}، التعبير بالمضارع لأنهم يحلفون في الحال لا في الماضي وفيه إشارة إلى أن الحلف شأنهم وهو متجدد، وكلما كذبوا حلفوا، وكلما تخلفوا بأعذار غير صادقة حلفوا، فالحلف دينهم. وقوله تعالى: {لكم} إشارة إلى أن من معهم من العشراء والجيران من المؤمنين هم المقصودون، وقد صرح سبحانه وتعالى بذلك فقال: {ليرضوكم} أي أن الباعث لهم على هذا الحلف الكذب إرضاؤكم، وإزالة الوحشة بينكم وبينهم، وزوال النفرة التي تحسونها منهم. وإن هذا الإرضاء مع أنهم يطلبونه يريدونه لغاية في أنفسهم؛ لأن دوام النفرة منهم يمنعهم من الثقة فيهم، وذلك لا يمكنهم من الدس الخسيس فيهم إذ لا يثقون فيهم، والدس يحتاج إلى الثقة ممن يدسون لهم، ويلقون بالفتنة فيهم، وقد بين سبحانه وتعالى الغش في محاولة الإرضاء، فقال تعالى: {وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}، أي أن العيب فيكم ليس في اعتذار أو تخلف أو كذب، إنما العيب الأصيل هو النفاق، فالنفاق هو الذي جعلكم تتخلفون عن الجهاد، وهو الذي جعلكم تعتذرون عنه بأعذار مكذوبة، وهو الذي جعلكم تحلفون ممتهنين الأيمان المغلظة. فهم حاولوا إرضاء المؤمنين ولم يحاولوا إرضاء الله ورسوله لأنهم يعلمون أن ذلك غير ممكن، ولذا قال تعالى فيما تلونا {وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ}، أي لو كانوا مؤمنين ولا يريدون التخلف، وإن تخلفوا فبأعذار صادقة – لآمنوا أن الله ورسوله أحق بالإرضاء، وإرضاء الله ورسوله ليس بالأيمان الكاذبة، إنما هو بأن يخلعوا أنفسهم من النفاق، ويؤمنوا بالله ورسوله حق الإيمان. وفي قوله تعالى: {وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ}، إشارة بيانية، وهي أن الله تعالى ورسوله ذكر أنهما أحق بالإرضاء، ولكنه عند عود الضمير أعاده مفردا {يُرْضُوهُ}، وذلك للإشارة إلى أن إرضاء أحدهما إرضاء لهما، فإرضاء الله تعالى إرضاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإرضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرضاء لله تعالى، كما قال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء 80)، وفي ذلك إشارة إلى أن الذين يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إنما يتهجمون على مقام الألوهية ويتحدون الله ورسوله، ولقد قال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}.
ومن العجيب أن سورة التوبة فيها أكبر عدد من لفظ "يحلفون"، ولم ترد مادة "يحلف "في سورة المائدة إلا مرة واحدة، وفي سورة النساء مرة، وفي سورة المجادلة ثلاث مرات، أما في سورة التوبة فقد جاءت سبع مرات، وفي سورة القلم جاءت "حلاف"، حتى إن سورة التوبة سميت "سورة يحلف، لأن فيها أكبر عدد من {يحلفون} في القرآن الكريم. ويقول الحق سبحانه: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} وفي هذا إصرار من المنافقين على الحلف، كذبا، وهو ما يوضح غباءهم وعدم فطنتهم. وأيضا يقول الحق. {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم...} (التوبة 95).
