وهنا يتمثل الخيال تلك العذراء الطيبة البريئة ذات التربية الصالحة ، التي نشأت في وسط صالح ، وكفلها زكريا ، بعد أن نذرت لله جنينا . . وهذه هي الهزة الأولى .
( قال : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا ) . . وليتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل .
وهذا الرجل السوي - الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها - فقد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها - يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول ، وهو أنه يريد أن يهب لها غلاما ، وهما في خلوة - وهذه هي الهزة الثانية .
{ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ } أي : فقال لها الملك مجيبًا لها ومزيلا ما{[18735]} حصل عندها من الخوف على نفسها : لست مما تظنين ، ولكني رسول ربك ، أي : بعثني إليك ، ويقال : إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا{[18736]} وعاد إلى هيئته وقال : " إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلامًا زكيا " .
[ هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء . وقرأ الآخرون : { لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا } ]{[18737]} وكلا القراءتين له وجه حسن ، ومعنى صحيح ، وكل تستلزم{[18738]} الأخرى .
القصر في قوله : { إنَّما أنا رسولُ ربّكِ } قصر إضافي ، أي لستُ بشراً ، رداً على قولها : { إن كنت تقياً } المقتضي اعتقادها أنه بشر .
وقرأ الجمهور { لأَهَبَ } بهمزة المتكلم بعد لام العلّة . ومعنى إسناد الهبة إلى نفسه مجاز عقلي لأنه سبب هذه الهبة . وقرأه أبو عمرو ، وورش عن نافع { ليهب } بياء الغائب ، أي ليهب ربّك لك ، مع أنها مكتوبة في المصحف بألف . وعندي أن قراءة هؤلاء بالياء بعد اللام إنما هي نطق الهمزة المخففة بعد كسر اللام بصورة نطق الياء .
ومحاورتها الملك محاولة قصدت بها صرفه عما جاء لأجله ، لأنها علمت أنّه مرسل من الله فأرادت مراجعة ربّها في أمر لم تطقه ، كما راجعه إبراهيم عليه السلام في قوم لوط ، وكما راجعه محمد عليه الصلاة والسلام في فرض خمسين صلاة . ومعنى المحاورة أن ذلك يجر لها ضرّاً عظيماً إذ هي مخطوبة لرجل ولم يَبْننِ بها فكيف يتلقى الناس منها الإتيان بولد من غير أب معروف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فقال لها روحنا: إنما أنا رسول ربك يا مريم أرسلني إليك "لأهَبَ لكِ غُلاما زكيا"...
والغلام الزكيّ: هو الطاهر من الذنوب...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{غُلاَماً زَكِيّاً} صالحاً تقياً...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" إنما أنا رسول ربك "أرسلني الله لأبشرك بأنه يهب "لك غلاما "ذكرا" زكيا "طاهرا من الذنوب. وقيل: ناميا في أفعال الخير.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تعرَّف جبريلُ إليها بما سكَّن رَوْعَها، وقَرَنَ مقالته بالتبشير لها بعيسى عليه السلام.
لما علم جبريل خوفها قال: {إنما أنا رسول ربك} ليزول عنها ذلك الخوف ولكن الخوف لا يزول بمجرد هذا القول بل لا بد من دلالة تدل على أنه جبريل عليه السلام وما كان من الناس...
الزكي يفيد أمورا ثلاثة: الأول: أنه الطاهر من الذنوب. والثاني: أنه ينمو على التزكية لأنه يقال فيمن لا ذنب له زكي، وفي الزرع النامي زكي. والثالث: النزاهة والطهارة فيما يجب أن يكون عليه ليصح أن يبعث نبيا..