واستخدام الحق سبحانه وتعالى حرف السين معناه أنهم لم يحلفوا بعد، ولكنهم سيحلفون بعد فترة، أي في المستقبل، أي: أن الآية الكريمة نزلت ولم يحلفوا بعد، إنما هم سيحلفون بعد نزول الآية الكريمة، ولو كان عندهم ذرة من ذكاء ما حلفوا، ولقالوا: إن القرآن قال سنحلف ولكننا لم نحلف. ولكنهم ورغم نزول الآية جاءوا مصدقين للقرآن مثبتين للإيمان وحلفوا. وكلمة" حلف "هي القسم أو اليمين. وحين نتمعن في القرآن نجد أن الحلف لا يطلق إلا على اليمين الكاذبة، أما القسم فإنه يطلق على اليمين الصادقة واليمين الكاذبة... والحق سبحانه وتعالى يقول: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم} أي: أن هدف الحلف كذبا هو إرضاء المؤمنين حتى يطمئنوا للمنافقين ولا يتوقعوا منهم الشر، ثم يأتي الحق سبحانه وتعالى بالحقيقة: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} إذن: فهم يحلفون لترضوا فهم يحلفون لترضوا أنتم عنهم، أما المؤمن الحق فهو لا يقسم إلا ليرضى الله، لأن الإنسان قد يخدع البشر، وقد يفلت من عدالة الأرض، ولكنك لا تخدع الله ولا تفلت من عدالته أبدا. ومن مهام الإيمان أن الإنسان يرعى الله في كل معاملة له مع البشر، ويبتغي رضاه ويخاف من غضبه، وذلك هو المؤمن الحق. وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى قال: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} وكان القياس اللغوي على حسب كلام البشر أن يقول: والله ورسوله أحق أن ترضوهما. وشاء الحق أن يأتي بها {والله ورسوله أحق أن يرضوه} لأن رضا الله ورضا رسوله هو رضا واحد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي بالقرآن من عنده، ولكنه وحي من عند الله. وإرضاء الرسول هو اتباع النهج الذي فيه رضا الله. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله...} (آل عمران 31) ويقول سبحانه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (آل عمران 31) ويقول سبحانه: {من يطع الرسول فقد أطاع الله} (النساء 80) إذن: فلا توجد طاعة لله وطاعة للرسول، ولا رضا لله ورضا للرسول، لأن الرضا منهما رضا واحد. إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: {والله ورسوله أحق أن يرضوه} دليل على اتحاد الرضا من الله ومن رسوله، فما يرضي الله يرضي الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يغضب الله يغضب الرسول. أو: أن الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نتأدب مع ذاته، في أنه إذا اجتمع أمران لله ولرسوله لا نجعل أحدا مع الله، وإنما نجعله له سبحانه وهو الواحد...
وقول الحق سبحانه: {إن كانوا مؤمنين} أي: إن كان إيمانهم حقيقة، وليس نفاقا. إذن: فنحن لا نطلب الرضا من خلق الله، ولكن نطلبه من الله. ورضا الله سبحانه وتعالى ورضا المبلغ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم رضا واحد ولذلك وحد الضمير {والله ورسوله أحق أن يرضوه} ولم يقل يرضوهما.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِن إِحدى علامات المنافقين وأعمالهم القبيحة والتي أشار إِليها القرآن مراراً هي إنكارهم الأعمال القبيحة والمخالفة للدين والعرف، وهم إنّما ينكرونها من أجل التغطية على واقعهم السيئ وإِخفاء الصورة الحقيقية لهم، ولما كان المجتمع يعرفهم ويعرف كذبهم في هذا الإنكار فقد كانوا يلجؤون إِلى الأيمان الكاذبة من أجل مخادعة الناس وإِرضائهم.
وفي الآيات السابقة الذكر نرى أنّ القرآن المجيد يكشف الستار عن هذا العمل القبيح ليفضح هؤلاء من جهة، ويحذّر المسلمين من تصديق الايمان الكاذبة من جهة أُخرى.
في البداية يخاطب القرآن الكريم المسلمين وينبههم إِلى أنّ هدف هؤلاء من القَسَم هو إِرضاؤكم (يحلفون بالله ليرضوكم)، ومن الواضح إِذن أن هدف هؤلاء من هذه الأيمان لم يكن بيان الحقيقة، بل إِنّهم يسعون عن طريق المكر والخديعة إِلى أن يصوروا لكم الأشياء والواقع على غير صورته الحقيقة، ويصلون عن هذا الطريق إلى مقاصدهم، وإلاّ فلو كان هدفهم هو إرضاء المؤمنين الحقيقيين عنهم، فإنّ إِرضاء الله ورسوله أهم من إِرضاء المؤمنين، غير أنا نرى أنّهم بأعمالهم هذه قد أسخطوا الله ورسوله، ولذا عقبت الآية فقالت: (والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين).
ممّا يلفت النظر أن الجملة المذكورة لما كانت تتحدث عن الله ورسوله، فعلى القاعدة النحوية ينبغي أن يكون الضمير في «يرضوه» ضمير التثنية غير أن المستعمل هنا هو ضمير المفرد، وهذا الاستعمال والتعبير يشير إِلى أن رضا النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من رضا الله. بل أنّه لا يرتضي من الأعمال إلاّ ما يرتضيه الله سبحانه، وبعبارة أُخرى: فإنّ هذا التعبير يشير إِلى حقيقة (توحيد الأفعال)، لأنّ النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يملك استقلالية العمل في مقابل الله، بل إن غضبه ورضاه وكل أعماله تنتهي إِلى الله، فكل شيء من أجل الله وفي سبيله...