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{قال} أي جبريل عليه السلام {إنما أنا رسول ربك} الناظر في مصلحتك والمالك لأمرك، وهو الذي استعذت به، وقوله لها ذلك تطمين لها، وإني لست ممن تظن به ريبة، أرسلني إليك ليهب... وفسرت الزكاة هنا بالصلاح وبالنبوة وتعجبت مريم وعلمت بما ألقي في روعها أنه من عند الله.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال} جبرئيل عليه السلام مجيباً لها بما معناه: إني لست ممن تخشين أن يكون متهماً، مؤكداً لأجل استعاذتها، {إنما أنا رسول ربك} أي الذي عذت به أي فأنا لست متهماً، متصف بما ذكرت وزيادة الرسلية، وعبر باسم الرب المقتضي للإحسان لطفاً بها، ولأن هذه السورة مصدرة بالرحمة، ومن أعظم مقاصدها تعداد النعم على خلص عباده {لأهب} بأمره أو ليهب هو على القراءة الأخرى {لك} وقدم المتعلق تشويقاً إلى المفعول ليكون أوقع في النفس؛ ثم بينه معبراً بما هو أكثر خيراً وأقعد في باب البشرى وأنسب لمقصود السورة مع أنه لا ينافي ما ذكر في آل عمران بقوله: {غلاماً} أي ولداً ذكراً في غاية القوة والرجولية {زكياً} طاهراً من كل ما يدنس البشر: نامياً على الخير والبركة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ْ} وهذه بشارة عظيمة بالولد وزكائه، فإن الزكاء يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة، واتصافه بالخصال الحميدة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يتمثل الخيال تلك العذراء الطيبة البريئة ذات التربية الصالحة، التي نشأت في وسط صالح، وكفلها زكريا، بعد أن نذرت لله جنينا.. وهذه هي الهزة الأولى. (قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا).. وليتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل. وهذا الرجل السوي -الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها- فقد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها -يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول، وهو أنه يريد أن يهب لها غلاما، وهما في خلوة- وهذه هي الهزة الثانية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
القصر في قوله: {إنَّما أنا رسولُ ربّكِ} قصر إضافي، أي لستُ بشراً، رداً على قولها: {إن كنت تقياً} المقتضي اعتقادها أنه بشر. ومحاورتها الملك محاولة قصدت بها صرفه عما جاء لأجله، لأنها علمت أنّه مرسل من الله فأرادت مراجعة ربّها في أمر لم تطقه، كما راجعه إبراهيم عليه السلام في قوم لوط، وكما راجعه محمد عليه الصلاة والسلام في فرض خمسين صلاة. ومعنى المحاورة أن ذلك يجر لها ضرّاً عظيماً إذ هي مخطوبة لرجل ولم يَبْن بها فكيف يتلقى الناس منها الإتيان بولد من غير أب معروف...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{إنما} أداة حصر، أي لست إلا رسول ربك، أي أنا مرسل من ربك الذي خلقك ويعلم حالك وطهارتك، وأنه اصطفاك من نساء العالمين، لتكوني موضع معجزته الكبيرة وهي خلق إنسان من غير أب، وقوله: {لأهب لك} اللام متعلقة برسول أي رسالتي لأهب لك، لأكون أداة هبة لله لك، أو طريق هبة الله لك، فليس هو الذي يهب إنما يهب الله تعالى، وهذا معنى القراءة الأخرى (ليهب لك) بإسناد الهبة لله تعالى مباشرة، وعلى كلتا القراءتين الهبة من الله تعالى العزيز الوهاب، والرسالة في قراءة (ليهب لك) موضوعها الرسالة وحدها. وقوله تعالى: {غلاما زكيا}، أي غلاما طاهرا ناميا في جسمه ونفسه وروحه، وكل ما يتصل بالنمو الإنساني الكامل.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد كانت مريم تنتظر رد فعل ذلك الشخص المجهول بعد أن تفوهت بهذه الكلمات انتظاراً مشوباً بالاضطراب والقلق الشديد، إِلاّ أنّ هذه الحالة لم تطل، فقد كلمها ذلك الشخص، ووضّح مهمته ورسالته العظيمة (قال إِنّي رسول ربّك). لقد كانت هذه الجملة كالماء الذي يلقى على النار، فقد طمأنت قلب مريم الطاهر، إِلاَّ أنَّ هذا الاطمئنان لم يدم طويلا؛ لأنّه أضاف مباشرة (لأهب لك غلاماً زكياً)...